لينين الرملي مسرحيًا

 لينين الرملي مسرحيًا
        

إنه واحد من أشهر كتّاب المسرح الكوميدي في مصر، وأغزرهم إنتاجًا، وأكثرهم إثارة للجدل. فقد طرح في مسرحه وكتاباته السينمائية ومسلسلاته التلفزيونية أهم قضايا الحداثة العربية، والطرق المسدودة التي واجهتها.

          يقفز لينين الرملي عبر العصور ليعود في مسرحيته «أهلا يابكوات» إلى زمن الحملة الفرنسية على مصر في ظل الحكم العثماني لها، ويعالج قضية تحرير المرأة، ودور الدين والفن وثقل الماضي على الأحياء، والحرية المنشودة باحثًا دائمًا وأبدًا عن معنى وعن هوية تتجاوز الثنائيات، التي يحفل بها عالمه، تطلعًا إلى تناغم لا يحدث أبدًا، فالانقسام والتوتر العنيف سمة أصيلة في ظل التفاهة المفرطة، والمعارك الصغيرة، والتهديد، والعنف المكتوم، والترقب والحيرة وتوقع الكارثة، إنه عالم يقف على أظفاره، ويفجر مع الضحكات أسئلة كبرى.

          وليس «لينين الرملي» مجرد كاتب مسرحي، ولكنه رجل مسرح بكل معنى الكلمة، وهب نفسه له ودخل كل سراديبه، وتعامل مع أقدم التقنيات وأحدثها، وخلق لنفسه لغة مسرح شعرية فريدة في عمقها، ذات إيقاع لاهث مقطوع، وجمع بين خفة التسلية العابرة وعمق المعنى وقوة المجاز، وقرر أن يدخل إلى المسرح التجاري الذي طالما تخوّف النقاد الجادون من دواماته، التي يمكن أن تغرقه في الترفيه الاستهلاكي السريع، وأنشأ ستوديو الممثل مع محمد صبحي وهو واحد من ألمع الممثلين الكوميديين دون أن يقدما تنازلات للنزعات التجارية الاستهلاكية، وظل هو لزمن طويل كاتب الفرقة المقيم، الذي فرض شروطه هو دون أن يستجيب لشروط السوق.

          توصل كاتبنا في كل عرض جديد له إلى ابتكارات مدهشة، داخلاً بقوة إلى عالم اللامعقول والتجريب مستفيدًا من المسرح العالمي دون أن يخسر فرادته وأصالته، أخذ ينهل من تراث الحكي والسير الشعبية والأساطير الكبرى، ولم يلزم نفسه أبدًا بقالب واحد يشل قدرته على الحركة أو يدافع به إلى التكرار، لذلك جاءت كل مسرحية من مسرحياته مختلفة من حيث شكلها وقضاياها عن كل ما سبقها بالرغم من غزارة إنتاجه، وهو يفعل ذلك بسلاسة وبقدرة نحات مفتون بثراء خامته، التي تغري بتنوع التشكيل مع خيال طليق وروح فنانة مشدودة إلى رسالتها، وبحثها الدائب عن حقيقتها وتوقها لتجاوز الانقسام الذاتي.

ابتداع الأشكال

          ظل ابتداع الأشكال هو لعبته، والشكل دائمًا ما يترجم الرسالة سواء بالانتقال من الحاضر إلى الماضي الذي يفرض هيمنته في «أهلا يا بكوات»، أو القفز إلى المستقبل لاستكشاف آفاقه، حيث يتم التقابل بين الأزمنة بصورة فانتازية في «وداعًا يا بكوات» أو تقاطع الصور المسرحية والانتقالات السريعة من حالة لأخرى، في إيقاع متوتر لاهث في «بالعربي الفصيح»، التي سخر فيها بمرارة من حال التمزق العربي، والغرق في التفاهة والصغار مفصحًا عن تأثير تشيكوفي خفي، ومستخدمًا آلية المسرحي الروسي الكبير حين تتحدث الشخصيات إلى نفسها دون أن ترد على بعضها بعضًا، علامة على العجز عن التواصل والشعور بالغربة. ويتكرر الجنون في عدد من أعماله علامة رمزية على الانفصام، كما حدث في «عفريت لكل مواطن»، وما أصاب البطل «سعدون المجنون» لما انهارت أحلامه الثورية بعد هزيمة يونيو 1967 حين انتصرت إسرائيل على ثلاثة جيوش عربية، واحتلت الأراضي، وحين يخرج من المستشفى بعد ربع قرن، وقد تغير العالم ينكره «سعدون» وتحدث المقابلة بين العالمين، فينفجران معًا.

          وظل تغير المشهد في عالمه حاملاً دائمًا لمعنى جديد مع تحجيم الكلام، والوقوف على حدود الفواصل بين الحركة الظاهرة والحركة الخفية، فلطالما كان التناقض بين المظهر والمخبر، القول والفعل محرّكًا قويًا لهذا العالم مع اهتمام بالغ بالتفاصيل الدقيقة.

          يقول المؤلف: «القلم يتوقف عند كل تفصيلة.. مهما صغرت، جملة إكسسوار، زي معين، لحظة صمت، طريقة دخول شخصية، أو خروجها...إلخ، ويسأل نفسه كل مرة عشرات الأسئلة التي تبدأ بـ «هل لهذا أو ذاك معنى ما؟ وما هو على وجه الدقة».

          وما من معنى يتكرر إذ نجد أنفسنا بصدد خروج على المنطق المألوف في الحياة. والقلب المنظم للمواضعات علامة على عدم الرضا: «سيبك من المألوف وابحث عن وجه العجب»، فثمة تركيب لأشياء لم نعتدها معًا، ولا ندري من أين جاءت مثل «الشيء» الذي وجده الفلاحون في قريتهم، وعجزوا عن تسميته، ولأن الخوف من المعرفة يكبّلهم، أخذوا يردمون الأرض حتى يختفي «الشيء»، هناك شبكة تعسفية عبثية من المفاجآت يصبح فيها ما كان مستحيلاً ممكنًا، ويجد الرجل نفسه في «العار» وفي بطنه جنين والبطل هو نفسه ونقيضه في «عفريت لكل مواطن» أي قرينه القادم من التراث الشعبي، ومفارقة بروز المعقول لا معقولا «حلمت أني ماشي على رجليّ»، واستخدام الأوصاف والجمل الحوارية القصيرة جدًا والدالة وهو ما يغري بإجراء دراسة شاملة عن الإيقاع في عالمه والذي يتميز لا بالسرعة وحدها، وإنما بقدرة كبيرة أيضًا على إنتاج الدلالة. ففي «وجهة نظر»، وإذ تدور الأحداث في مؤسسة خيرية للعميان وتجري مقابلة دائمة بين الظلام والنور. وحيث الظلام نور والنور ظلام، يقوم أحد الإداريين بتسليم «التموين بتاع الشعب» في إحالة رمزية مكثفة لحالة الغياب والتهميش التي تتعرض لها الجماهير التي يبرز من أوساطها الإنسان الصغير فاقد الحيلة في مقابلة بينه وبين صرصار، وحيث نجد أن الأكل من القمامة في كأنك يابوزيد «كأنه شيء طبيعي تمامًا يحدث ولا يثير أي غضب بل يفجر الضحك».

الصراع الحضاري

          يدور الصراع بين حضارة الغرب والتي تنهض على التقدم المادي وحضارة الشرق القدرية الروحانية وهي فكرة قديمة في الاستشراق الأوربي تردد صداها كثيرًا في الثقافة العربية الإسلامية. ويضيف لينين الرملي أبعادًا جديدة لها إذ يدور الصراع بين التقدم والتخلف بين الغنى والفقر بين المدينة والريف مصعدًا الثنائية التي سقط فيها الاستشراق القديم واصلاً إلى تجاوزها عبر مركب جدلي في شخصية «نادر» في أهلا يابكوات الذي يتبنى قيم الحداثة والديمقراطية والعقلانية والتنوير، ويستخدم أدوات التقدم والمدنية الغربية رافضًا النظرة الخارجية الاستهلاكية الفارغة من المضمون. ولكن التناقض في عالمه ليس بسيطًا بل إنه مركب حيث تتعدد وجوه الحقيقة ومراياها، ففي قلب الشخصية القادمة من عالم التأخر ثمة قيم ثاوية في الأعماق مثل التضامن والوفاء وكراهية الغدر ونجدة الضعيف تظهر في زمن الشدائد، وهو ما نسميه بفضائل الشعب، على الرغم من بؤسه وجهله، وعلى الرغم من أن «كل شيء ممكن ومحتمل إذا غاب الوعي»، ياويل الظالمين إذا استيقظ هذا الوعي الذي يكبله الاستبداد وحكم العسكر باسم التكيف وترويض المتمردين».

          إن مثل هذا الوعي يشكل خطرًا داهمًا على الأبوية والتسلط والاستغلال، ويدور في عالمه صراع بين تحرير الوعي وتقييده بين الرقابة المفروضة - حتى على الكتب التي يقرأها العميان - والشوق إلى المعرفة المتحررة من كل القيود، بل والرقابة الذاتية التي يفرضها حتى المتعلمون على عقولهم حيث تتسع قاعدة المحرم والممنوع ويحتدم الصراع بين الأصولية والرؤية العلمانية للعالم «لانقاش في الدين ولا في العرق ولا في السياسة» وواقع، الحال أن الكل مسجونون، «والسجان بيزهق أكثر من المسجون»، والاستعمار الداخلي أحيانًا ما يكون أقسى من الاستعمار الخارجي «ما فيش أمه يمكن أن تتقدم وهي بتكذب على روحها».

          ولو راهنت الإنسانية في المستقبل على العلم وحده فسوف تلتهم الآلة الإنسان ويجري إنتاج عبودية من نوع جديد في «وداعًا يا بكوات»، وهي نظرة متشائمة، على الرغم من أن الكرة الأرضية سوف تصبح وطنًا لكل البشر فلا دولة ولا أيديولوجية ولكنها ستفتقر للأشياء الحميمة وعليها أن تستعيدها. وشأنه شأن كبار مفكري النهضة والإحياء في العالم العربي، اختار «لينين الرملي» قضية تحرير المرأة محورًا رئيسيًا في الصراع الدرامي وهي ممزقة بين توقها للتحرر ورغبة الرجل في تملكها ثم قمعها لنفسها وخضوعها للثقافة التي تقرها كأنها تقع في عبودية مختارة، وسوف تبقى «الحادثة» واحدة من أجمل المسرحيات الكوميدية التي تعالج نضال المرأة العربية من أجل انعتاقها وهي استعارة فنية كبرى لحال واقعنا العربي المتدهور الذي يحتدم فيه الصراع من أجل تحرير المرأة كقضية مركزية.

          تتصارع القوة المعنوية والشجاعة والتكامل الأخلاقي والثقافة والرقي الإنساني بطريقة غير متكافئة، مع ضيق الأفق والأنانية المفرطة والسوقية والابتذال في واقع يجثم عليه الأموات، وغالبًا ما يكون الأخير هو الأقوى والمهيمن ولكن يبقى الإطار المخفي من المثل العليا المضمرة ساطعًا وملهمًا في حركة دائبة داخل الذات وخارجها بين عمقها التراثي الذي يكبلها بتقليديته والآخر بحضور الحداثي بعد أن تحرر من التقليد، وغالبًا ما يكونان شخصية واحدة يمزقها التوتر والازدواج.

          وقد نجد الإنسان في عالمه وهو يقف وحيدًا أمام مصيره، لكن دائما ما يكون هناك أفق ولو ضيّقا، وأمل ولو خافت في علاقة شعرية دائمة التشكل بين الصورة والكلمة والحركة الدائبة إذ إن كل شيء يتغير، ولا شيء يبقى على حاله، ويحدث ذلك كله في امتزاج بين الفكر والفرجة ويمسك المؤلف بجوهر اللحظة التاريخية التي يعيشها العرب مع الحداثة المجهضة التي تفجر السخرية من حيث لايتوقع المشاهد فيتفجر الضحك كالبكاء.

          حصل المسرحي المصري لينين الرملي على الجائزة الفرعية للمسرح لعام 2005 من مؤتمر الأمير كلاوس الهولندية.

ظَبْىَ الحِمَى باللّهِ ما ضَرَّكَا إذا رأينا في الكَرَى طَيفَكا
وما الذي تَخشاهُ لو أنّهم قالوا فُلانٌ قد غَدا عَبدَكا
قد حَرَّمُوا الرِّقَّ ولكنّهم ما حَرَّمُوا رِقَّ الهَوَى عِنْدَكَا


حافظ إبراهيم

 

فريدة النقاش  





 





حسين فهمي وعزت العلايلي في مشهد من مسرحية لينين الرملي «أهلا يا بكوات»





مشهد آخر من المسرحية نفسها «أهلا يا بكوات» التي أعاد المسرح القومي المصري عرضها بعد سنوات عدة من العرض الأول