حياة الناس غدًا

حياة الناس غدًا
        

          كل من يتابع إنجازات العالم المتقدم في مجال العلم والتكنولوجيا، وهي إنجازات متسارعة في اطراد، لا يملك إلا أن يسأل: ترى ما دلالة هذا التطور وما أثره في حياة الفرد والمجتمع والعالم؟ ولهذا يبدو عنوان الكتاب شائقًا ومثيرًا، بقدر ما هو عنوان واعد بالكشف عن إجابة شافية لمثل هذا التساؤل.

          الكتاب الذي نحن بصدده يحمل عنوان «الناس غدًا» ويقع في 256 صفحة، وصادر عن دار «بنجوين» البريطانية للنشر ضمن سلسلة العلم والطبيعة عام 2004 ومؤلفة الكتاب البارونة سوزان جرين فيلد أستاذة علم الأعصاب بجامعة أكسفورد، ومديرة المعهد الملكي في بريطانيا. وتتميز بكفاءة عالية كباحثة في علم الأعصاب. وأصدرت قبل ذلك عددًا من الكتب المهمة أثارت الانتباه وجعلت منها نجمة ساطعة في هذا المجال. نذكر من بين كتبها: «الحياة الخاصة للمخ» و«المخ البشري»، «جولة بصحبة مرشد»، ضمن سلسلة أعلام العلم، وكتاب «رحلة إلى مركز العقل».

المحتويات

          ويضم كتاب «الناس غدًا» عشرة فصول، الفصل الأول بعنوان: المستقبل: ما المشكلة؟ وتوضح فيه أن المشكلة الحقيقية ليست ما هي التطورات العلمية والتكنولوجية في سرعتها المذهلة، بل ما مدى تأثيرها، وما سوف تحدثه من تغير في القيم والثقافات، وفي نظرتنا إلى العالم وانقسام الناس إلى فريق محب، وآخر خائف، وثالث ساخر هازئ بالعلم والتكنولوجيا. ويتناول الفصل الثاني أسلوب الحياة، وما الذي سنراه واقعًا حياتيًا نعايشه، والثالث عن الروبوتات: وكيف سنفكر في أجسادنا؟ والرابع عن العمل: وكيف سنقضي وقتنا؟ والخامس عن التكاثر: وكيف سنرى الحياة؟ والسادس عن التعليم: وما الذي سنحتاج إلى تعلمه؟ والسابع عن العلم: وما الأسئلة التي سنسألها؟ والثامن عن الإرهاب: وهل سنظل نستمتع بحرية الإرادة؟ والتاسع عن الطبيعة البشرية: وكيف ستكون طبيعة مفعمة حيوية ونشاطًا؟ والفصل العاشر والأخير بعنوان: المستقبل: ترى ما هي الخيارات أمامنا؟».

الإطار العام

          وهكذا تعرض المؤلفة رؤيتها داخل إطار حياتي إنساني واسع ابتداء من الحياة الشخصية والمنزلية، وحتى قضايا الإرهاب والأبحاث بالحمض النووي الـ«دنا» وآثارها على الفرد والمجتمع والأبحاث المتعلقة بالعالم السيبيرني عالم التفاعل والتعامل عبر الشبكة الإلكترونية. ونوضح أن ردود أفعال الناس إزاء هذه التحولات سوف تتباين بشدة بين إقبال وصدود أو إحباط وتثبيط للهمم. ونجد المؤلفة بحكم أنها عالمة أعصاب تتخذ المخ والتأثيرات العصبية محورًا ومجلى للكشف عن التأثيرات المستقبلية المتوقعة. إن ما ينتظر البشرية خلال القرن 21 يفوق الخيال إلى حد الاستفزاز. وليس الأمر تخييلاً أو ضربًا من الفانتازيا مقطوعة الصلة بالواقع على نحو ما عرفنا في قصص الجان مثلاً، ولكنه خيال مبني على أساس ما تحقق من إنجازات علمية وتكنولوجية وإمكانات واعدة خيرًا وشرًا، يعدنا بها التقدم المطرد في تواتره السريع.

          ولهذا رأت مؤلفة الكتاب، التي تعيش بوجدانها وعقلها واقع الحياة العلمية، أن أفضل أسلوب للحديث عن الغد وعن حياة الناس في ظل إنجازات العلم والتكنولوجيا هو كتابة رواية من نوع أدب الخيال العلمي، وإن كتابتها لن تكون شطحات خيال نزق، بل واقع موضوعي يتجاوز حدود خيالنا الراهن الذي هو بدوره وليد مستوى علمي وتكنولوجي ستراه أجيال المستقبل غدًا واقعًا متخلفًا.

          ولكنها آثرت بعد تردد أن تحكي وقائع التحولات العلمية والتكنولوجيا في كتاب علمي، وأن تقرن روايتها أو سردها للوقائع باحتمالات المستقبل من تحولات كنتائج علمية ترجحها جميع الشواهد. وصاغت رؤيتها العلمية في كتاب تحملنا وقائعه إلى عالم نظنه من نسج الخيال، ولكنها وقائع موضوعية ومنطقية قياسًا إلى كل نشهده من إنجازات نكاد نعجز عن اللحاق بمتابعتها.

          تقول المؤلفة: «ولكنني بعد تأمل طويل... واجهت سؤالاً: كيف سيكون وعي الإنسان/ الناس وكيف ستكون حياتهم؟ وتحولت عن فكرة كتابة رواية إلى تأليف كتاب علمي عن مستقبل المخ البشري أو العقل بمعنى أدق، وعن الثورة المرتقبة التي سيحدثها العلم في القرن 21 وما بعده؟ وتساءلت ترى ما الآثار المتوقعة لتكنولوجيا المعلومات، وكيف سيتغير معها أسلوب حياتنا، وما أثر ذلك كله على المخ؟ وكيف سيعكس المخ بفضل ما يتحلى به من مرونة، خبراتنا كأفراد؟ وكيف ستغير التكنولوجيا من نظرتنا ومن ثقافتنا؟ من أحاسيسنا وأفكارنا وشخصياتنا؟ وكيف سيؤدي هذا التحول العميق إلى نشوء متطلبات جديدة في مجال العلم: الفيزياء والطب الحيوي وغيرهما. وكيف سيتجلى تأثير هذا كله في مجالات الحرية: حرية الفكر والإرادة والشعور بالخصوصية الفردية».

الواقع والخيال

          لهذا خرج الكتاب في صورة رحلة استقصائية للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في مجالات حياة المجتمع والحياة الخاصة للإنسان وبيان أثرها في العقل والاقتصاد والسياسة، بل وصورة العالم، ويوضح الكتاب أننا مع مطلع القرن 21 نقف على عتبة تحول كبير مثير يفوق كثيرًا أي تحول سابق عرفته البشرية في تاريخها كله. إن العلم والتكنولوجيا، وهما الآن جوهر وروح حياة العصر سيؤديان سريعًا إلى تغيرات جذرية ونوعية لن تقتصر فقط على أسلوبنا في الحياة، بل وعلى أسلوبنا في التفكير والشعور. ويؤكد هذا أن دينامية وحساسية نشاط المخ البشري سيتغيران دراميًا. وسوف يعني هذا القدرة المباشرة على التأثير في جوهر فردية وذاتية الإنسان. وسوف يكون عسيرًا تحديد معالم فاصلة بين الواقع والخيال، كما سيكون عسيرًا على المرء التأكد من حدود جسمه: أين ينتهي، أو الأنت الطبيعي الذي نسميه أنا نفسي. وسوف ينتفي الفارق بين العمل ووقت الفراغ، وبين الماضي والمستقبل. وسيكون معروضًا أن ننجب ذرية حسب الطلب، بل وسيكون مطروحًا سؤال ما إذا كان بإمكان امرئ ما أن يغير، هو أو هي، من صفاته الجينية، هل يمكن التلاعب بالجينات أو تنشيط أو كف بعضها حسب الطلب للتحكم في السلوكيات أو غيرها؟

هيمنة الذكاء الاصطناعي

          وتقول المؤلفة: «سوف نعيش أسلوب حياة يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي الذي سيكتسب طابعًا شخصيًا جدًا... لذا تساءلت فيما بيني وبين نفسي: ترى لو تحققت هذه الاحتمالات، ماذا عسى أن يكون أثرها على المخ؟ كيف يمكن لكل هذه التكنولوجيا أن تغير نظرتنا؟ وأدركت أن التكنولوجيات الجديدة يمكن أن تؤثر فينا، شأن العقاقير، بحيث تضعنا في حال سلبية مشحونة ومثقلة بالتنبيهات الحسية والتي ستكون خلالها أمخاخنا أو قل عقولنا غير ذات صلة وثيقة وكبيرة بها. ولهذا فإن القضية المحورية هنا ليست التكنولوجيات الجديدة في ذاتها (التي صدر بشأنها فيض من الكتب)، وإنما السؤال هو: كيف يمكن أن تغير إنجازات العلم أفكارنا ومشاعرنا وشخصياتنا؟ كيف يمكن أن تتحول عقولنا وحياتنا في الاقتصاد والسياسة، وفي الطب وفي التعليم، بل وفي حالة العالم.. الطبيعة الواقع والخيال.. وكيف ستزداد قدراتنا على التعامل والتلاعب، بالميديا الإلكترونية والروبوتات والجينات وبيولوجيا التكاثر؟ وهذا كله يستلزم تحولاً جذريًا دراميًا في أسلوب حياتنا».

          وتحدثنا المؤلفة في الفصل الختامي عن المستقبل والأزمة. ترى المؤلفة أن الخطر الأكبر الناجم عن التحولات هو تزايد مظاهر الانقسام بين العالم المتقدم تكنولوجياً وبقية البلدان، والتي تمثل بسكانها ومساحتها الغالبية الساحقة على كوكب الأرض. وتضيف: «إن التحدي الأكبر الذي سيواجهنا في المستقبل هو: كيف نتجنب السقوط في هاوية الانقسام الخطير للغاية بين عالم صغير محدود متقدم ينعم بالرخاء الاقتصادي وإمكانات الهيمنة، وعالم متخلف في تزايد سكاني مطرد، ويعاني فقرًا يعزله أكثر فأكثر عن التقدم، وعن العالم المتقدم».

          وتذكر بعض مظاهر الأزمة، وتشير إلى أن الزيادات السكانية تطرد وتتسارع في عالم يتضخم سكانيًا.

          إذ يلحظ أنه منذ عام 1980 كان 90 % من مجموع أطفال العالم مولودين في العالم النامي أو المتخلف، وأن بليون نسمة هم من أبناء البلدان الصناعية المتقدمة من بين أكثر من ستة بلايين هم تعداد سكان العالم. وأنه بحلول العام 2050 سيكون عدد الأفارقة ثلاثة أمثال عدد الأوربيين. عالمان الآن يسكنان الكوكب. الآن 1.3 بليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر. وقرابة بليون نسمة في البلدان النامية يفتقرون إلى الصرف الصحي، وقرابة ثلث سكان العالم النامي لا يحصلون على الماء العذب النقي للشرب، وقرابة بليون نسمة أميون ثلثاهم من النساء. هذا علاوة على اطراد انخفاض إجمالي الناتج القومي في البلدان النامية مقترنًا بتدمير البيئة والتلوث... مزيد من البشر، ومزيد من تفاقم أزمة السكان وأزمة العمالة وأزمة التخلف وأزمة الحصول على وسيلة للبقاء، وتذكر من مفارقات الحياة أن الناس يتعلمون ويتزايد عدد المتعلمين، ولكن تتزايد البطالة. ومن مظاهر الأزمة تغير بيئة الأسرة، وتذكر كمثال أن 84 بالمائة من الأسر في المجتمع المصري هي الآن من نوع الأسرة النواة وتوارث الأسرة الممتدة الكبيرة. وسوف تمثل الهجرة إلى العالم الصناعي أزمة أخرى. إذ مع اتساع الهجرة إلى الشمال سوف تتفاقم الآثار الأيكولوجية والسياسية والمالية والاجتماعية لعالم غني متعدد الثقافات من ناحية، وعالم يزداد فقرًا هجره الشباب القادر من أبناء الجنوب.

إنسان جديد

          يمثل الكتاب تحديًا وعامل إثارة وحفز للفكر والخيال معًا. إذ يخرج الفكر من سباته وعن الاعتقاد بروتينية ونمطية الحياة، وأن ما كان في حياة السلف يصدق على الحاضر، ناهيك عن حياة المستقبل. وإنما الكتاب يؤرقنا ويشيع فينا مشاعر القلق الوجودي والإحساس العميق بأن التطور شرط موضوعي وحالة أو قانون واقعي للحياة البشرية، وأن هذا التطور في جوهره تعبير وتجل لدينامية باطنية، وأن التطور وإن كان أبديًا، إلا أنه تسارع وقوة مع حضارة عصر الصناعة والتقدم العلمي والتكنولوجي، لم يكن أبدًا اليوم مثل الأمس، ولكن اليوم مرحلة إلى غد مغاير تمامًا، إلى حياة جديدة في الفكر والأدوات والثقافة، وفي الفعل والهدف فرديًا ومجتمعيًا، إلى إنسان جديد وعقل جديد وعلم جديد في عالم جديد.

          لهذا، فإن الكتاب بقدر ما هو مثير للفكر، فإنه مثير للقلق أيضًا، خاصة إزاء مقتضياته وإزاء ما يطرحه من مظاهر حياة تتناقض، بل تتنافر مع ثقافة ترسخت في أذهاننا على أنها الثقافة الأمثل لحياة واقعية. إن إنسان المستقبل أو حياة المستقبل في العالم المتقدم ستجعل لزامًا أن تكون القرارات على المستويين الفردي والجماعي قرارات فورية للتكيف مع تحديات آنية سريعة التحول والتغير، إلا أنها مع تحولاتها السريعة هي تحديات مصيرية بالنسبة للأجيال، ويبقى السؤال المشروع: وماذا عن الجنوب؟

          ولعل من أخطر، وأهم مظاهر التحديات ما عبرت عنه الكاتبة بقولها: «الفكرة الأساسية التي ينبني عليها الكتاب هي أن الأنا الخاصة أو الخصوصية الذاتية الفردية، التي تعتبر أثمن ما حققته البشرية، أضحت الآن أشد عرضة للأخطار مما كان عليه الحال في الماضي، ترى إلى أي مدى يمكن أن يمثل التطور العلمي والتكنولوجي اعتداء جماعيًا على الخصوصية الذاتية للفرد؟ وما هي احتمالات ردود الأفعال؟».

أنا العاشِقُ العاني وإن كنتَ لا تَدري أعيذُكَ من وَجدٍ تَغَلْغَلَ في صَدري
خليلي هذَا اللَّيلُ في زِيِّهِ أتَى فقمْ نلتمسْ للسُّهدِ دِرْعاً مِنَ الصَّبرِ
وهذَا السُّرَى نحوَ الحِمَى يستفزُّنَا فهَيَّا وإن كُنّا على مَركَبٍ وَعْرِ
خليلي هذَا اللَّيلُ قدْ طالَ عُمْرُهُ وليسَ لهُ غيرُ الأحاديثِ والذِّكْرِ


حافظ إبراهيم

 

سوزان جرين فيلد