الدهشة في تأمل العالم والذات

الدهشة في تأمل العالم والذات
        

قراءة في تجربة الشاعرة الإماراتية
نجوم الغانم

تتضمن بعض النصوص الشعرية العربية تجربة روحية ووجودية تتطلب قراءة موازية لها للكشف عن التجربة الإنسانية المتضمنة فيها، التي تبلغ من عمقها أنها تحيطها هالة من الغموض غير المستغلق.

          تجربة «نجوم الغانم» من التجارب الشعرية لها حضور فني عبر لغة متأنية أشبه بالنقش على الحجر من قوتها وهدوئها، وهي معادلة صعبة لا تنجح فيها إلا موهبة حقيقية، فهي شاعرة مغامرة في بناء القصيدة وشجاعة في تفتيت اللحظة إلى صور شعرية طائرة، بحيث تغمرك بمطر من المشاعر القلقة المتحفزة، إنها كتابة مثيرة للدهشة بحق بتكويناتها الشعرية تمتاز بالنبرة الخفيضة ذاتها، التي قدمت بها الشاعرة دواوينها السابقة، وهي نبرة تعيش في الظلال الهادئة وتهمس إليك من موقعها هناك بأمل أن ترى مصدر الظل والحقيقة. تكتب «نجوم الغانم» عما عرفته وخبرته، ولهذا تجد أشعارها مشبعة بالتفاصيل الدقيقة، التي تجعل العمل حيا وأليفا وصادقًا، لا يتكرر، لأن تفاصيله لم تحدث سوى مرة واحدة مع شخص واحد.

          وتكتب الشاعرة ما يأتيها من أحوال نابعة من التجربة التي عاشتها، ونجد هذا في ديوان «منازل الجلنار»، الذي يتحدث عن أحوال النفس تجاه تجربة موت الأحبة، ولكنها لم تشر لذلك صراحة، وتركت القصائد تسرد أحوال الذات بحيرة ودهشة، وهي ترى الموت كائنًا حيًا تعايشه وتراه يتسرب إليها خلسة في الأحلام والرؤى وقراءة مفردات وعيها وتفاصيل العالم المعيشي من خلاله، والكتابة هنا كما في كل دواوين الشاعرة قراءة لوجودها الخاص وتعليق كياني على ما تمر به من خبرات حية، وهي تعلق على ما تحذفه، فلا ترى من الضروري سرد ما حدث، لأن المهم لديها ما خلفه «الحدث» في الروح والكيان الإنساني، وجعلها ترى الأمور على نحو آخر بفعل هذا الحدث / الموت الذي يقوم بتحويلات عميقة وجذرية في رؤيتنا للعالم من حولنا، ونجوم الغانم تحاول عبر دواوينها الاقتراب من مكنون ذاتها مثلما تحاول الاقتراب من حقيقة ما يجري لروحها وللعالم من حولها، وكما هو واضح في قصائدها تحاول ذلك بالاطلاع على الثقافات الشرقية والروحية، والسيطرة على النفس بتدريب الذات على كل فنون قراءة الوجود والتحدث إلى الروح مثل «الريكي» و«الكرما»، وبناء القصائد متأثر بهما، فتنفذ على التجربة مباشرة، ولم يلتفت النقاد في تحليلها لنصوصها لهذا البعد الروحي، وجعلت الشاعرة تنظر بحذر لمن يربطها بالحداثة، أو ما بعد الحداثة، وهو إسقاط لما يحمله الناقد من مفاهيم على النصوص، بينما تشي التجربة التي تشير بها النصوص إلى أن الكتابة طقس من طقوس الذات السحرية لقراءة الحقيقة، ويمكن تلخيص تجربتها الشعرية في أنها تقدم تجربة نثرية تعتمد شعريتها على عمق وجوهر ما تقدمه من فضاء خاص.

مساء الجنة

          والشاعرة في ديوانها الأول «مساء الجنة» الذي صدر عام 1989، كانت عقيدة الاستشهاد من أجل تغيير الواقع هي النموذج الشعري السائد في تجربتها آنذاك أملا في تخطي أزمة الواقع وقسوته، وانتقلت في ديوانها الثاني «الجزائر» الذي صدر عام 1991 إلى الباب الضيق للدخول لحقيقة الذات الإنسانية من خلال تفاصيلها الذاتية، وعبرت فيه عن عنفوان العاطفة والاندفاع والطموح والثورية، وسعت فيه للتغيير في عالم استقرت فيه الرؤى، وعرفت في نهاية هذا الديوان الطريق نحو مقامات الروح وأحوالها، وثمة زلزال عنيف اكتنف تجربتها في ديوانها الثالث «منازل الجلنار» وهو زلزال الموت الذي هز كل الثوابت المستقرة، وجعلت نفسها تهاجر في تحولات جديدة يتلبس فيها الجسد حالات أخرى في كل وقت، واشتد عمق الانقسام الداخلي، واشتد حضور الذات كنوع من المقاومة لطغيان الحزن، وصارت ذات الشاعرة تنتقل من الآخر/العالم الخارجي، وكل ما يختلف عن الأنا إلى صوت الآخر القابع في داخلها، وصارت ترصد بالعين الثالثة القابعة في بصيرتها الداخلية، وانتقلت من الحوار مع العالم إلى الحوار مع هذا الصوت الداخلي، وهذا ما بدأت به ديوانها الرابع «لا وصف لما أنا فيه» الذي صدر عام 2005، لأنها عبر هذه الرحلة الجمالية من الترحال من الانفعال بما يحدث في الواقع إلى حوار الذات مع الآخر/الحبيب/مفردات وتفاصيل الكون تنتقل للعالم الداخلي نتيجة لزلزال الموت، كأن الموت ردها إلى داخلها لتصبح السارد لتجربتها والمخاطب معا، لأنها في دواوينها السابقة، كانت تتحاور مع العالم اليومي ومع الآخر والكون، فأصبحت تتحاور مع نفسها، ويبدو ديوانها الأخير، وكأنه عرض لدراما الذات في حوارها حول الموت، الذي لم يعد هو غياب أحد الأحبة، وإنما أصبح الموت يطالعنا في كل شيء، واتسعت أنثوية الكتابة لتصبح رحمًا يحتضن كل ما يدور في العالم، وصارت الذات مرآة للجود بكل ما فيه، ولعل هذه نقلة جوهرية جعلت الشاعرة تتحدث في بداية ديوانها الجديد عن هجرات جديدة فتقول:

كأنها الفراشة
حين تحترق أطرافها
لمجرد التحليق قرب الموقد،
ومع هذا يقولون إنه قدرها.
كأنها ورقة سقطت
في يوم خريفي عادي
دون أن ينتبه لترنحها المارة.
وكأنها أنت
تنطفئين في زاويتك
منذ مئة ليلة
وما من أحد يلتفت لبكائك.

          في المقطع السابق يمكننا أن نكتشف ثلاثة أصوات داخل النص: صوت يعبر عن الصورة المتخيلة للذات، ويتمثل في استخدام ضمير المتكلم، وآخر يعبر عن صوت السارد، ويتمثل في ضمير المخاطب وثالث يعبر عن صوت الشاعرة، ويتمثل في ضمير الغائب، وهذا خاص بتجربة هذا الديوان ما عدا القصائد الأربع عشرة الأخيرة من ديوانها «لا وصف لما أنا فيه»، التي تقدم تجربة مغايرة لأنها تقدم قراءة جديدة للذات عبر تمثلها لصورتها لدى الآخر / الحبيب، وكيف تغيرت وتحولت عبر سنوات العمر إلى صورة لم تكن واردة في مخيلة الذات في دواوينه الأولى، لقد فتشت عن صورتها لدى الآخر الذي أحبته، فلم تجده، لكن لابد للحياة أن تستمر، وهي لا تستمر إلا بالمحبة والأمل والشعور بالالتزام في مواجهة الرتابة وانطفاء العشق والشقاء اليومي.

          هذه العذوبة التي تتجسد في الانصياع لقانون الحياة، والأمل في تغييرها بالحب، هي ما يميز كل قصائد نجوم الغانم.

          وتتنوع حضور الأصوات الثلاثة داخل النص بدرجات متباينة، فنجد تارة يشتد حضور صوت الشاعرة، وتارة أخرى يشتد حضور صوت السارد الذي يروي التجربة، وما تقع حواسها عليه ويخاطب الصورة التخيلية للذات في صيغة تساؤل ملح ومؤلم ولا تنتظر منه الإجابة، لأن الإجابة تجيء من صوت ضمير المتكلم، فمثلاً تقول الشاعرة بصوت الذات المتخيلة:

في تلك المدينة،
انتظرت طويلاً
أن يخلو مقعد لي لأجلس.
تداخل الأصوات

          ولعل تداخل الأصوات هو مفتاح الديوان وقراءته بحيث يفجر معاني جديدة، وفي بعض المقاطع يجتمع حضور كل الأصوات معًا مثل:

كل ليلة
تضيق الغرف.
كل ليلة
تتسع المتاهة.

          والمتاهة هنا هي متاهة الروح التي تبحث عن اليقين بعد أن تبدلت الصور، وتغيرت مواقع الأشخاص وزلزل الموت كل شيء، والموت هنا ليس موت الأشخاص فحسب، ولكنه أيضًا موت العصافير التي تزرق عيونها عند الاحتضار، وغياب كل شيء: المشاعر واللحظات الثمينة، واكتشاف الأماكن ومفردات الكون وتفاصيل الليل والنهار والمطر والحكايات، ليحل محل الموت والغياب الترقب والانتظار والخوف الذي لا يشبهه أي خوف، إنه خوف الأطفال في العتمة في انتظار من يجيء ليحكي حكاية تنير تلك العتمة لتتحول كغيمة تملأ السماء بحركة الحياة، إن صوت الشاعرة يجمع بين الوجدان والوعي في صيغة شعرية تجسد أزمة الذات في زمان نفسي ممتد نستمع إليها تقول:

ها هو أسبوع آخر
يرشو آلامنا
كي تستكين في التبدد

          وينتمي عنوان الديوان الأخير «لا وصف لما أنا فيه» للأصوات الثلاثة في الديوان، وهو عنوان يبدأ بأداة النفي (لا)، كأن الشاعرة تخرج نفسها من التصنيفات الجاهزة، والكلمات المكررة المعدة من قبل، وتدعو القارئ إلى أن يشارك الشاعرة تجربة الديوان، ولا يستمع إلا لصوت قلبه، وهو يقرأ الديوان، وعنوان الديوان غير متضمن في عناوين قصائد الديوان كما هو متبع عادة في اختيار عنوان الديوان من عناوين القصائد وهذا يبين أن هذا العنوان وصف لطبيعة ومعنى الكتابة الشعرية وتجربته أيضًا.

عالم الذات والأحلام

          وفي هذا الديوان هجرت الشاعرة الواقع اليومي الذي كان يحتدم الصراع معه في ديوانها الأول ورحلت إلى عالم الذات والأحلام، واعتمدت على تقنية الحلم في بناء قصيدتها واعتمدت على مشاهد الطبيعة الصامتة لتستنطقها بما تشعر به ولذلك تقول:

تذكّرتُ حلم البارحة:
سقطت الحمامة
بين كفّي الراجفتين
انتفضت حتى آخر ريشة
على قلبها
تذكّرتُ كيف أنها ذرفت دمها
في حضني
ثم انتصبت لتلقي نظرة أخيرة
على المكان
وطارت.

          وهي صورة الذات الذبيحة من الألم تنتفض حتى آخر رمق وتذرف دمها وهي تطير في فضاءات الروح وأحوالها وتحيط بها أزمنة خاصة مثل الخريف فتقول:

غدًا أول الخريف،
بداية جراح الأشجار
وتألم العصافير.

          فالمكان تحول إلى فضاء خاص لصورة بصرية لتجسد حالات الذات، وصار الزمان تجسيدًا لفصول الموت تسقط فيها أوراق الأشجار وتتألم العصافير، هذا الحزن الشفيف هو دافع الكتابة، حيث تمسك بالقلم لتعيد بناء ذاتها وترتيب مفرداتها وفق منطق خاص تمليه الحالة التي تشعر بها وتتحول روحها لتكون نبتة الياسمين التي تسكن في زاوية النافذة، وتكون الحمامة التي تذرف الدم، وورقة الشجر التي تسقط من برد الشتاء تعاني آلام الرئتين، والذات وهي تتحول بين مفردات الطبيعة ترى البشر في صورة تماذج حلول مرفوضة، بمعنى أنها رفضت منطق استهلاك الجسد في اللذات واستهلاك القصائد للشهرة والحضور الكاذب، فتذكر هذا صراحة في الديوان من خلال صورة متخيلة فتقول:

المرأة الغريبة
بزنارها الذهبي
وحقيبتها المكتنزة بالأشعار
جاءت تبحث عن هدأة الأمكنة
والزرقة الممتدة للشواطئ.
في أول شتاء أغوت الفتيان
مؤرخة على شفاههم
أولى عبارات العشق
وفي آخر شتاء كانت قد شاخت.
لسنوات سار في أعقابها الأطفال
مرددين وعيد أمهاتهم.
سرق بعضهم الدواوين
رشق آخرون عشاقها
وهربوا قبل أن يلتئم الليل.

قلبي يهوي

          وهناك لحظات تتوقف فيها الشاعرة عن التفكير من خلال الأصوات الثلاثة ويغمرها شعور مباشر وجارف كالموج الهادر لا تستطيع أن توقفه فتقول:

قلبي يهوي
كالصخرة المندفعة في الهواء
دون أن توقف انتحارها مشيئة.
قلبي يترجل في الحزن
وما من بارقة للنجاة

          وهنا لا تعبر عن نفسها فحسب بل تعبر عن ذوات وحيدة تشاركها شعورها فتقول:

على المقهى الرصيفي
تحدثنا قليلاً
راقبنا العربات وسائقيها،
المارة،
والمترجلين.
كان علينا احتساء قهوتنا سريعًا
قبل أن تتدحرج أمواج الليل صوبنا
وتضيّعنا أبواب المدينة الغريبة.
استترت الجزر خوفًا من خناجر القراصنة.
حوّمت النوارس فوق رءوسنا
وأغرقتنا الأساطيل المكتظة في خليجنا.
المدينة داخل الذات

          والمدن هي أمكنة داخل الذات كقارات قديمة تجسد الحلم القديم في الحب، هذا ما تقدمه أيضًا عن المدن التي زارتها تتأمل فيها اللوحات الفنية، ووجدت في المدن ذاكرة المتعبين  من خلال متاحف الأعمال الفنية التي تسجل ذاكرة الألم البشري في صراعاته المختلفة، وهي لا ترصد هذه اللوحات، ولكن ترصد انطباعها في القلب، ولا يقدر أن يمحوها شيء وتطاردها في يقظتها ومنامها، فما نقرأه أو نشاهده من أعمال فنية أو نستمع إليه وهو يخاطب كياننا الحقيقي يبقى في داخلنا كأنه جزء منا تقول الشاعرة:

ماذا أقول لهم
وهم يوقظونني في كل ليلة
على نشيج الأنجم
وعذابات الأرغنات.
بماذا أرشوهم
ليبتعدوا عن نافذتي
لليلة واحدة
أو
نصف ليلة.

***

          هل هذا الديوان يعبر عن تجربة جيل بكامله اتخذ من الصدق والاعتراف وسيلة للكتابة؟ هل تمثل هذه الكتابة بحثًا عن طريق لحقوق الذات بعد أن  أخفقت كل الحلول؟ هل الشاعرة تريد أن تقول عبر الأقنعة الثلاثة أن التجربة المعاصرة للإنسان لا يمكن رؤيتها من زاوية واحدة، ولكن  من عدة زوايا؟ هل تأكدت الوحدة بعد أن ضاعت صورتها لدى الآخر الذي التهمه النموذج الاستهلاكي السائد؟ هل صار موقع الذات هو سجن الغرفة الذي يتكرر ذكرها في الديوان ولها نافذة وحيدة للرؤية؟ هل صار الصمت مرادفًا للكلام في عالمنا العربي؟.

 

رمضان بسطاويسي محمد