واحة العربي محمد مستجاب
الثعبان
اللاذع، الناهش، الناشر،
المنساب بين التاريخ
والأسطورة والجغرافيا
كنت قد خصصت هذا الجزء للكتابة عن الأصدقاء، لكني وجدت نفسي مندفعاً إلى الثعابين، تلك التي لم تفارق ذاكرتي منذ أن كنت كيانا صغيراً يتلوى على الأرض، ولعل الثعبان - في أقصى علاقته بي - هو الكامن وراء فرع شجرة وأنا على الفرع الآخر أقاوم الريح، ولا ينقذني منه سوى الاستيقاظ من النوم فزعًا والاستيعاذ بالله، وهو منتشر في جميع أنحاء العالم قديمه وحديثه، حتى 10 داوننج ستريت - مقر الوزارة البريطانية - في لندن لم ينج من ثعبان جاءت أخباره في الصحف من أعوام، والحية ذات الأجراس لها وضع في القصص والبراري الأمريكية، كما يقوم الثعبان بدوره المؤثر في الأديان والأساطير والخرافات وقصص ألف ليلة وليلة والحكايات الآسيوية، وأستطيع مطمئنا أن أختصر الحياة المبكرة للإنسان في النار والماء والثعبان، ولا تزال هذه القدرة الخارقة لدى الحواة للسيطرة على الثعابين غامضة، قد يفسرها البعض بالتحايل أو خفة اليد أو استثارة الوهم عند العامة، لكن ما لمسناه جميعًا - ولا سيما أبناء القرى والبراري والصحراوات - يظل قائما ضد هذا التفسير الهروبي المعتل، ولذا فقد ظل الثعبان حالة تتلوى في الجغرافيا والتاريخ، وأكثرها رونقًا هذه النهاية الموفقة والدامية للملكة كليوباترا، وهو ذو الرأس المشرئب بعيونه الفيروزية التي تتألق شراسة في مداخل كنوز قدماء المصريين، وفوق هامات كثير من تماثيلهم، وفي أقوال القدماء، والحلي اللولبية في معاصم النساء، وفي الطريقة التي تتلوى بها أفكار التنظيمات السرية، وأماكن توالد الجرذان، وقريبا من الطبيخ البايت وأعشاش الحمام، وبين يدى النبي موسى ملتهما ثعابين حواة الفرعون، وشرائح البطيخ الناضج، ومواقع القنص والصيد وفي المخازن والشون (جمع شونة) ومؤسسات جمع وتوظيف الأموال، وفي دورات المياه الآسنة- بالذات في القرى والمناطق القديمة- وتحت أجنحة الترع وشواطئ البرك والجماجم المتحجرة، ومؤسسات النشر (ولا سيما النوع الثعباني المسمّى بالناشر)، وتحت أزيار الماء في الأيام الحارة، وبين شدقي الخباصين والنمامين ومبدعي الشكاوى الكيدية، وبين طيات رءوس نقاد الأدب- حتى الموهوبين- وفي مساطيح البلح (أي مسطحات البلح)، وهو إشارة للصيدليات - على أن يكون ملتفًا حول كأس، وفي عوالم التليفزيون الحيوانية، وفي مخيلة القواد الحمقى الفاشلين، عسكريين أو مدنيين، إذ إن الكثيرين منهم يعشقون اللبن والطبيخ والجرذان المشوية، وثمة نوع من الثعابين يدعى الطريشة - أي الطرشاء الصماء التي لا تسمع - قصير له جسد معقوف، يندفع مقذوفا فى وجه المخلوق- إنسانا أو حيوانا- فيودى به، وجنود حرس الحدود الذين يستخدمون الجمال يتحاشون المناطق التي قد يكون فيها، ولا علاج للدغته، ذا تأثير حاسم، وجماعات البشاريين في جنوب صحراوات مصر يلجئون- في هذه الحالة - لبتر العضو الملدوغ، ويشير الجاحظ وكذلك الدميري - إلى أن قوة الثعبان الهصور العاصر لا مثيل لها، وفي سياق مبالغاتهما الخرافية حكيا عن نوع يمكنه من تكتيف بقرة وطرحها أرضا ثم السعي إلى ضرعها، لكني رأيت تصويراً سينمائيًا لثعبان ضخم ابتلع حملا، وربما يكون الثعبان الواقعي وراء كائن التنين المذهل الذي يمح نارًا في الأساطير ولا سيما الشرق آسيوية قديما، وتراه على واجهة بعض معابد فئاتهم، غير أن المدينة الحديثة أطاحت بكل الأساطير وأحالت الثعبان إلى كيان يتلوى في حدائق الحيوانات، وفي أحذية وحقائب النساء، وحتى قلبه- الذي كان يتغذى به الأبطال ليكتسبوا الجسارة المناسبة - ضاع وانقرض مع انقراض الأبطال ذوي الجسارة والأصدقاء الأوفياء.