جمال العربية

 جمال العربية
        

في زيارته الأولى للكويت
عندما كان السيّاب «غريبًا على الخليج»

أصيح بالخليج: «يا خليج
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!»
فيرجع الصّدى
كأنه النشيج:
«يا خليج
يا واهب المحار والردى..»

          ليست هذه هي المرة الأولى التي يتردد فيها اسم «الخليج» في شعر السياب - وهذا المقطع من قصيدته الذائعة الصيت «أنشودة المطر» - فهناك مرة أخرى سابقة، كان السياب فيها بعيدًا عن وطنه «العراق»، غريبًا تائهًا على الخليج، لكن حنينه إلى الوطن يضجّ في دمه، ونشيجه الحارّ المتصل، الذي يصعد كالمدّ، كالسحابة، كالدموع إلى العيون، يصرخ به دومًا: عراق، عراق، ليس سوى عراق.

          أكثر من نصف قرن، وخليجيات السيّاب، حية نابضة، تتوهج من خلال الأحداث والصراعات الدامية، وأكثر من اثنين وأربعين عامًا على رحيل السياب، ودوره في مسيرة الشعر العراقي، والشعر العربي الحديث أكثر تألقًا وجلاء بين عشاق هذا الشعر ودارسيه. والقامة الشعرية الشامخة التي جسّدها ومازال يجسّدها السيّاب، هي التي أعطت لحركة الشعر الجديد - في موجة الريادة الأولى - كلّ عنفوانها وشموخها، في نموذج يتكئ إلى علاقة السياب الحميمة بالموروث الشعري - في صياغاته البديعة عند أعلامه الكبار - وانفتاحه على آفاق الشعر العالمي الحديث استيعابًا واستشرافًا وتفاعلاً.

          لقد تحوّل السياب عبر هذا المدى الزمني، وعبر الأحداث التي أطاح بعضها بتمثاله في البصرة، والنكبات التي حلّت بوطنه ولاتزال. تحوّل إلى أسطورة شعرية. فهو أيوب الصابر على شتى العلل وقسوة الداء العضال، يصبح رمزًا لشعب كامل يقاسي أهوال المحن وضراوة المعاناة، تطحنه حتى العظام، وهو الشاعر الذي جعل من صوته الشعري المقاوم صوت بطولته الفذة على المستوى الفرديّ، وصوت شعبه وأمته على المستويين: القومي والإنساني، وصوت العراق على مستوى الإبداع الشعري العربي.

          يقول السياب أسطورة الشعر العربية في قصيدته «غريب على الخليج» التي أبدعها وهو في الكويت عام 1953:

الريح تلهث بالهجيرةِ، كالجثام على الأصيل
وعلى القلوع تظلُّ تُطوى أو تُنشر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كلّ حافٍ نصف عاري
وعلى الرمالِ، على الخليج
جلس الغريبُ، يسرّح البصر المحيَّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياءِ بما يُصعّد من نشيج:
«أعلى من العباب يهدد رغوه ومن الضجيج
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعدُ، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريحُ تصرخُ بي: عراق،
والموجُ يعولُ بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!
البحرُ أوسعُ ما يكونُ، وأنت أبعدُ ما تكون
والبحرُ دونكَ يا عراق
بالأمسِ حين مررتُ بالمقهى، سمعْتُكَ يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك من عمري، تُكدّرُ لي زمانه
في لحظتيْنِ من الزمان، وإن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلامِ
وصوتها يتزلقان مع الرؤى حتى أنام،
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفلٍ لا يئوب
من الدروب،
وهي «المُفلِّيةُ» العجوز وما توشوشُ عن «حزام»
وكيف شقّ القبر عنه أمام «عفراء» الجميلة
فاحتازها إلا جديلة
زهراء، أنتِ.... أتذكرين
تنّورَنا الوهاج تزحمُه أكُفُّ المصطلين؟
وحديثَ عمّتي الخفيضَ عن الملوكِ الغابرينِ؟
ووراء بابٍ كالقضاء
قد أوصدْته على النساء
أَيْدٍ تطاعُ بما تشاء، لأنها أيدي رجال
كان الرجالُ يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين؟ أتذكرين؟
سعداءَ كنّا قانعينَ
بذلك القصص الحزين لأنه قصصُ النساء
حشدٌ من الحيواتِ والأزمان كنّا عُنفوانَه
كنّا مداريْه اللّذين «يقيمُ» بينهما مكانهْ
أفليس ذاك سوى هباء؟
حلمٌ ودورة أسطوانة؟
إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء؟
أحببْتُ فيكِ عراق روحي أو حبّبْتُك أنتِ فيه
يا أنتما، مصباحُ روحي أنتما، وأتى المساء
والليل أَطْبقَ، فَلْتُشعّا في دُجاهْ فلا أتيه
لو جئْتِ في البلد الغريب إليَّ ما كمل اللقاء
شوق يخضُّ دمي إليه، كأنّ كلّ دمي اشتهاء
جوعٌ إليه كجوع كلِّ دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأبَّ من الظلامِ إلى الولادة
إني لأعجبُ كيف يمكنُ أن يخون الخائنون
أيخون إنسانٌ بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكنُ أن يكون؟
الشمسُ أجملُ في بلادي، والظلامْ
حتى الظلام هناك أجملُ، فهو يحتضنُ العراق
واحسرتاه، متى أنامْ
فأحسَّ أنّ على الوسادة
من ليلك الصيفيِّ طلاًّ فيه عطْركَ يا عراق؟
بين القُرى المتهيّباتِ خُطاىَ والمدنِ الغريبة
غنّيْتُ تربتُكَ الحبيبة،
وحملْتُها فأنا المسيحُ يجرُّ في المنْفى صليبه
فسمعْتُ وقْع خطى الجياعِ تسيرُ،
تدمى من عِثارْ
فتذرّ في عينيَّ، منْكِ ومن مناسمها، غبار
مازلت أضربُ، مُتربَ القدميْن أَشْعَثَ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار، أبسط بالسؤالِ يدًا ندّية
صفراء من ذُلٍّ وحُمّى: ذلّ شحّاذٍ غريب
بين العيون الأجنبية،
بين احتقارٍ، وانتهاءٍ، وازورارٍ.... أو «خطيّة»
والموت أهون من «خطية»
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطراتِ ماءٍ.... معدنية!
فلتنطفى، يا أنتِ، يا قطراتْ،
يا دمُ، يا نقودْ
يا ريحُ، يا إبرًا تخيطُ ليّ الشراعَ... متى أعودُ إلى العراق؟ متى أعودُ؟
يا لمْعة الأمواجِ رنّحهنّ مجذافٌ يرودُ
بىَ الخليجَ، ويا كواكبهُ الكبيرةَ... يا نقودْ!
ليْتَ السفائنَ لا تُقاضى راكبيها عن سِفارِ
أو ليْتَ أنّ الأرض كالأفق العريض، بلا بحارِ
مازلت أحسب يا نقود، بكنَّ من مدد اغترابي
مازلت أُوقد بالتماعتكنّ نافذتي وبابي
في الضّفة الأُخرى هناكَ، فحدّثيني يا نقودُ
متى أعودُ؟ متى أعودْ؟
أتراه يأزفُ، قبل موتي، ذلك اليوم السعيدْ!
سأفيقُ في ذاك الصباحِ، وفي السماءِ من السّحابْ
كِسرٌ، وفي النسماتِ بردٌ مشْبعٌ بعطور آبْ
وأُزيحُ بالثّؤْباءِ بُقْيا من نُعاسى كالحجابِ
من الحريرِ: يشفُّ عمّا لا يبينْ وما يبينْ:
عما نسيتْ وكدْتُ لا أنسى، وشكٍٍّ في يقين
ويضيءُ لي - وأنا أمدّ يدي لألبسَ من ثيابي -
ما كنتُ أبحث عنه في عتمات نفسي من جوابِ
لم يملأُ الفرحُ الخفىُّ شِعابَ نفسي كالضبابِ؟
اليوم، واندفق السرورُ علي يفجؤُني - أعودُ!
واحسرتاه، فلن أعود إلى العراق!
وهل يعودْ؟
من كان تُعوزُهُ النقودُ؟ وكيف تُدّخرُ النقودُ
وأنت تأكلُ إذ تجوعُ،
وأنت تُنفق ما يجودُ به الكرامُ على الطعام؟
لتبكينَّ على العراقِ
فما لديْك سوى الدموع
وسوى انتظاركَ، دون جدوى،
للرياح وللقلوع!

*****

          بين لعنة الاضطهاد ولعنة المرض قضى السياب حياته التي لم تجاوز ثمانية وثلاثين عامًا، شهدت إنجازه الشعري الذي يُعدّ ثروة شعرية كان لها تأثيرها البالغ في مسار القصيدة العربية من خلال دواوينه: أزهار ذابلة، وأساطير، وأنشودة المطر، والمعبد الغريق، وشناشيل ابنة الجلبي، ومنزل الأقنان وإقبال وقيثارة الريح، بالإضافة إلى مجموعتيه: أعاصير، والبواكير التي تضم مجموعة من أُوليات قصائده.

          وارتبطت حياة السياب بالكويت في ثلاث مراحل. الأولى في عام 1953، وهي التي أبدع فيها قصيدته «غريب على الخليج»، والثانية في عام 1955 وهي التي شهدت ميلاد قصيدته «أنشودة المطر»، والثالثة في عام 1964 الذي شهد صراعه الأخير مع المرض القاتل الذي فتك بكل جسمه، إلا رأسه، الذي ظل يقظًا واعيًا، يقاوم ويحلم ويتذكر ويسامر عوّاده وهو في المستشفى الأميري، حتى إذا تمكنت منه العلّة، وانتهت مقاومة الجسد، بدأت الغيبوبة الطويلة، والدخول - قبلها - في عوالم الأشباح والرؤى الليلية المفزعة. ولم يكن له من سلاح يقاوم به، ويدفع عنه عدوًا شرسًا فاتكًا إلا شعره الذي كان يتلقفه أصدقاؤه في كل صباح بعد أن يمليه عليهم أو على بعض الساهرين على رعايته من أسرة المستشفى. شعر تختلط فيه رؤى زوجته وابنه وابنته. بانتفاضات أيوبية صابرة على جمر المحنة والمعاناة. وكأنه قد أصبح بعض نسيج قريته جيكور وطينها الذي يتشممه عن بعد، وتسرى في عروقه مياه «بويْب» نهر قريته الصغير، ممتدّا بكيانه كلّه في أعراق النخيل. النخيل الذي لم تفارقه أطيافه أو ظلاله وهو يستهلّ رائعته: «أنشودة المطر»:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السَّحَرْ
أو شُرفتانِ راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسمانِ تورقُ الكرومْ
وترقصُ الأضواءُ، كالأقمار في نَهرْ
يرجُّهُ المجذاف وهْنًا ساعة السَّحَرْ
كأنّما تفيضُ في غوريْهما النجومْ

          أيضًا وهو يهتف باسْم ابنه «غيلان» - الذي سمّاه باسْم الشاعر الذي صوّر الصحراء وكائناتها وأوابدها كما لم يصوّرها أحد غيره: ذي الرمة - مُختلطًا بعناصر القرية ونَسغها الحيّ وهو يقول:

- بابا.... بابا
ينساب صوتك في الظلامِ إليّ
كالمطر الغضيرِ
ينساب من خلل النعاس.
وأنت ترقدُ في السّريرِ
من أيّ رؤيا جاء؟ أيّ سماوةٍ،
أيّ انطلاق؟
وأظلّ أسبحْ في رشاش منه،
أسبحُ في عبير
فكأنّ أوديةَ العراق
فتحَتْ نوافذ من رُؤاكَ على سهادي:
كلُّ وادٍ
وهبتْه عشتار الأزاهر والثمار. كأنّ رُوحي
في تُربة الظلماءِ حبّة حنطةٍ وصداكَ ماءُ
أعلنْتِ بعثي يا سماءُ
هذا خلودي في الحياة تُكنُّ معناه الدماءُ
«بابا» كأنّ يد المسيح
فيها، كأن جماجم الموتى تبرعمُ في الضريحِ
تموز عاد بكلّ سُنبلةٍ تُعابثُ كلّ ريح
«بابا... بابا»
أنا في قرار «بويْب» أرقدُ، في فراشٍ من رماله،
من طينه المعطور، والدم في عروقي في زلاله
ينثال كي يهب الحياة لكلّ أعراق النّخيلِ
أنا بعْلُ: أخطر في الجليل.
على المياه، أنثُّ في الورقات روحي والثمارِ
والماء يهمسُ بالخريرِ، يصلُّ حولي بالمحارِ
وأنا «بويْب» أذوب في فرحي وأرقد في قراري

.. .. .. .. ..

«جيكور» من شفتيْك تُولدُ من دمائكَ،
في دمائي!

*****

          وفي الرابع والعشرين من ديسمبر عام 4691 غادرت روح «السياب» مبنى المستشفى الأميري في الكويت. ثم غادر الجسدُ ووُري الثرى، وبقي شعره حيّا لا يموت.

 

فاروق شوشة