وطن الثقافة.. الهوية الأكبر..

وطن الثقافة.. الهوية الأكبر.. د. سليمان إبراهيم العسكري

حين نتأملُ الصراعاتِ التي تجتاحُ العالم؛ صغيرَها وكبيرَها - ودونما استثناء - سنجد أن أساسها الأول هو الاختلاف في الفكر والرأي، والمخالفة في العقيدة والطائفة، والتباين بالأعراق واللغات، واتساع الفجوة بين الهويات التي تحيا تحت سماء الوطن الواحد. ثم نكتشف - بعد طول تأمل - أن هذه الصراعات تشعل جذوتها مصالح اقتصادية وسياسية - داخلية وخارجية، تتخذ من تلك الاختلافات حجة كافية لتحقيق مآربها في السيطرة والتحكم وفرض النفوذ، ومن هنا نتساءل: كيف لا تصبح ثقافة الأمة الواحدة وطنا أكبر حاضنا لتلك الهويات المختلفة؟ ولتأتلف جميعًا تحت سقف الثقافة باعتبارها الهوية الأكبر؟ هذا هو السؤال الأهم في عالم بدأت تتعالى فيه نعرات عزل الآخرين، مثلما تكثر فيه نداءات الانعزال عنهم، ومن ثم اعتبارهم العدو الذي لا بد من القضاء عليه.

  • لماذا لا تصبح ثقافة الأمة الواحدة وطنًا أكبر حاضنًا للهويات المختلفة؟ لتأتلف جميعًا تحت سقف الثقافة باعتبارها الهوية الأكبر
  • الاختلاف، والصراع حوله، ليس نبتًا عربيًا إسلاميًا، كما تحاول كثير من القوى - في الغرب خصوصا - الترويج له والتأكيد عليه، وإنما هو جين أصيل في الجنس البشري على مر الأزمان
  • إذا كنا ندعو إلى دولة غير دينية - بمعنى عدم استخدام الدين في السياسة - تحتفي بالديمقراطية، فعلينا أن نعترف بأن الديمقراطية أكثر من مجرد مسوّغ للاحتفاء بالاختلاف، لأن الديمقراطية نظام سياسي يشتمل على الثقة المتبادلة، والالتزامات الأخلاقية في المجتمع دون تمييز
  • الاستعمار الأوربي، الذي فرض لغته في مناهج التعليم، كان يدرك - مثلما ندرك نحن اليوم - مدى أهمية اللغة في ربط المواطن بأرضه وثقافته. إن تعلم اللغة العربية واجبٌ على جميع أبناء الأمة العربية، ولكن تعلم اللغات المحلية - كلغات ثانية أو ثالثة - هو مما يؤكد على التواصل بين أبناء الشعب الواحد، ويربط الأبناء بتراب وطنهم

ربما من المفيد في البداية أن نذكِّر بأن الاختلاف، والصراع حوله، ليس نبتًا عربيا إسلاميا، كما تحاول كثير من القوى - في الغرب خصوصا - الترويج له والتأكيد عليه، وإنما هو جين أصيل في الجنس البشري على مر الأزمان، ففي أوربا - مثالا - سنجد دائما أن معظم الدول يعيش بها أناسٌ لهم معتقدات دينية مختلفة ورثوها عن أسلافهم، ويورثونها للأجيال اللاحقة عبر سلوك وتقاليد متباينة، وهي ممارسات أذكت - في مراحل متعددة - الصراعات بين الطوائف المسيحية المختلفة مرة، وبين المسيحيين واليهود، مرات كثيرة وعلى مدى قرون. كما أضاف المزيج الديني والثقافي للقارة التي جاءتها هجرات من قارات العالم - وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين - توترات جديدة بين كل من طوائف المسيحيين واليهود والمسلمين والسيخ والبوذيين، وهو توتر نما في أحيان كثيرة ليكون تحرشا عنيفا وقتلا طائفيا وتطهيرًا عرقيا - وأمامنا أفريقيا كمثال آخر - في القرن العشرين والتطهير العرقي الذي أصاب الملايين بالموت والدمار.

وفي اعتقادي أن انعدام مبدأ المساواة هو لب المشكلة، حين تبدأ جماعات بعينها تتنادى بميزة عرقية تميزها عن سواها من الجماعات الأخرى، بالرغم من الاكتشاف العلمي المذهل الذي أثبتته دراسة عن الجينات البشرية وعلاقة الذكاء الإنساني بالعرق واللون، نشرتها مجلة «نيتشر جينيتكس» العلمية، بمساهمة فرانسيس كولينز المهندس القائد لمشروع الجينوم (الأطلس الوراثي)، والتي أثبتت أن كل إنسان يشارك أي إنسان سواه بنحو 99.9 في المائة من الحامض النووي؛ المادة الجينية للإنسان، وأن ما يتبقى من تلك النسبة ضئيل جدا، وهو يختلف بين الأشخاص المنتمين للعرق نفسه بنسبة أكبر من اختلافه بين عموم البشر.

إن الخطأ الأكبر في الشأن الثقافي هو أن تتعامى الدولة عن الاختلافات بين الجماعات المكونة لها، وألا تعترف بحقوق هذه الجماعات المتنوعة، ولذلك يكون إصلاح هذا الخطأ بالمعرفة والاعتراف؛ معرفة الاختلافات المحددة لكل جماعة والاعتراف بحقها في ممارساتها الثقافية.

ولا يقف الشأن الثقافي عند حدود اللغة، بل إن شمولية الثقافة تعني الآداب والعادات والتقاليد، مثلما تعني أيضا استقلال الممارسات الدينية، وهذا كله لا يتحقق إلا بدولة حرة مدنية وديمقراطية، تحترم الجماعات فيها استقلال الدولة، وتوفر الدولة لمواطنيها حرياتهم الثقافية الشاملة وتوفر البنية السياسية والاقتصادية لتلاقي تلك الهويات وتصهرها في بوتقة «التنوع من أجل الوحدة»، وليس العكس.

ويطرح بعض علماء الاجتماع، أمثال آندرياس فوليسدال في كتابه «حقوق الأقليات»، مسألة مهمة تتبلور في إدراك وجود أفراد يسعون إلى تغيير الانتماءات الثقافية والآراء الدينية وهو صراع متجدد مرافق للوجود البشري، والمهم هنا ألا تُستخدم الدولة كأداة قسرية لفرض إرادة مثل هؤلاء الأفراد، فالناس يعيشون بانسجام في مجتمعاتهم، ويخضعون للعرف السائد، والتقاليد المشتركة، ولكن ظهور مثل هؤلاء الأفراد الرافضين لمسايرة الجموع لا يعني استخدام السلطة الجائرة للدولة لمعاقبتهم جنائيا، بل سيكون على الدولة الحرة المدنية الديمقراطية أن تحميهم من أن يتعرضوا للتمييز العنصري في الحياة والعمل لمجرد أنهم مختلفون.

سأذكر مثالين، في بريطانيا، الأول يتعلق بذبح الحيوانات، إذ إنه بموجب قانون ذبح الدواجن الصادر سنة 1967م وقانون المذابح لسنة 1979م يمكن للمسلمين واليهود أن يذبحوا الدواجن والحيوانات في المسالخ وفقا للطرق التقليدية، التي تسمح لهم باستمرار تناول اللحوم، وهذه الطرق التقليدية تتعارض مع قانون الطرق الإنسانية للذبح التي تفرضها الحكومة البريطانية، التي سمحت للمختلفين بممارسة حق يرتبط بالدين المخالف للعموم من سكانها، الذين صوتت أغلبيتهم في 1988م بنسبة 77% ضد الذبح الديني. هنا لم تستطع الأغلبية فرض رأيها بسبب ما تمنحه الدولة للجماعات فيها من حريات.

والثاني، هو الاستثناء الخاص الذي حصل عليه السيخ المعممون في بريطانيا، حيث سن البرلمان سنة 1976م استثناء خاصا لراكبي الدراجات النارية من بينهم من ارتداء الخوذات الواقية الضرورية لسلامة الطرق، وهكذا صوت البرلمان لهذا الحق المثير للجدل لأنه أراد الحفاظ على الحرية الدينية لمجتمع السيخ في بريطانيا، لأن شرط اللوائح التي تتطلب ارتداء الخوذة مخالف لحرية الأديان المنصوص عليها في الاتفاقية الأوربية لحقوق الانسان.

ومثل تلك الاتفاقية ظهرت دساتير كثيرة لمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وهو ما ساعد في الحد من سلطة الدولة وتذرعها بمبدأ السيادة كي تنتهك حقوق المواطنين، ولذلك أصبحنا نجد محاكمات لجرائم ترتكب ضد الإنسانية، وهو ما وسع من المساحة الممنوحة للحريات.

وإذا كان الدين يمثل المحرض الأساس على الصراع، فإن عبارة المؤرخ الشهير إدوارد جيبون، مؤلف اضمحلال وانهيار الامبراطورية الرومانية، تفرض نفسها على المحك، إذ يقول: كان الجميع ينظرون إلى مختلف أنساق العبادات السائدة في الإمبراطورية الرومانية على أنها صحيحة على نحو متساو، بينما ينظر إليها الفلاسفة على أنها فاسدة دون استثناء، في حين كان الحاكم الروماني يراها مفيدة بقدر متساو، ولذلك فلم يعم الإمبراطورية الرومانية التسامح الديني فقط، بل غشاها الوئام الديني بالمثل، وهو ما يتناقض مع اضطهاد الدولة الرومانية للمسيحية في أول ظهورها.

وإذا كنا ندعو إلى دولة غير دينية، بمعنى عدم استخدام الدين في السياسة، تحتفي بالديمقراطية، فعلينا أن نعترف بأن الديمقراطية أكثر من مجرد مسوغ للاحتفاء بالاختلاف، لأن الديمقراطية نظام سياسي يشتمل على الثقة المتبادلة، والالتزامات الأخلاقية في المجتمع دون تمييز.

المغرب العربي.. الحالة الأمازيغية

في منطقتنا العربية، تبرز قضية حقوق الأمازيغ واحترام اختلافاتهم الثقافية، كواحدة من أبرز قضايا المغرب العربي، وقد شهدت المملكة المغربية خلال العقدين الأخيرين خطوات ملموسة من قبل الدولة تمنح الأمازيغ حقوقا طالما نادوا بها.

ففي 1994م دعا الملك الراحل الحسن الثاني إلى إدماج اللغة الأمازيغية في برامج التعليم، وبدأ بث تلفزيوني لنشرة أخبار مسائية باللهجات الأمازيغية. وفي 2001م أعلن الملك محمد السادس عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وهو ما أفرز بعد عامين وحسب تجربة تدريس اللغة الأمازيغية في 120 مدرسة مغربية، واعتماد الكتابة بأبجدية تفناغ الأمازيغية التي نالت اعترافا دوليا سنة 2004م. ثم أصدر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية «كتاب النحو المرجعي للغة الأمازيغية» في العام 2008م، وبدأ مشروع تأسيس تلفزة ناطقة باللغة الأمازيغية في العام التالي. وشكلت هذه المبادرات المغربية نموذجًا لدى الدول التي يعيش فيها الأمازيغ، فأنشأت الجزائر أكاديمية اللغة الأمازيغية والمجلس الأعلى للغة الأمازيغية، كما شكل رحيل الديكتاتور الليبي منعطفا جديدًا وأملا للأمازيغ في التمتع بحقوقهم الثقافية في ليبيا.

وفي ظني أن دمج الأمازيغ في المجتمع لم يكن ليأتي قسرًا، حيث إن الحقوق الممنوحة تعد مبادئ أساسية كفلتها الدساتير القائمة بالفعل.

إن اللغة - على سبيل المثال - هي حق أصيل، فنحن ندرس في مؤسساتنا التعليمية لغات أوربية، كالإنجليزية والفرنسية والألمانية، ونمنح الحق للجاليات بتدريس لغات بلادها، مثلما تتيح دول الخليج العربية الفرصة لأبناء الجاليات الآسيوية في دراسة اللغات الهندية والباكستانية والفلبينية، فكيف يمكن أن نحرم أقوامًا هم جزءٌ من أوطاننا وشعوبنا من حق أصيل في تعليم أبنائهم لغتهم؟!

إن الاستعمار الأوربي، الذي فرض لغته في مناهج التعليم، كان يدرك ـ مثلما ندرك نحن اليوم ـ مدى أهمية اللغة في ربط المواطن بأرضه وثقافته. لهذا كانت اللغة الفرنسية، على سبيل المثال، منفى ثقافيًا للعربي عن أرضه التي يقيم عليها. إن تعلم اللغة العربية واجبٌ على جميع أبناء الأمة العربية، ولكن تعلم اللغات المحلية ـ كلغات ثانية أو ثالثة ـ هو مما يؤكد على التواصل بين أبناء الشعب الواحد، ويربط الأبناء بتراب وطنهم، فهذا التراث الشفاهي والمدون، والذي يعد جزءا أصيلاً من الهوية الثقافية، لن يحافظ عليه إلا بالحفاظ على لسانه وهو بالتالي يشكل إغناءً وإخصابًا للثقافة الوطنية الأم.

ويبقى الأمر الأهم هو الحفاظ على سيادة الدولة، من جهة، والاحتفاظ بهوية الجماعات الثقافية المختلفة حية، من جهة أخرى.

جمهورية العراق: المسألة الكردية

ولا يعني استقلال اللسان الذي ننادي به الانفصال بالأرض، لأن الموزاييك الثري والمتنوع والمتعدد على امتداد الأرض العربية يفرض علينا المناداة بالوحدة التي تكتسب قوتها بالتنوع. وأعني هنا بالتحديد المسألة الكردية في جمهورية العراق، فالحقوق الممنوحة للأكراد لا تعني ـ بأي وجه ـ التفكير في/ أو الاستجابة لأية دعاوى تقسيم للوطن الواحد.

وقضية الأكراد لا تهم العراق وحده، فهم في تركيا بين 15 و20 مليون نسمة يعيشون على 29% من الأراضي التركية، وفي إيران يتراوح عددهم بين 9 و12 مليون نسمة يقيمون فوق 12% من الأراضي الإيرانية، أما بالعراق فهناك ما بين 6 و8 ملايين نسمة يسكنون 29% من الأراضي العراقية، ويبلغ عددهم في سوريا نحو 2.5 مليون نسمة، بينما يتراوح عددهم في الاتحاد السوفييتي السابق بين 1.5 و2.5 مليون نسمة، فيما يعيش بالمهجر حوالي مليوني كردي، وهذه الملايين تتحدث بثماني عشرة لهجة كردية مختلفة، وأن الاختلافات السياسية مهدت لنشوب قتال بدأ في مايو 1994م بين حزبين كرديين على أرض العراق، هما «حزب العمال الكردستاني» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني». هذا يعني أن الخلاف إذا استسلمنا له يمكن أن يشتت أبناء القومية الواحدة، ويعني ـ مثالا ـ أن اختيار لغة كردية موحدة قد يكون عاملاً مشجعًا على تكريس حقوق ثقافية لهم.

ولعلي أختتم فأقول إن حقوق الأكراد - مثل حقوق الأمازيغ - يمكن أن تُمنح دونما المساس بحقوق ثابتة وأصيلة للدول في الحفاظ على وحدتها، لأن الاستجابة لأية دعوات انفصالية يمكن أن يحول دول العالم المائتين إلى أكثر من ألفي كيان سياسي مشتت، وهي فوضى نظرية، وعبث يبعد عن فرضية الاحتمال.

السودان بين الاستقلال والانفصال

كان السودان، منذ عقد اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا في ‏19‏ يناير ‏1899‏م خاضعا لحكم بريطاني - مصري، قانونيًا، ولكنه كان حكمًا بريطانيًا منفردًا، إذا نظرنا إلى أرض الواقع.

ومع قيام ثورة 23 يوليو 1952م، ووجود اللواء محمد نجيب على رأس قيادييها، حظيت الثورة بتأييد الشعب السوداني لأن الكثيرين اعتبروا القائد يجمع بين الهويتين المصرية والسودانية، باعتبار أن محمد نجيب نصفه مصري ونصفه سوداني بحكم مولده ونشأته ومسيرته الدراسية في وادي حلفا ثم انخراطه بكلية جوردون بالخرطوم وعلاقاته الوثيقة بأهل السودان.

كانت القضية السودانية لدى محمد نجيب مختلفة كلية عما حاولت الأحزاب المصرية قبيل الثورة وطيلة 7 عقود تكريسه، بأن يكون لملك مصر حق السيادة على السودان، فقد آمن نجيب بحق السودانيين في تقرير مصيرهم‏، وعقد مع زعيم حزب الأمة عبد الرحمن المهدي حين زار القاهرة اتفاقًا مرضيًا للطرفين يوم ‏29‏ أكتوبر‏1952‏م، ثم أقنع نجيب الأحزاب السودانية بأن تلتئم تحت مظلة حزب واحد هو الحزب الوطني الاتحادي باتفاق وقعه زعماء الأحزاب في منزل محمد نجيب يوم ‏3‏ نوفمبر واختير اسماعيل الأزهري ليكون رئيسًا لهذا الحزب، وقد فاز هذا الحزب بأغلبية مجلسي النواب والشيوخ.

ولكن غياب نجيب عن الساحة المصرية، أثار مشاعر السودانيين الذين كانوا يعتبرونه رمز الاتحاد بين البلدين، وبعد استفتاء شعبي حول استقلال السودان عن مصر، عقدت في أول يناير‏1956‏ جلسة تاريخية للبرلمان السوداني أعلن خلالها رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري استقلال السودان ثم أخطر أعضاء البرلمان أنه قد تلقى اعترافًا بهذا الاستقلال من جمال عبدالناصر رئيس وزراء مصر وسلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وهكذا تم استقلال السودان.

بعد 55 سنة من هذا الاستقلال، وعن طريق الاستفتاء الشعبي أيضا لأبناء جنوب السودان، ولأسباب أعلن الجنوب أنها تتعلق بعدم احترام حقوقه الثقافية، انفصل الجنوب عن الشمال في محنة تاريخية قاسية - ندعو ألا تتكرر في الأرض العربية.

لا يمكننا أن نقدم نموذجًا أكثر وضوحًا من انفصال الجنوب السوداني عن شماله كنتيجة لعدم الاعتراف بالاختلافات الطبيعية الثقافية والعرقية، واحترامها داخل النسيج الواحد لجمهورية السودان التي عانت بسبب الحروب الأهلية طويلا، ولا تزال على الحدود بين الجمهوريتين المنفصلتين قلاقل ونزاعات وصراعات تهدد سلامة أبناء السودان.

ومع وجود فارق ضخم بين ما حدث بسببه الاستقلال عن مصر، وما أفضى إلى الانفصال بين شمال السودان وجنوبه، يبقى الأمر مرتكزًا على أهمية الالتفات إلى الفوارق الثقافية والدينية والعرقية التي تكرس لاتحاد أبناء الأمة الواحدة أو تؤدي إلى تنافر أفرادها.

عالم من المهاجرين

اليوم نحن نعيش في كوكب المهاجرين، لا يخلو بلد من لاجئين إليه، سواء بالعمل أو الإقامة العائلية أو النفي. من الجيد ألا يتعرض المهاجرون إلى دول ديمقراطية لعقوبات جنائية إذا احتفظوا بطرائقهم الخاصة في العبادات والأزياء والطعام والتواصل، إذا كانت هذه القواعد لا تتعارض مع قوانين البلاد التي يهاجرون إليها.

إن جميع المجتمعات تضم بدرجات متفاوتة مجموعة متنوعة من الديانات واللغات والأقليات العرقية والممارسات الثقافية ـ كما يقول كوكاثاس في كتابه «التسامح الثقافي» ـ وهذا مما يوجب وجود معايير تنظم التفاعل بينهم، وهو تفاعل لا يمكن تجنبه.

إن الأمركة التي تفرض على المهاجرين إلى الولايات المتحدة التكيف، من أجل النجاح المادي، وتشمل تعلم اللغة الإنجليزية، لا يتم تطبيقها في دول مثل ألمانيا، التي تمنح الجنسية حتى لمن لا يتحدث الألمانية. ولكن الحقوق التي لا نتحدث عنها قد لا تطال الجنسية، وإنما نعني بها الممارسات الثقافية المحددة لهوية المجتمعات المختلفة.

يجب أن أشير هنا إلى الحقوق الممنوحة للقادمين للعمل في دول الخليج العربية من جميع أقطار العالم، وهي حقوق تتفاوت بين بلد وآخر، ولكنها، على الإجمال، تمثل دعوة للمساواة تمنح القادمين حقوق ممارسة الشعائر الدينية، وإحياء التقاليد الثقافية، والانخراط في التعليم بجميع وجوهه وألسنه، والمشاركة في نسيج المجتمع وفق حاجاته. ولا يعاقب أحد بسبب انتماءاته الثقافية المغايرة.

إن العالم «المتحضر» يسعى للحفاظ على الأنواع النادرة من النباتات والفصائل التي تتعرض للخطر من الحيوانات، فينشئ لها محميات خاصة، وحدائق مفتوحة، وصوبات مغطاة، وإذا كنا نفعل ذلك مع الكائنات الحية التي تتمتع بندرة تماثل الأقليات الثقافية، أفلا يحق للبشر ذلك؟!

لتكن الثقافة وطنًا حاميًا للتعدد والاختلاف، ولتكن الدول الحرة المدنية الديمقراطية حاضنة للهويات المختلفة، فالوحدة في التنوع، واحترام التعدد الثقافي يمثل وطنًا أكبر يحمي هذا التنوع.

 

سليمان إبراهيم العسكري