بعد جولة أولى خاطفة في طنجة، كان عقلي يضج بما أتذكره مما
قرأت عنها من كتّابها الأشهر؛ محمد شكري، الطاهر بن جلون، بول بولز، تينسي وليامز
وغيرهم، فإذا بي أرى أكثر من مدينة في مكان واحد، أستدعي التاريخ عبر البنايات التي
يشير معمارها لحقب تاريخية مختلفة، أتأمل البشر في محاولة لمعرفة ما تفيض به الوجوه
تعبيرًا عن روح المدينة أو سرها، بلا جدوى، أتنشق هواء المحيط على الكورنيش البديع
تارة، وأحتسي الشاي المنعنع على مقهى بنكهة المتوسط تارة أخرى. أتتبع طيف زوار
المدينة من أشهر كتاب وفناني العالم فيما تداهمني بين آن وآخر هبات من رياح أسطورية
تتمتع بها هذه المدينة الرابضة من شاهق الشمال الإفريقي المغربي؛ تطل على العالم،
تحرس مضيق جبل طارق، تتأمل العابرين عبر المضيق.
تقول الأسطورة الشفوية المتداولة بين الناس بمدينة طنجة: إنه بعد
الطوفان ضلت سفينة نوح الطريق وهي تبحث عن اليابسة، وذات يوم حطت حمامة فوق السفينة
وشيء من الوحل في رجليها، فصاح ركاب السفينة «الطين جا.. الطين جا»، أي جاءت الأرض
اليابسة، ومن ثم سميت المنطقة «طنجة».
أما الأسطورة الإغريقية فتقول: إن شخصًا أسطوريًا يدعى «آنتي» كان
ابنًا لكل من «بوسيدون» و«غايا»، وكان يهاجم المسافرين فيقتلهم وصنع من جماجمهم
معبدًا أهداه لأبيه، وأطلق على مملكته اسم زوجته «طنجة» - بكسر الطاء وسكون النون-
وكانت تمتد من سبتة إلى «ليكسوس» مدينة التفاحات الذهبية قرب العرائش.
وفي معركة قوية بين هرقل وآنتي استطاع هرقل أن يهزمه، وفي الصراع شقت
إحدى ضربات سيفه مضيق البوغاز بين أوربا والمغرب والمغارات المشهورة باسمه، ثم تزوج
بعد ذلك زوجة «آنتي»، فأنجبت له سوفوكس الذي أنشأ مستعمرة «طنجيس».
مغارة هرقل.. في قلب الأسطورة
استدعيت هذه الأسطورة بينما أقف في عمق المغارة التي تحمل الاسم نفسه
«مغارة هرقل» طالاً من كُوّتها الشهيرة؛ التي تبدو مثل حفر في الصخر لخارطة إفريقيا
محفورة في جدران المغارة، لتطل منها على الأطلسي في منطقة التقائه مع البحر
المتوسط، وحيث يمكن لمن يتأمل ويدقق النظر أن يرى مدينة «تاريفا» الإسبانية أقرب
مدن إسبانيا إلى طنجة.
أتأمل المغارة التي لا تبدو كبيرة المساحة مضيئة بالشمس المقبلة من
الكوة، وبمصابيح داخلية صغيرة، أحاول أن أتخيل المكان الذي اتخذه هرقل بين جنباتها
مقرًا له، ثم الأركان والزوايا التي اتخذها من بعده جنود من حماة المدينة أو
مغامرون ملاذًا، آمنا وحصينًا للاختباء وإدارة مغامراتهم، وصولاً للكسالى والعاطلين
في العصر الحديث، وبينهم العشاق الذين ترددت أنفاسهم بهمسات عشقهم داخل
المغارة.
تأملت جدران المغارة الداخلية الصخرية مرة أخرى وأنا أغبطها لما
تمتلكه من أسرار، وحدها كانت شاهدة عليها: خطط حربية، مؤامرات، أو ربما حكايات
وليالي سمر، أبطالها قادة عسكريون، ورحالة، ومارة أجانب وأفراد من أهل طنجة، وبينهم
عشاق كانت لهم ربما نزوات وهمسات لم يصغ أحد غير من نطق بها سوى جدران المغارة.
لكنني عندما تذكرت الرسم الهزيل المتخيل لهرقل، كما صوره رسام متوسط
الموهبة، على الجدار الذي يقود لمدخل المغارة ابتسمت ابتسامة واسعة، إذ يلطمني
الرسم الركيك فتتأرجح كل معرفتي بالمغارة على الحدود بين الشك واليقين..بين الحقيقة
والأسطورة.
تجولت في المدينة بمفردي تارة، وبصحبة الصديق الكاتب عبد الرحيم
العلام مرات، اصطحبنا فيها أيضا الزميل المصور. لكن زيارتي السابقة لطنجة التي
أخفقت بها في إيجاد المكان الذي يقع فيه المطعم الذي كان الكاتب المرموق محمد شكري
يتناول فيه طعامه يوميا ويمارس الكتابة احيانا دفعاني لكي أجعل من إيجاد هذا المكان
أولوية كبيرة.
اقتفاء أثر محمد شكري
ثمة غواية ما في اقتفاء أثر محمد شكري، ليس فقط من قبيل اهتماماتي
الأدبية لكن، أيضًا لأن معرفتي الأولى، قراءة، بطنجة جاءت بعد أن قرأت كتابيه
الأشهر «الخبز الحافي» و«الشطار»، ثم كتبا أخرى غير روائية مثل كتابه عن بول بولز
وكتاب السوق الداخلي، الذي سيكون محلاً لزيارة في هذا الاستطلاع.
كانت طنجة صاحبة دور البطولة في أغلب أعمال شكري، وبدت لي مدينة هجينا
بين القديم والجديد، التراث والحداثة، المحلي والأجنبي، إفريقيا وأوربا، الأبواب
العتيقة المغلقة على القصاب والمحيط الشاسع المترامي اللانهائي.
ولعل هذا ما يمكن أن يشعر به المار بهذه المدينة بسهولة في الإحساس
بالانتقال من حالة مكانية إلى أخرى، فيوازيه شعور بعبور من زمن لآخر، من مثل
الانتقال بين زيارة لفندق «الريتز» الذي قضى به شكري جانبًا من حياته، في الجزء
الحديث من المدينة بأبنيته المنتشرة في منطقة البحر المتوسط الحديثة كما نراها في
الإسكندرية مثلا، وزيارة أخرى للقصبة، أو لبيت «ابن بطوطة» الواقع في زقاق من أزقة
إحدى ربوات منطقة القصبة العتيقة حيث العمارة هنا تعود بنا للعصر الأندلسي، فيما
زيارة للسوق الداخلي سوف تستعيد المعمار الإسباني الكولونيالي المعروف
بالمورسكي.
مع ذلك، يبدو أن اغلب من كتبوا عن طنجة استهواهم الجانب الأسطوري فيها
فكتبوا ما يشبه أجواء ألف ليلة وليلة، أكثر مما كتبوا عن الواقع، وقد كان ذلك سببًا
في انتقاد محمد شكري للغالبية العظمى ممن كتبوا عن طنجة: «إن أكثرية ما يكتب عن
طنجة اليوم هي كتب بطاقات بريدية . قد يمكث في طنجة كاتب ما أسابيع ويكتب عنها
كتابًا متبجحًا بما يعرفه عن خفاياها، وجغرافيتها السرية وأمجادها الغابرة
والمشاهير الذين عبروا بها أو مروا بها. إنهم لكثيرون الذين يكتبون عن المغرب
بطاقات بريدية فيهرجون الكتابة ويسطحونها بحثًا عن شهرة مجانية، فقاعية، وزبائنهم
القراء أيضا، هؤلاء المرضى بالافتتان، والغرائبي وما ورثوه من ألف ليلة وليلة أو ما
تبقى من ذاكرتهم منها».
وربما يعود الولع بالكتابة عن طنجة إلى كثرة عدد من زاروها من
المشاهير، بعضهم آثر أن يبقى بها بقية حياته كما فعل الكاتب الأمريكي بول بولز،
وبعضهم مر بها أو استقر فترة بها مثل وليام بُرّوز، آلن جينسبرج، وجاك كرواك، وهم
من جيل الغضب الأمريكي الذين مثلت كتاباتهم في الخمسينات ثورة على المجتمع الأمريكي
وقيمه. وهناك عدد آخر من المشاهير ممن مروا بطنجة وأغرموا بها من الفنانين
والسياسيين والكتاب والبوهيميين، بل أيضا من الجواسيس والمغامرين القادمين من أرجاء
العالم. ومن بين هؤلاء الكتاب المشاهير مثلا المسرحي الأمريكي تينسي ويليامز الذي
استلهم أجواء طنجة في بعض مسرحياته، والكاتب الفرنسي جان جينيه الذي قضى فترة في
المدينة وكان صديقًا لشكري وغيرهما. ومر أغلب هؤلاء الكتاب، بين عدد كبير من
المقاهي على مقهى شهير في وسط المدينة قريبًا من شارع محمد الخامس والمعروف باسم
«مقهى باريس».
وكان لي حظ زيارة هذا المقهى الشهير بصحبة الكاتب المغربي الطاهر بن
جلون الذي صادف وجودنا في طنجة وجوده فيها، وهو ما منحنا فرصة لإجراء حوار خاطف
ينشر مع هذا التحقيق. حوار لعبت فيه مدينة طنجة دور البطولة خصوصا أن بن جلون،
إضافة لاختياره المدينة ذاتها لكي يقيم بها خلال فترات وجوده في المغرب، كتب كتابين
لعبت طنجة دورًا في أحداثهما وهما روايتا «يوم صامت في طنجة» و«أن ترحل» التي تناقش
فكرة هجرة أبناء طنجة إلى إسبانيا.
ساحة الكسالى
وعلى ذكر المقهى ورواية «أن ترحل» يتداعى الآن لذهني موقعًا قريبًا من
هذا المقهى الواسع المطل على ميدان محمد الخامس، بالأحرى ساحة صغيرة عالية محاطة
بمدفعين من بقايا مدافع الاحتلال الإسباني (سنعود للتاريخ الذي فصل طنجة عن المغرب
على يد احتلال متعاقب لكل من إنجلترا والبرتغال وإسبانيا حتى عودتها للحكم المغربي
في العام 1956). هذه الساحة المطلة على المحيط، تسمى ساحة الكسالى، أو ساحة
العاطلين، وجزء من هذا الكسل يبدو لمن يتأمل وكأن شبابًا كثرًا يجلسون هنا ويتطلعون
للجانب الآخر حيث يبدو في نهاية المضيق تلال إسبانيا القريبة حلمًا وأملاً للكثير
من أبناء طنجة. وفي الوقت نفسه نجد أن المدينة نفسها هي أمل الكثير من الأجانب
الذين يتمنون الحياة فيها، وهذا مظهر آخر من مظاهر التناقضات التي تحياها
المدينة.
يمكن ملاحظة هذه الظاهرة بشكل أكبر في مقهى الحافة، وهو واحد من
المقاهي التي اعتاد شكري ارتيادها، وهو مقهى مفتوح يقع أعلى ربوة عالية يطل
الجالسون فيه على المحيط الأطلسي الساحر، بينما ينقسم المقهى إلى مستويات مثل مصاطب
مدرجات ملاعب كرة القدم، تتناثر فيها الأشجار، بكل منها تتراص مجموعة من الطاولات
النحاسية الصغيرة والكراسي، فيما تمرح أسراب النحل بين الحضور وأكواب الشاي
بالنعناع التي يشربها الرواد وأغلبهم شباب من الفتيان والفتيات. وبإمكانك أن ترى أن
المشهد المقابل الذي ترى منه إسبانيا القريبة لا بد أن يداعب خيال أي ممن لم يجد
فرصة للعمل أو الكسب بعد.
مقهى الحافة.. إطلالة على إسبانيا
في رواية «أن ترحل» للطاهر بن جلون يقول في أحد مقاطعها: «في طنجة،
يتحول مقهى الحافة خلال فصل الشتاء مرصدًا للأحلام وتبعاتها. وكأن قطط المصاطب
والمقبرة وفرن الخبز الكبير في مرشان تجتمع هناك لكي تشاهد العرض الجاري بصمت ولا
يخدع أحدا، شيشات الكيف الطويلة تُنقّلُ من طاولةٍ إلى طاولة، وأقداح الشاي
بالنعناع تبرد مطوقة بنحلات تسقط في آخر المطاف ولا يحرك الزبائن ساكنًا لاستغراقهم
(..) ولا يرفع أحد منهم رأسه. آخرون يجلسون على حصر مسندين ظهورهم إلى الجدار،
وعيونهم شاخصة نحو الأفق كأنهم يقلبونه بحثًا عن أقدارهم (..) يتطلعون إلى البحر،
إلى الغيوم التي تختلط بالجبال، منتظرين تلألؤ الأنوار الأولى من جهة إسبانيا».
بعد مغارة هرقل اخترنا الانتقال إلى المنطقة العتيقة حيث السوق
الداخلي الذي يعد سوقًا شعبيًا تنتشر فيه المتاجر بكل ألوان التجارة من الخضراوات
التي تتراص على الرصيف، إلى الأغذية والحلوى، إلى الأدوات الصحية والكهربية حتى
الصناعات التقليدية الشعبية، وغير ذلك، تتجاور المحال فيه على الجانبين، ويعلو
مستوى الطريق الضيقة التي تفصل بين صفي المحال تدريجيًا حتى يصبح الأمر شاقا كلما
اقتربنا من قمة الطريق. بينما تعلو تلك المحال، التي تحمل عبق التاريخ، بنايات من
العمارات ذات الطابع الإسباني الموريسكي، والتي تسبغ على المكان طابعا شعبيا يختلط
بالروح الكولونيالية كما هو شأن العديد من المناطق السكنية الشعبية في الإسكندرية
مثلا وفي غيرها من مثل هذه المدن الساحلية المتوسطية.
قبل الدخول إلى السوق الداخلي عبر البوابة المقوسة المزخرفة بالنقش
الأندلسي التفت إلى ميدان 9 إبريل وهو ميدان كبير تتوسطه نافورة من الرخام ويطل
عليها الجامع الكبير الأندلسي الطراز بمنارته المربعة المميزة، وألوان سقفه الأخضر،
وعندما قرأت عنه لاحقًا عرفت أنه كان قد تحول إلى كنيسة خلال فترة الاستعمار
البرتغالي، وبعد استرجاعه سنة 1684م على يد العلويين،عرف عدة أعمال ترميم وتوسيع.
واستخدمت في معماره المميز كل فنون الزخرفة من فسيفساء وزليج وصباغة ونقش ونحت
وكتابة على الخشب والجبس. ويتضمن هذا المسجد بيتًا للصلاة مكونًا من ثلاثة أروقة
متوازية مع حائط القبلة وصحن محاط من كل جانب برواقين، وبذلك يعتبر نموذجًا للمساجد
العَلَوية (نسبة للمرحلة العلوية في تاريخ المغرب) المعروفة ببساطة هندستها.
تاريخ طنجة
وبما أن هذا الجامع جميل العمارة قد عاد بنا إلى تاريخه، فلعله يكون
مناسبًا الإشارة إلى تاريخ عام لهذه المدينة كما تورده بعض المصادر التاريخية.
والمعروف أن طنجة أنشأها القرطاجيون في القرن الخامس قبل الميلاد وسرعان ما تبوأت
مركزًا تجاريًا على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وضمتها الإمبراطورية الرومانية في
القرن الأول قبل الميلاد وأصبحت ولاية رومانية، وعقب سقوط الإمبراطورية الرومانية
استولى الوندال على طنجة في القرن الخامس الميلادي، ثم البيزنطيون في القرن السادس،
وعاد الرومان لاحتلالها مرة أخرى حتى فتحها الأمويون عام 702.
استعادت طنجة حيويتها مع انطلاق الفتوحات الإسلامية لغزو الأندلس على
يد طارق بن زياد سنة 711م، ثم من طرف المرابطين والموحدين الذين جعلوا من طنجة
معقلاً لتنظيم جيوشهم وحملاتهم. بعد ذلك تتالت على طنجة فترات الغزو الإسباني
والبرتغالي والإنجليزي منذ 1471م إلى 1684م، والتي تركت بصماتها حاضرة بالمدينة
العتيقة كالأسوار والأبراج والكنائس مما يمكن أن تراه في مواضع عديدة من الجزء
العتيق من المدينة.
لكن تبقى أهم مرحلة ثقافية وعمرانية مميزة في تاريخ طنجة الوسيط
والحديث هي فترة السلاطين العلويين خصوصا المولى إسماعيل وسيدي محمد بن عبد الله.
فبعد استرجاعها من يد الغزو الإنجليزي سنة 1684م في عهد المولى إسماعيل، استعادت
طنجة دورها العسكري والدبلوماسي والتجاري كبوابة على دول البحر الأبيض المتوسط،
وبالتالي عرفت تدفقًا عمرانيًا ضخمًا، فشيدت الأسوار والحصون والأبواب. وازدهرت
الحياة الدينية والاجتماعية، فبنيت المساجد والقصور والنافورات والحمامات والأسواق،
كما بنيت الكنائس والقنصليات والمنازل الكبيرة الخاصة بالمقيمين الأجانب، حتى أصبحت
طنجة عاصمة دبلوماسية بعشر قنصليات سنة 1830م، ومدينة دولية يتوافد عليها التجار
والمغامرون من كل الأنحاء نتيجة الامتيازات الضريبية التي كانت تتمتع بها.
شهد عام 1921 انتصارًا مغربيًا على يد الأمير عبد الكريم الخطابي الذي
انتصر على الجيش الإسباني في المغرب، ما أدى إلى المزيد من الفتن في إسبانيا وطالبت
الأحزاب بعودة الحياة النيابية وحقق الجمهوريون بقيادة زامورا فوزًا ساحقا وطالبوا
الملك عام 1931 م بالاستقالة فهرب من البلاد دون أن يستقيل فأعلنت إسبانيا جمهورية،
وكان لذلك أثر كبير على تحرر طنجة نسبيًا.
بلغ عدد سكانها مطلع القرن العشرين حوالي 40 ألف نسمة بينهم 20 ألفا
من المسلمين وعشرة آلاف يهودي مغربي ونحو 9000 أوربي بينهم سبعة آلاف وخمسمائة شخص
من إسبانيا.
وتم نفي آخر السلاطين المستقلين المغاربة مولاي حافظ إلى طنجة في
العام 1912، حيث تم التحفظ عليه في القصبة.
وفي 1923 وقعت كل من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا معاهدة تحولت بمقتضاها
طنجة إلى منطقة دولية، وفي العام 1940 قامت القوات الإسبانية بغزوها واحتلالها مرة
أخرى حتى العام1945. وأخيرًا حصلت على استقلالها الكامل وأصبحت تحت السيادة
المغربية بعد الاستقلال، وبالتحديد في العام 1956.
ولا شك أن هذا التاريخ الذي جعل طنجة لفترة طويلة من تاريخها مأوى
للأوربيين وموضعًا للتأثير الإسباني بشكل خاص، فقد أسهم ذلك في إسباغ هذه الروح
المتعددة على روحها، ومنحها بعض الآثار المهمة وبينها على سبيل المثال مبنى المسرح
الذي يحمل اسم «سرفانتس» والذي تأسس فيها عام 1913، وشهد عروضًا مسرحية وفنية
وموسيقية عالمية على مدى عقود. لكننا عندما وصلنا إليه في أحد الشوارع المتفرعة من
شارع محمد الخامس فوجئنا به مغلقًا إذ تقرر ترميمه منذ سنوات وتعطل المشروع لأسباب
تتعلق بالميزانية التي خصصت لهذا الغرض، وبينها مليون درهم عرضتها الحكومة
الإسبانية للإسهام في ترميم هذا الأثر الفني المهم، الذي يتضمن قاعة مسرح فخمة
ومهيبة تصل عدد المقاعد فيها إلى 1400 كرسي، إضافة إلى آيات من العمارة الداخلية
الإسبانية شديدة التميز والخصوصية.
بشر بلا ملامح
وبينما كنت أسير مع الصديق عبد الرحيم العلام، كانت ملامح الناس
تناوشني، فتاة جميلة جمالا لافتا كما هو شأن اغلب الفتيات هنا في طنجة، عجوز متغضن
الملامح من أثر السنين، يرتدي زيا تقليديا وينفخ في مزمار بألحان عشوائية، شباب
يجلس ساهمًا على مقهى من المقاهي، رجال صاخبون في مقهى آخر، لكنني لم أستطع تكوين
فكرة عن أهل طنجة، فهم مثل المدينة أيضا، ليسوا شيئا واحدًا، ولا شك أن من رأيناهم
أو مررنا بهم في المنطقة العتيقة ممن يبدو عليهم الفقر يختلفون عن الطبقات
البرجوازية الذين يسكنون الأحياء الغنية أعلى تلال المدينة أوالشقق الفاخرة المطلة
على الكورنيش الجميل الذي يذكرك في غير موضع منه بملامح من الإسكندرية، ولا يمكن
الاعتماد على ما كتبه الرحالة الذين لم يختلطوا كثيرًا بأهل طنجة رغم طول إقامتهم،
فأغلب شهاداتهم عن أهل طنجة خصوصًا من سكان الأحياء الفقيرة، عنصرية، وعمياء. لكن
شابة من مراكش مثلا قالت لي ما معناه أن أهل طنجة بشكل عام يبدون أقل ميلاً للتفاعل
الاجتماعي مع الآخرين، وهم يختلفون في شخصياتهم عن أهل المغرب من الجنوب، ورغم ذلك
لم أتمكن من أن أفهم تمامًا. في النهاية أظن أن أهل طنجة مثل أهل السواحل في أي
مكان يتعاملون مع الأجانب، ويعتادون ذلك، فيميلون للتفتح وتعدد الثقافات، ولذلك
تنتشر اللغة الإسبانية هنا إلى جانب الفرنسية على سبيل المثال، لكنهم ربما في الوقت
نفسه وبسبب تعدد من تعاقب عليهم من الأجانب لا يثقون كثيرًا في الغريب.
أما ما لم أفهمه ألبتة فهو أنني في زيارتي الأولى لطنجة قبل نحو ثلاثة
أعوام حين كنت أبحث عن شكري اكتشفت انهم لا يعرفونه.. هالني أن أحدًا ممن سألتهم عن
شكري لم يسمع عنه مطلقًا. كنت أردد لنفسي:لا يعرفون شكري؟! من يعرفون إذن؟
وقد شرح لي الموظف المسئول في فندق ومطعم «الريتز» أن شكري نفسه في
بعض الأحيان كان يصاب بالضجر من إصرار أهل طنجة على عدم معرفته.
خصوصا أنه كان موضوع سؤال مستمر من الأجانب الذين يمرون على المدينة
بالإضافة إلى المثقفين من أرجاء العالم والعالم العربي.
وأشار الموظف إلى موضع قريب من منطقة الاستقبال قائلا بمسحة حزن
اشتبكت بابتسامة تستدعيها ذكرى الرجل الذي وصفه بـ «الصموت»: هنا أحس شكري بالتعب
فجأة، ونقلناه إلى المشفى الذي مات فيه.
ضريح ابن بطوطة
في المنطقة العتيقة قريبًا من مبنى القصبة الأثري التاريخي كنت أتأمل
العمارة الجميلة في طريقنا للبحث عن ضريح الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي كان من أهل
طنجة وتوفي بها.
الطريق إلى القصبة يبدأ ببوابة حجرية مقوسة مشيد أعلاها مبنى عتيق،
وإلى يسارها سور ضخم، وبعد البوابة مباشرة ترى باحة واسعة مبلطة بالحجارة المصقولة،
إلى اليمين توجد مجموعة من المباني العتيقة الجميلة أوربية النمط، نزلنا عدة درجات
بحثًا عن زقاق ابن بطوطة الذي سيقودنا إلى الضريح، لكن مهمتنا فشلت عقب المرور في
الزنقات الضيقة صعودًا وهبوطًا بين بيوت صغيرة تتراص في الزنقات التي تشتبك مع
بعضها كأذرع أخطبوط، حتى طلبنا مساعدة أحد الشباب من أهل المنطقة، والذي اصطحبنا
حتى الضريح بعد متاهة من الممرات الملتوية.
الضريح مبنى أبيض صغير عبارة عن باحة صغيرة لا تتجاوز ثلاثة أمتار في
عرض أربعة أمتار، في أحد أطرافها يقع الضريح المغطى بأقمشة خضراء منسوجة ومنقوشة
بالذهب. وعلى أحد الجدران علقت لوحة بها سيرة ابن بطوطة وهو محمد بن عبد الله بن
محمد الطنجي المعروف بابن بطوطة، الذي ولد في 24 فبراير من العام 1304 في طنجة.
وكان قرر عام 1325 وهو ابن 21 عاماً أن يخرج حاجاً، طامحا إلى أن
يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد الإسلام، فطاف بلاد المغرب ومصر
والسودان والشام والحجاز ثم العراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان حتى وصل
إلى الهند ومنها إلى الصين وإندونيسيا ثم انتقل مرة أخرى إلى أواسط إفريقيا، واتصل
بالكثير من الحكام والملوك وقرض الشعر، ومن هباتهم تمكن من استكمال الرحلة.
عاد إلى المغرب بعد رحلة دامت ثلاثين عاما بناء على طلب السلطان أبي
عنان وأملى أخبار رحلته إلى شخص يدعى محمد بن جزي الكلبي، والتي كانت محصلتها كتابه
الشهير «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» والتي ترجمت لاحقا إلى عدد
من اللغات الأوربية. وتوفي في العام 1355 ميلادية.
تجولنا في منطقة القصبة، وقد تأملت المباني القديمة التي لاتزال تحتفظ
بعمارتها العتيقة وأبوابها الخشبية العملاقة الأندلسية الطابع، وأدركت أنها ربما
تكون المرحلة التاريخية الأكثر تأثيرًا في المغرب كله وليس في طنجة وحدها.
توقفنا أمام أبواب حمام مغربي قديم يحمل اسم «حمام القصبة» له مدخل
تراثي مقوس، ومزخرف الواجهة، كما لفت انتباهنا محل صغير على واجهته لوحة كتب عليها
«نادي البوغاز للموسيقى»، وفيه وجدنا شيخا يعلم الفتيان العزف على الموسيقى بالآلات
الشرقية والغربية.
وأخيرا وجدنا أنفسنا على حافة تطل على الميناء القديم، والذي يعمل
الآن فقط لنقل الركاب بين إسبانيا وطنجة. بعد أن كان الميناء الرئيس هنا للشحن
والنقل, لكن التكدس الرهيب الذي يتسبب فيه وجود الميناء في قلب المدينة، خصوصا في
وقت عودة المهاجرين المغاربة في إجازاتهم، استدعى التفكير في مشروع ضخم وطموح سوف
يؤدي إلى انتقال طنجة نقلة عملاقة اقتصاديًا واجتماعيًا وهو ميناء طنجة المتوسط
الذي قررنا زيارته زيارة خاصة.
الميناء الجديد
ميناء طنجة المتوسط نقلة اقتصادية للمغرب
نجح صديقنا عبد الرحيم العلام في تدبير لقاء لنا مع مدير ميناء طنجة
المتوسط في اليوم التالي، وبترتيب وتنسيق الوزير محمد بن عيسى. في الموعد المحدد
كنا داخل حرم الميناء الشاسع الذي تتراص الحاويات على أرصفته الضخمة، بينما كنا
نسير داخل الميناء كأننا نسير داخل مدينة شاسعة، وأخيرا وصلنا إلى المبنى الإداري
الذي يضم مكتب السيد حسن عبقاري مدير ميناء طنجة المتوسط.
سألت السيد عبقاري عن أسباب إقامة هذا الميناء الجديد وطموحه، فقال إن
الميناء القديم لطنجة كان محصورا داخل المدينة مما تسبب في اختناقات مرورية عدة
واكتظاظ المدينة بالشاحنات، خصوصا في موسم عودة المهاجرين المغاربة إلى المغرب من
أوربا، حيث تعبر الميناء نحو 170 ألف شاحنة في السنة، إضافة إلى رفع نسبة التلوث
بالمدينة، ومن هنا بدأ التفكير في الميناء الذي تأسس وبدأ نشاطه في العام 2007،
ونحن نفتخر بأن الميناء ينتقل عبره اليوم ما يصل إلى ما يزيد على مليون راكب وما
يناهز مليوني باخرة شحن سنويا.
ويشير عبقاري إلى أن الميناء الجديد يتمتع بسمة غير موجودة في القديم،
وهي ما يطلق عليه Zero division position، أي أن الشاحنات بإمكانها أن تصل إلى
الرصيف الخاص بها مباشرة وبالتالي لا تضطر لتغيير طريقها والانتظار لساعات كما كان
الأمر، وهو ما يقلل كثيرا من تكلفة الشحن على ملاك البواخر، ويقلل وقت الشحن كثيرا
ويسهم في سرعة الدورة الاقتصادية.
ويضيف عبقاري: كشفت دراساتنا أن أوربا في العام 2017 سوف يصل فيها عدد
السفن الناقلة الخارجة منها إلى 2 مليون شاحنة، وهكذا خططنا لاستيعاب هذا الضغط
الهائل بإيجاد هذا الميناء الذي يعد ذي موقع مميز جدا في قربه من أوربا.
- من كان يلعب هذا الدور قبل وجود هذا الميناء؟
- كانت هناك موانئ مثل مالطا والجزيرة الإسباني وبرشلونة وفالنسيا
وغيرها من الموانئ.
- وكيف نافستم مثل هذه الموانئ الكبيرة؟
- لك أن تعرف أننا في نحو ثلاثة أعوام ونصف قد انتقلنا من الرقم صفر
إلى رقم 2 مليون باخرة وسفينة شحن، وهذا إنجاز ضخم جدًا، له أسباب، منها المواصفات
القياسية للميناء من حيث إمكان وصول 5 سفن لتفريغ شحناتها في نفس الوقت بالوصول
المباشر للرصيف، حيث إن عمق الميناء يتراوح بين 12 إلى 15 مترا، مع وجود مساحة
شاسعة جدا للبضائع، والمخازن وآليات الرفع.
هذا بالإضافة إلى أننا بهذه الإمكانات قد وفرنا وقت الترانزيت كثيرا،
حيث يكون بإمكان السفينة الواحدة أن تقوم بتفريغ 4 نقلات إلى الميناء في اليوم
الواحد بدلا من ثلاث نقلات، وما يستتبع ذلك من توفير في الوقت والجهد والتكلفة.
- ما هي فرص التنمية للمنطقة التي يحققها هذا الميناء؟
- بالتأكيد نحن بهذا الميناء نخلق فرصًا جيدة للعمل، بل خلق مركز
تنمية اقتصادي واجتماعي في طنجة وشمال المغرب بشكل عام، ومشروع الميناء لم يكن عملا
منفردا، فقد تطلب عمل خدمات واسعة تم إنجازها بالفعل، مثل شبكة طرق جديدة سريعة
لخدمة الشحن من وإلى الميناء، بالإضافة إلى أن هناك خط سكة حديد جديد ينشأ الآن
لخدمة الميناء.
- وعلى الأرض ما هي طبيعة الفرص التي خلقها الميناء لأهل طنجة على نحو
خاص؟
- أحب أن أنوه هنا بأن هناك 5000 هكتار من الأرض مخصصة للخدمات
التابعة للميناء، ومنها مدينة صناعية على بعد 25 كيلو مترا ويلحق بها مدينة سكنية
للموظفين والعمال في المنطقة الصناعية. وقد بدأت شركة «رينو» الفرنسية لصناعة
السيارات بتجهيز مصنع للسيارات في هذه المنطقة انتهى العمل في إنشاءاته وتجهيزاته
وبدأ العمل في مطلع هذا العام بالفعل 2012، بقدرة إنتاجية تصل إلى 400 ألف سيارة
سنويا. هذا المصنع سيوفر 6000 فرصة عمل بشكل مباشر، لكنه، في الوقت نفسه، سيوفر 30
ألف فرصة عمل بشكل غير مباشر في القطاعات المرتبطة بالمصنع مثل النقل وتصنيع المواد
الخام المرتبطة بصناعة السيارات مثل قطع الغيار ومصانع الإطارات وغير ذلك.
- يبدو أن أحد أدوار هذا الميناء إستراتيجيا لعب دور جسر بين أوربا
والمغرب وربما إفريقيا، لكن كيف تحقق هذا على أرض الواقع؟
- أنت تعرف أن الميناء بالفعل يبعد عن إسبانيا 14 كيلومترا فقط، وإذا
كانت الطريق بين طنجة وأوربا عن طريق موانئ أخرى تستغرق نحو ساعتين ونصف فإن الوقت
المستغرق الآن عبر ميناء طنجة المتوسط لا يزيد على ساعة وربع فقط. وهذا يعني تقليل
الكثير من التكلفة أولا من حيث وقود البواخر الذي ينخفض للنصف، وهذا ينعكس أيضا على
إجمالي نفقات النقل والشحن، واليوم نستطيع أن نرى ذلك بشكل عملي، فإذا كانت تكلفة
النقل والتشغيل لكل 12 مترا حوالي 400 يورو، فإن هذه التكلفة اليوم لا تزيد على 270
يورو. من جهة أخرى هذا التوفير في الوقت أصبح يمكن الباخرة الواحدة من أن تزيد
نقلاتها من إسبانيا إلى طنجة بدلا من ثلاث شحنات إلى أربع، وهذا يعني أن التكلفة
اليومية للشاحنة قد قلت كثيرا، وهذا الأمر ينطبق أيضا على تكلفة عبور الأفراد التي
قلت بدورها عن السابق، مقارنة بالسفر بحرا من الموانئ الأخرى. ولكي أعطيك فكرة عن
الفارق أننا في السابق كنا نقوم بشحن 25 ألف حاوية في السنة بينما ننقل اليوم 15
ألف حاوية أي ما كان يتم في سنة يتم الآن في يوم واحد، وبهذا فإن الميناء بالفعل
قام بتفعيل الارتباط بين إفريقيا وأوربا بشكل كبير جدا.
- وهل يؤثر هذا الميناء على موانئ أخرى بالسلب؟
- من وجهة نظر اقتصادية لا أظن ذلك، وأكثر الموانئ التي قد تكون تأثرت
ربما ميناء الجزيرة، لكن ما قمنا باجتذابه منهم لا يزيد عن نحو 10 في المئة من
إجمالي حجم الشحنات التي يمررونها يوميا. فالمنافسة الحقيقية في الواقع هي بين
الموانئ الإسبانية وبعضها البعض خصوصا الجزيرة وفالنسيا على سبيل المثال. ويمكنني
أن أضرب مثالا آخر عبر مينائين بلجيكيين هما روتردام وأنطوس، وهما قريبان جدا من
بعضهما البعض، ويمتلكان مواصفات خاصة في إمكانات تفريغ الشاحنات العملاقة، إذا
استطعنا نحن أن نوفر هذه الإمكانية فإن أصحاب البواخر والشاحنات سيلجأون لنا
بالطبع. وبالتالي فنحن ننافس بنفس المنطق الخاص بين الموانئ الأوربية، بالتالي
فميناء طنجة المتوسط لا ينبغي النظر إليه على أنه ميناء خارج عن المحيط الأوربي، بل
هو جزء من هذا المحيط في مجال الشحن والنقل البحريين، لأننا نقدم خدمات على نفس
المستوى والمعايير الخاصة بالمستثمر والمواطن الأوربي.
بالإضافة إلى أننا، عبر مصنع رينو مثلا وما يستلزمه من تسويق في أوربا
وإسبانيا، نقدم خدمة استثمارية لإسبانيا أيضا وليس العكس.
- فيما يتعلق بسبتة وأومليلة هل يتأثران بهذا الميناء؟
- لا أعتقد، فهذه فكرة قديمة يستخدمها بعض السياسيين من أصحاب الأفكار
التقليدية، لكنها على أرض الواقع لا حقيقة لها، بالعكس نحن بهذا الميناء نجتذب
الأوربيين للمنطقة بما فيها سبتة وأومليلة.
- أخيرا هل التشغيل في الميناء يعتمد على الأجانب أم على المغاربة
فقط؟
- نعتمد على بعض الأجانب، في الحقيقة إن أغلبهم مصريون، فقد استعنا في
البداية على طواقم مصرية من ميناء بورسعيد، لما لديهم من خبرات كبيرة في تشغيل
الموانئ، لتدريب العاملين لدينا وقد أدوا مهمتهم بكفاءة وعادوا إلى مصر مرة أخرى،
لكن ثبت أن العامل المغربي صاحب كفاءة كبيرة حين يحصل على التدريب المناسب، لأن
العمل الآن بالمواصفات القياسية العالمية يتم على يد مغاربة ولا تزيد نسبة بعض
الأجانب الأوربيين من أصحاب الخبرات التقنية والفنية عن 2 في المائة من حجم العمالة
الضخم الذي يعمل في الميناء. ونحن فخورون بأننا الآن كمغاربة ندير هذا الميناء
بكفاءة كاملة.
عندما خرجنا من الميناء وبعد أن تفقدنا رصيف الشاحنات وعمليات تفريغ
الحاويات بالروافع ونقل الركاب، كنت أشعر بانبهار حقيقي من هذا المشروع الضخم الذي
سيغير مستقبل طنجة والشمال بشكل عام، خصوصا بعد الاهتمام الكبير الذي أولاه الملك
محمد السادس للشمال ولزيادة فرص التنمية فيه بقوة وعبر دليل قوي مثل هذا النموذج
التنموي الرائد، ممثلاً في الميناء وملحقاته الخدمية.
توجهت بالسؤال إلى المهندس المدني عبداللطيف الساوري، والذي كان يعمل
سابقا رئيسا لوكالة التسيير الحضاري، وهي الجهاز الحكومي المسئول عن وضع أسس
التخطيط العمراني في مدينة طنجة والأقاليم التابعة لها. يقول المهندس عبداللطيف
الساوري: وكالة التسيير الحضاري لعبت دورًا مهمًا في مواكبة التغييرات الاجتماعية
والاقتصادية التي عرفتها ولاية طنجة، وأنا هنا أقصد دورها في المشروعات الكبرى
وبينها مثلا تخطيط ميناء طنجة والمرافق المصاحبة له، إضافة إلى نحو 2000 هكتار من
المساحات المخصصة للصناعة والتي أقيم على جزء منها مصنع رينو الفرنسي للسيارات
المقام على مساحة 300 هكتار تقريبا، بالإضافة لكل ما لحق بهذا المشروع، مثل تخطيط
السكك الحديدية والمناطق السكنية والترفيهية الملحقة الخاصة بالعاملين في محيط
الميناء.
كما أنجزت خطط التعمير الخاصة بالاستثمارات الخاصة من قبل مستثمرين
فرنسيين وإسبان وبرتغاليين، الذين أقاموا مشروعات لها طابع سكني أو سياحي أو صناعي،
إضافة إلى استثمارات دول الخليج خصوصا الكويت ودولة الإمارات وقطر التي ساهمت بشكل
كبير في نجاح المشروع.
- كيف واجهت الوكالة التوسع العمراني الحديث على حساب المناطق الأثرية
والعتيقة ذات الأهمية التاريخية؟
- مساحة مدينة طنجة العتيقة حوالي 30 هكتارا، أو نحو 25 كيلومترا
مربعا، وقد وضعت الهيئة المخططات اللازمة لحماية هذا التراث الثقافي من الاندثار،
بالتشديد على عدم مس أي جزء من الواجهات للبنايات القديمة خصوصا تلك التي يستأجرها
أو يشتريها أجانب هنا في طنجة أو حتى في مدينة أصيلة. فالعقود المبرمة بين هؤلاء
والملاك الأصليين تلزمهم بعدم المساس بالمباني على أي نحو للحفاظ على تصميماتها
الأصلية، وبالتالي الحفاظ على خصوصية الإرث الثقافي الذي تعبر عنه، وعدم تفريغها من
هويتها المعمارية والتراثية التي كانت السبب الرئيس أصلا في اجتذاب هؤلاء الملاك
لامتلاكها أو استئجارها.
وصحيح أن الخطط الموضوعة لم ينفذ أكثر من نحو 60 في المئة منها، لكن
العمل لا يزال يسير، فالوجود الحضاري لطنجة قديم جدا وبسبب تعدد الثقافات التي مرت
على المدينة اكتسبت تعددية في التراث، وحتى اليوم توجد في طنجة أحياء أجنبية مثل
الحي الإيطالي والإسباني والبرتغالي والتي تتعانق جميعا مع التراث الأندلسي الذي
يعود للحقبة الأندلسية في طنجة.
- وهل توجد أزمة إسكان في طنجة اليوم؟
- مع الأسف نعم، وإذا قلنا إن طنجة في العام 1930 كان تعدادها نحو 40
ألفا، فإن هذا العدد اليوم زاد إلى مليون نسمة، وبالرغم من أن مساحة المدينة زادت
بما يقترب من 30 مرة عن مساحتها في السابق فلاتزال التوسعات لا تلاحق معدل النمو
السكاني، خصوصًا أن التنمية في قطاع الإسكان تأخرت كثيرًا بعد الاستقلال، لأن
المغرب كانت لها أولويات في قطاعات الصناعة والسياسة على حساب قطاع التعمير
والإسكان. وهو ما أثر على المدينة كثيراً عبر نشأة ما يعرف بمناطق وأحياء الصفيح
التي بناها السكان عشوائيا.
وتبذل الولاية الآن جهدا كبيرا في استبدال المناطق العشوائية بمدن
سكنية حديثة، حيث تستعد طنجة خلال عامين لإعلانها مدينة خالية من العشوائيات تماما،
خصوصا وأن مدينة «شرفات» مستوحاة من كلمة أشرفت أو المدينة التي أشرفت على أوربا-
الجديدة المقامة بجوار الميناء معدة لاستقبال السكان الذين سيشغلون نحو 50 ألف
وظيفة في محيط الميناء خلال السنوات المقبلة.
- وماذا عن ظاهرة الشقق المغلقة، التي لاحظناها هنا في عدد كبير من
المباني الجديدة في مدينة تعاني أزمة إسكان؟
- هذه ملاحظة صحيحة واليوم فإن نحو 35 في المائة من الشقق السكنية
خالية في طنجة وهو يعود لأن عددًا كبيرًا من المهاجرين يستثمرون في العقار بشراء
وامتلاك وحدات على أمل بيعها لاحقا بأسعار أكبر، ثم وجود المضاربين العقاريين الذين
يضاربون في العقارات بشرائها قبل البناء بأسعار زهيدة تمهيدا لبيعها بأضعاف السعر
بعد اكتمال البناء وهي ظاهرة تؤثر سلبا على أزمة الإسكان وربما تتم مواجهتها بشكل
من الأشكال يوما ما.
انتهت جولتنا في طنجة فيما تغلغلت أجواؤها الأسطورية في روحي أكثر.
ولكني شعرت رغم ذلك أنها مدينة لا تزال تحتفظ بالكثير من أسرارها، وأنها تحتاج إلى
شهور ربما لكي تكشف عن بعض هذه الأسرار وخصوصا سر غوايتها. وصحيح أنني كنت أخشى أن
تتغير كثيرا بعد سنوات قليلة، لكن مخاوفي هذه كانت تخفت حين أتذكر من مروا عليها
وفتنوا بها، فسوف تظل مناطقها العتيقة وآثارها وقصابها ومغارتها جزءًا من فتنتها
وغوايتها وقدرتها على اجتذاب مريديها يوما بعد يوم وعلى مر الزمن.
سعدي في طنجة!
حين خرجنا من الريتز كنت أفكر في الرجل العالمي الذي لايعرفه أحد في
مدينته، فلا كرامة لنبي في وطنه كما يقال، وفجأة لمحت الشاعر العراقي الكبير سعدي
يوسف قادمًا من أحد الشوارع من جهة البحر متجهًا صوب «الريتز» فاستوقفناه أنا
والصديق عبد الرحيم العلام فتوقف وحيانا، ثم قال لنا إنه يسكن في «الريتز» بدعوة من
روح شكري وذكراه.
وقلت لنفسي: ها هي طنجة لاتزال قادرة على إغواء الغريب مثل النداهة،
تنادي على الغريب أيا كان وحين تطأ قدماه أرضها سرعان ما تغويه فيقع في غرامها. قال
لنا سعدي إنه قادم لطنجة لأول مرة وأنه وقع في غرامها وبدأ في كتابة قصائد مستلهمة
منها وأنه لذلك سوف يستقر بها فترات طويلة بعيدًا عن برد لندن. سألته عما إذا كان
لاحظ مدى جمال الفتيات الطنجاويات فأيد ذلك قائلا: جميلات فعلا، إلى درجة أنهن حتى
يتعففن عن مساحيق التجميل ثقة في جمالهن، رغم المسحة الريفية التي تتسبب فيها هذه
الفطرية أحيانا!
كان لقاؤنا بسعدي سببًا لكي نلتقي لاحقًا بالكاتب المغربي بهاء الطود
من سكان طنجة أيضا، وله رواية صدرت حديثًا باسم «أبو حيان في طنجة» تدور وقائعها في
طنجة وتقترح فكرة خيالية عن وجود أبي حيان التوحيدي في طنجة المعاصرة، إضافة إلى
الكاتب العراقي نوري شاكر الذي له علاقة وثيقة بالمغرب وطنجة على نحو خاص.
عمارة طنجة.. بين الأصالة والمعاصرة
عندما عدنا إلى طنجة كنت ألاحظ أن هناك الكثير من البنايات
الحديثة والأبراج ترتفع شاهقة في أرجاء واسعة من المدينة بالفعل، وهو ما دفعني
للتفكير في مستقبل طنجة, وهل ستندثر المناطق العتيقة تحت ضغط المناطق السكنية
الحديثة التي تنتثر الآن في كل مكان، وبعضها مبان عديدة جدًا تبدو جميعًا
مغلقة؟
الطاهر بن جلون
ترجمت الخبز الحافي إنقاذا
لشكري من استغلاله معنويا!
هذا الحوار تم الترتيب له بسرعة، وبسبب ضيق وقت بن جلون لم تتجاوز مدة
الحوار نصف ساعة قضيناها في مقهى باريس الذي اختاره بن جلون مكانا للقاء، وقد كانت
فرصة جيدة للجلوس في هذا المقهى الشهير الذي ارتاده عدد كبير من مشاهير الأدب
العالمي ممن ترددوا على طنجة. وبادرت بن جلون قائلا:
- بداية ماذا تمثل لك مدينة طنجة؟ ولماذا اخترت الإقامة بها بعد عودتك من
فرنسا؟
- الحقيقة أنني أصلا من مدينة فاس، وبها ولدت، لكن عندما كنت في
العاشرة تعرض والدي لأزمة مالية في إطار أزمة اقتصادية كبيرة مرت بالبلاد، واختار
والدي مدينة طنجة بسبب وجود بعض أفراد من العائلة بها. فاستقررنا بطنجة واستكملت
دراستي وحتى المرحلة الثانوية بها وحتى توفي والدي. وصحيح أن الكثير من الناس
يرددون أنني من فاس، لكني لديّ بالفعل ارتباط كبير بطنجة التي قضيت بها طفولتي، وهي
مرحلة يكون فيها الفرد بالغ الحساسية للأشياء والتفاصيل من حوله ويرتبط بها كثيرا،
لكن لا يمكن القول إنني استقررت هنا بالمعنى الحقيقي للكلمة. أنا لدي شقة في طنجة
ودائما أتردد عليها أكثر من عشر مرات في السنة قادما من فرنسا أو متنقلا بينها وبين
بلاد العالم، لأنني أسافر كثيرا، لكنني أفضل الإقامة هنا في الصيف.
- في الكتابة هل هناك علاقة لطنجة أو تاثير مباشر بالإلهام أو التأثر بمن
عاشوا بها مثلا؟
- لدي روايتان تمثل طنجة فيهما إطارا روائيا، هما «أن ترحل» و«يوم
صامت في طنجة»، وهي أيضا تلعب دورا كبيرا في حياتي، لكني لم أنتم إلى البيئة
الأجنبية التي عاشت أو استقرت في طنجة من الكتاب الأجانب، مثلما فعل شكري في علاقته
ببول بولز مثلا، لا أنا كانت حياتي محايدة جداً.
- كيف تصف علاقتك بشكري والمعروف أنك الذي ترجمت روايته الشهيرة للعربية
وقدمته للقارئ العربي بالتالي؟
- لا الحقيقة الفضل في التعريف بشكري يعود أولاً لمحمد براده، فهو
الذي اكتشف شكري وهو الذي كان يروج له ويدافع عنه قبل زمن طويل، لأن شكري كان مهملا
في الصحافة المحلية في المغرب. وبعض الكتاب المغاربة لم يهتموا به أو يولوه أية
أولوية أو أسبقية.
وعندما رأيت كيف تم استغلال شكري من قبل بول بولز ماديا ومعنويا بعد
أن نشر سيرته الذاتية باللغة الإنجليزية، قلت أنه من واجبي ككاتب صديق أن أسهم في
ترجمة سيرته الذاتية للعربية وأعطيت الكتاب الاسم الذي عرف به لاحقا في كل مكان
«الخبز الحافي».
- هل كانت تجمع بينك وبين شكري علاقة صداقة بالمعنى الحقيقي
للكلمة؟
- كانت تجمع بيننا علاقة ما، لكننا كنا مختلفين، وكنت أشعر أنه بما
يفعله بنفسه كان ينتحر بشكل شبه يومي، كأنه يتعمد أن يهدم نفسه بنفسه..كان تعيسا
وممرورا وأظن أن هذا طبيعي لإنسان عاش مثل ما عاشه هو في طفولته من بؤس وفقر وجوع،
لكني أظنه ظل يعاني طويلا ولم يتجاوز تلك الطفولة ألبتة. وهذا ما جعله عدوانيا مع
الكثيرين وعلاقتي به كان يشوبها شيء من الجذب والشد، وأعتقد أن هذه سمة مشتركة لكل
من تعاملوا معه، وأظن أن هذه كانت طريقته مع الجميع حتى مع نفسه.
- عندما تأتي إلى طنجة.. ما هي الأماكن التي تحب أن تتردد
إليها؟
- الحقيقة أنني لا أستقر في طنجة في مكان واحد، أتجول باستمرار، وما
يهمني في هذا التجوال ملاحظة الأشياء الصغيرة والتفاصيل والتغيرات التي تطرأ على
البشر وعلى الأماكن، خصوصا أن هناك تغيرات كثيرة ملموسة الآن، فعلى عكس الملك
السابق الحسن الخامس، الذي ترك المنطقة مهمشة ولم يزرها، أولى الملك محمد السادس
اهتماما كبيرا بالمدينة والشمال بشكل عام ويمكن القول إنه أحيا المدينة من جديد
ومنحها أهمية جعلت منها بالفعل الآن مدينة مهمة في المغرب، ولعل ابرز دليل على ذلك
هو ميناء طنجة المتوسط الجديد، الذي يعد مشروعا تنمويا عظيما ليس للمنطقة فقط، بل
وللبلد ككل.
- هل منحك البشر من سكان طنجة ممن تتامل إلهاما لشخصياتك
الروائية؟
- أنت تعرف أن الشخصيات الروائية عادة ما يكون بها نوع من التركيب،
وكل شخصية تتكون من عدد كبير من الشخصيات التي يكون الكاتب قد خبرها أو عرفها.
وبالتالي لا يمكن القول إن شخصية بعينها من الواقع تنتقل كما هي إلى الرواية، هذا
صعب. لكن ما أهتم به حقا في طنجة وفي العديد من المدن المغربية وأحرص عليه هو زيارة
المدارس والتحدث إلى الطلبة الصغار، فهذا من جانب يفيدني كروائي وفهم الجيل الصغير
وتطلعاته، كما يمنحني فرصة جيدة لأؤدي دوري ككاتب في محاولة زرع حب القراءة لدى
الصغار، بل وتشجيعهم على التعبير عن أنفسهم وعلى الكتابة أيضا. والحقيقة أن الفرد
يمكنه أن يصل إلى أشياء إيجابية عديدة مع الأطفال، لكن ذلك يكون صعبا مع من اكتمل
تكوينهم النفسي والشخصي.
- هل لديك تجارب في الكتابة للأطفال إذن؟
- نعم، كتبت بعض القصص القصيرة للأطفال، ولدي كتابان أحدهما يناقش
موضوع العنصرية كما شرحتها لابنتي، وهذا ترجم على نطاق كبير في نحو 40 دولة،
والثاني كتاب عن الإسلام حيث قدمت شرحا مبسطا للإسلام للطفل بحيث يستوعب جوهر الدين
الإسلامي، وقد سمح لي هذان الكتابان فرصة اللقاء بالأطفال، والتجول في نطاق المدارس
المغربية وهذا من أهم التجارب بالنسبة لي.
- هناك بعض من كتبك التي ترجمت للعربية تعرضت لصعوبة الوصول للقارئ
أحيانا بسبب سوء الترجمة..كيف ترى هذا الأمر؟
- الحقيقة أن هذا الموضوع سببه القرصنة التي تعرضت لها من عدد من
الناشرين السوريين الذين لم يراعوا أي حقوق أدبية أو مادية، وهؤلاء أساءوا بالفعل
لترجمة كتبي، لكن كما قال لي صديق سوري هم لا يحترمون حقوق الإنسان فهل سيحترمون
حقوق المؤلف؟ لكن في المقابل هناك بعض أعمالي التي صدرت ترجمتها في لبنان وقد ترجمت
بشكل جيد.
- ألم تحاول مطلقا أن تكتب باللغة العربية؟
- أنا أحترم اللغة العربية جدا، وأعتقد أن أي محاولة من جانبي للكتابة
بها ستتضمن قدرا من الإساءة إليها، وهذا ما لا أرضاه لا لنفسي ولا للغة العربية،
لذلك أفضل أن أكتب بلغتي الأجنبية ولا اتعسف على لغتي الأم.
- لغة السرد في أغلب أعمالك لغة تبدو بسيطة، ولا تتضمن أي قدر من التعقيد
بالرغم من أنك تكتب الشعر أيضا؟ هل هذا مقصود من جانبك؟
- الحقيقة أن الوصول إلى هذا الأسلوب الذي يبدو بسيطا كما تقول هو
نتيجة لبذل جهد كبير جدا في اللغة واختيار التركيب المناسب للجملة وتحاشي تعقيد
وطول الجملة، لأنني بشكل شخصي أرى أن تعقيد الأشياء هو على العكس ضد العمق.
- بالرغم من سمعتك العالمية كروائي إلا أنك كرمت في المغرب بصفتك شاعرا..
كيف تلقيت هذا التقدير؟
- طبعا أنا سعيد جدا بهذا التقدير، خصوصا أنني بدأت عملي الأدبي كشاعر
بالفعل، لكن كوني شاعرا من عدمه فهذا حكم أتركه للقارئ فإذا حكموا علي بكوني شاعرا
فسوف يسعدني ذلك، لكني في المقابل وفي الحقيقة لم أقترح نفسي كشاعر. الشعر نوع أدبي
بالغ الصعوبة، ولذلك تجد أن الشعراء الكبار في العالم قليلون جدا، لذلك يمكنني
القول إنني أحاول الشعر لكني لست شاعرا.