جمال العربية فاروق شوشة
المستقبل للفصيح
كان الأديب الكبير محمود تيمور في طليعة المهتمين بلغتنا الجميلة تعبيرا عن روح العصر، ومتطلبات التطور. يتجلى اهتمامه هذا في عكوفه الطويل على تأمل ألفاظ الحياة العامة أو ما يسمى بألفاظ الحضارة، محاولا نفي الدخيل من الأسماء التي شاعت على ألسنة الناس وأقلامهم، وإيجاد البديل الصحيح الفصيح، الذي كان يؤمن بأنه له الغلبة في الاستعمال آخر الأمر.
وكان تيمور يرى أن الويل للغة كل الويل إن بقيت وقفا على علماء اللغة وفقهائها، أولئك الدارسين لها في أصولها الأولى، وأوضاعها الأصيلة. لا يبيحون لها سيرا مع الزمن، وانطلاقا في ركب التطور، وتجددا مع الأيام. يحسبون بذلك أنهم يصونونها من الفساد، ويحفظونها من الضعف. وليس فساد اللغة ولا ضعفها - كما يقول تيمور- "إلا أن تتحجر في مكانها، فلا تملك أن تبين عما تجيش به الحياة العقلية والاجتماعية على مد الزمن من أفكار وأحداث".
وقد وضع تيمور ثقته في الجمهور المثقف الخاص، الذي يعتز بالعربية ويجنح إلى الإفصاح، ويعزف عن العامي والدخيل فيما يتناقل من ألفاظ المعاني وأسماء الأشياء. فالوعي اللغوي القوي يجرى تياره بين المثقفين جميعا ويبدو أثره في حياتنا الاجتماعية على وجه عام.
وفي كثير من كتابات تيمور، خاصة كتابه "معجم ألفاظ الحضارة" إشارات واضحة ودلائل أكيدة على نزعة الإفصاح في التعبير بلفظ عربي، بدلا من اللفظ الأجنبي عند هذا الجمهور المثقف، الذي يرى فيه مرآة اللغة المجلوة وقوامها الركين.
هذا الجمهور المثقف هو الذي أشاع كلمة "الهاتف" بدلا من "التليفون" في كثير من البلاد العربية و"الدراجة البخارية" بدلا من "الموتوسيكل" و"اللافتة" بدلا من "اليافطة" و "العيد" بدلا من "اليوبيل".
ويلاحظ تيمور أنه في ساحة اللعبة الرياضية: "لعبة كرة القدم" جد اللاعبون ومن إليهم - من تلقاء أنفسهم وبمعزل عن مجامع اللغة وفي غير فرض من أحد - في تسمية ما يتصل بهذه اللعبة من ظواهرها وأدواتها بأسماء عربية فصيحة، تغلبت على مقابلاتها من الكلمات الأجنبية التي اقترنت بتلك اللعبة في أول الأمر.
فكلمة "فوت بول" فازت عليها "كرة القدم" وكلمة "تيم" صرعتها كلمة "فرقة أو فريق"، وكلمة "شوط" فازت على كلمة "هاف تايم" و "هدف" حلت محل "جول" و "ظهير" حلت محل "باك". بل لقد أصبح "الريفري" "حكما" بلسان عربي مبين.
وينتقي تيمور من بين ما تنشره الصحافة الرياضية رسالة لمراسل رياضي في وصف إحدى المباريات يقول فيها: "الضباب كثيف يخيم على الملعب والرؤية عسرة ولم يبق من المباراة سوى ثماني دقائق، وأحد الفريقين فائز على الآخر بهدف واحد وفجأة تختفي الكرة ويبحث عنها الحكم.. " إلخ.
ويعلق تيمور بأن هذا المراسل الرياضى اللغوي يستعمل في نحو أربعة أسطر أربع كلمات فصيحة هي المباراة للماتش، والفريق للتيم، والهدف للجول، والحكم للريفري.
كما يتأمل تيمور سطورا لمحرر فني يكتب في إحدى الصحف عن صنع التماثيل فيقول: "إن الفن والعلم يتعاونان في وحدة الحراريات والخزف، وترى في الصورة الفنانة وهي تضع لمساتها الأخيرة لتمثالين صغيرين عن الفلاحة المصرية".
ويرى أن هذا المحرر قد استعمل مصطلحين فصيحين هما "الحراريات" للمادة المقاومة للحرارة و"لمسات" لكلمة "رتوش".
ويلاحظ تيمور أن الكلمة الشائعة شيوعا واسعا "السكرتير" بدأت تزاحمها كلمة "الأمين" وأن كلمة "الأمانة" بدأت تزاحم كلمة "السكرتارية" وأننا نقول الآن منصب أمين الجامعة العربية أى منصب السكرتير، وأمين المؤتمر، وأمين اللجنة، والأمين المساعد.. كما يلاحظ أن بعض الصحف لا تزال منقسمة في استعمال كلمتي الأمين والسكرتير خاصة بالنسبة لهذا المنصب في هيئة الأمم المتحدة، فهناك من يقول السكرتير العام، وآخرون يقولون الأمين العام!.
كان هذا رأى محمود تيمور في كلمة له أمام مجمع اللغة العربية منذ أربعة وثلاثين عاما. وأظنه لو امتد به الأجل وكان بيننا اليوم، لرأى أن نزعة الإفصاح والحرص على الكلمات الصحيحة التي كان مشغولا بمتابعتها في زمانه قد أصبحت لها السيادة آخر الأمر، ليس بفضل علماء اللغة وسدنتها في المجامع اللغوية وحدهم، وإنما بفضل الأدباء والكتاب والشعراء والمبدعين والعاملين في مجالات الترجمة والتعريب والصحافة وأجهزة الإعلام، الذين يعيشون ويمارسون لونا من الكفاح اللغوي من أجل أن يبدعوا لغة عربية جديدة، قادرة على الوفاء باحتياجات العصر، وملاحقة التطور والتعبير عن هموم الناس وأشواقهم ومطامحهم. هؤلاء - بإبداعهم ومغامراتهم اللغوية - يضيفون إلى اللغة ويجددون فضاءها الذي لا يعرف الحدود.
جمال العربية
صفحة
شعر
دار عَلَوة
للبحتري
يقول ابن الأثير في كتابه "المثل السائر" وهو يتحدث عن البحتري: "وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه، فقال: أنا وأبوتمام حكيمان، والشاعر البحتري. ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه: فإن أبا عبادة- أي البحتري- أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الأفهام. وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية".
والذين أتيح لهم أن يقرأوا شعر البحتري (821 - 898 م ) تكشفت لهم على الفور صياغته المتأنقة وألفاظه المختارة وإيقاعه الموسيقي المتدفق. فقد كان - كما قال عنه حسن كامل الصيرفي في تحقيقه لديوانه - فنانا ماهرا استطاع بوتر موسيقي وريشة رسام أن يترك لنا لوحات رائعة الجمال.
كما تميز البحتري- بين شعراء عصره - بحاسة صوتية نادرة، جعلته قادراً على استخدام الحروف المتقاربة صوتا، وإحداث الجرس الموسيقي المؤازر لموضوعه الشعري في موكب بديع من الأصوات والأنغام.
وهذه القصيدة التي قالها في مدح الخليفة العباسي "المتوكل" الذي جمعته به علاقة حميمة ومودة قوية دليل على قوة شاعريته وعذوبة لغته ويسر تناوله وروعة تصويره، وهي الصفات التي استحق بها أن يصفه المتنبي - عن جدارة واستحقاق - بأنه الشاعر. يقول البحتري:
عذيري فيك من لاح إذا ما |
شكوت الحب حرَّقَني ملاما |
فلا وأبيكِ، ما ضيعتُ حِلما |
ولا قارفتُ في حُبيك ذاما |
ألامُ على هواك، وليس عدلا |
إذا أحببت مثلك أن أُلاما |
لقد حرَّمْتِ من وصلي حلالا |
وقد حلَّلتِ منْ هَجْرى حَراما |
أعيدِي فيَّ نظرة مُسْتَثيبٍ |
توخى الأجر أو كره الأثاما |
ترى كَبِدا محرَّقة، وعيناً |
مؤرَقةً، وقلباً مستهاما |
تناءت دار علوةَ بعد قربٍ |
فهل ركبٌ يُبَلِّغها السلاما |
وجدد طيفها لوما وعتبا |
فما يعتادنا إلا لماما |
ورُبّتَ ليلةٍ قد بِتُّ أُسقى |
بعينيها وكفيها المداما |
قطعنا الليل لثما واعتناقا |
وأفنيناه ضماً والتزاما |
وقد علمتْ بأني لم أضيَّعْ |
لها عهدًا ولم أخفر ذماماً |
لئن أضحت محلتنا عِراقا |
مشرقة وحلتها شآما |
فلم أَحْدِث لها إلا ودادا |
ولم أزدد بها إلا غراما |
أمينَ الله دُمتِ لنا سليما |
وملِّيت السلامةَ والدواما |
أرى "المتوكلية" قد تعالت |
محاسنها، وأكملت التماما |
قصور كالكواكب لامعات |
يكدن يضئن للساري الظلاما |
وبر مثل برد الوشي فيه |
جنى الحوذان يُنشر والخزامى |
إذا برق الربيعُ له كسته |
غوادي المزنِ والريح الرخامى |
غرائب من فنون النبت فيها |
جنى الزهر الفرادى والتؤاما |
تُضاحِكها الضحى طَوْرا وطورا |
عليها الغيث ينسجم انسجاما |
ولو لم يستهل بها غمام |
بريِّقه لكنت لها غماما |