بورسعيد ماضي السخرة وألم العدوان وغموض المستقبل: حسين عبد الرحيم

بورسعيد ماضي السخرة وألم العدوان وغموض المستقبل: حسين عبد الرحيم

تصوير: وليد منتصر

تعتبر مدينة بورسعيد من أهم الواجهات الحضارية للمدن المصرية قاطبة، لكونها حملت الصفات والسمات الحقيقية لجوهر وصبغة المدن الكوزموبوليتانية العريقة عربيًا وعالميًٌا. ولم لا وهي أحدث المدن التي أنشئت وأسست على مر العصور فصارت هي المدينة الاستثناء. بورسعيد مدينة لا تعرف الجمود ولا تعترف بالحدود.. تجتذب ولا تُجتذب.. وتخرج على كل صور المحاصرة والاحتواء بموقعها العبقري الذي يصل بين قارات ثلاث هي إفريقيا وآسيا وأوربا.

بظروف نشأتها التي رافقت شق قناة السويس في أشهر وأهم وأدق عملية جراحية تجرى لسطح الكرة الأرضية.. وكذلك الاستثناء بكونها أول مدينة في مصر تنشأ في العصر الحديث بعيدًا عن نهر النيل وخارج نطاق مركزية القاهرة. ففي 25 أبريل 1859، ومع ضرب أول معول في أرض الموقع الذي خطط ليكون مجرى لقناة السويس وشاءت الأقدار ومن بعدها الريح أن تقع بورسعيد بين التقائي خط طول 3218 شرقًا وخط عرض 3116 شمالًا في ذلك الزمن الذي ليس بعيدًا، فمائة وخمسون عامًا في عمر الكوكب الأرضي مدى قريب، وبالرغم من أن المدينة لم تكن لها ناقة ولا جمل في الحرب العالمية الأولى فإنها قد نالها العديد من الشرور حتى في الغزوة الإنجليزية الاحتلالية سنة 1882. وعاشت في مواجهات سياسية وعسكرية لكونها إحدى البوابات الإستراتيجية لمصر.

ربضت المدينة ورقدت على الدوام ساهرة بناسها مدنيين وعسكريين على ضفة القناة في انتظار شطحات وغزوات الأعداء، فجاء عدوان الأعوام 1956م، 1967، 1973، وحتي حرب الاستنزاف لتزداد نفرات المدينة بأهلها العُزل على بعد عدة أميال.

شهدت ضفافها ومياهها الإقليمية المطلة على البحر المتوسط إغراق المدمرة إيلات في عمل بطولي عقب هزيمة 1967، والذي سبقه تصديها للغزاة من قبل القوات البحرية في موقعة (رأس العش).

لقد نالت مدينة بورسعيد كل التقدير والاحترام والعرفان بالجميل دون مجاملة من قبل كافة زعماء مصر. بداية من الراحل جمال عبد الناصر الذي ردد في إحدى خطبه الشهيرة بميدان (الشهداء) عبد المنعم رياض حاليًا في الاحتفال الأول بذكرى خروج وانسحاب قوات العدوان الثلاثي: (وفي بورسعيد كانوا رجاله، شفت النساء قبل الرجال على أن يحتفى مع شعب بورسعيد بعيد النصر 23 ديسمبر من كل عام ليتوافق مع خروج آخر جندي من القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية، كما قُدرت مدينة بورسعيد على جميع المستويات الدولية حتى من قبل هيئة الأمم المتحدة في عام 1957، 1968 للمرة الثانية، حتى رُفعت عربة الرئيس جمال عبد الناصر من قبل أهل المدينة في عام 1958 وكان المكان التقاء شارعي الثلاثيني ومحمد علي وظل الحال هكذا على الدوام - هاجر أهل المدينة أو ارتحلوا أو رحلوا قهرًا وغصبًا في الحروب الثلاث. خرج أكثر من 200 ألف ساكن من سكان المدينة مرحلين وموزعين على مدن وقرى ونجوع مصر، ليعود نصفهم مع عودة الكرامة المصرية العربية في حرب السادس من أكتوبر 1973. ذهب من ذهب، وراح من راح، وبقي من بقي داخل المدينة شاهدًا على الصمود والخراب والأطلال في آن واحد، إلى أن زارها الرئيس محمد أنور السادات مع عودة افتتاح قناة السويس في يونيو 1975 ليصدر أمرًا جمهوريًَا لتصبح مدينة بورسعيد (منطقة تجارية حرة، تصنع وتبيع وتشتري وتكسب؛ لإطعام أبناء المهجرين الذين عذبوا وضحوا كثيرًا) كما قال أنور السادات: (مكافأة لأهل بورسعيد على ما قدموه وقدمه أبناء شعبها لمصر).

بدايات التحول

عرفت مدينة بورسعيد العديد من معاني الهجرة والترحال. فبعد عودة المهجرين وإن بقي الكثير في مدن وقرى ونجوع أخري لعدم امتلاكهم نقودًا تكفل لهم نقل أثاثهم نساهم الزمن حتى يومنا هذا هناك!

وعن علاقة المدينة - بورسعيد بالآخر، تعددت تلك الصيغة وتبدلت بل واختلفت وتناقضت، وجنحت من عصر لعصر ومن عقد لعقد، بل ومن مرحلة لمرحلة ذاقت المدينة بأهلها معنى آخر للهوان والترحال والهجر والخصام بحدة، حيث بدأت الأحقاد من قبل المدن المجاورة (الإسماعيلية) تحديدًا وهذا عقب تحول المدينة لمنطقة حرة (سداح مداح)!

تهريب وثراء فاحش وعود العديد من القوى الانتهازية بطرق غير مشروعة لتصطدم المدينة وأهلها بأفكار وثقافات وعلاقات نفعية لم تعهدها المدينة التي أسست على احترام الآخر وقبوله ومضايفته، فبعد أن كانت ملاذًا للطلياني والقبرصي واليوناني واليهودي الذي أنشيْ له أول معبدين: (سوكات شالوم أنشيْ عام 1882م) ومعبد (ميشيل أوهيل أنشئ في عام 1911)، والاثنان أقيما بحي الأفرنج الذي كان ملاذًا للجاليات الأجنبية، كما تضم مدينة بورسعيد أكثر من 30 كنيسة ما بين الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية موزعة على جميع أحياء المدينة وأقدمها الحي الأفرنجي أو (حي الشرق) الواقع جهة الميناء وشارع فلسطين الملتقي مع شارع أوجينيه الطولي الواصل حتى الميناء وممشي ديليسبس وشارع فلسطين الموازي لمجرى قناة السويس، بعد ذلك اعتلت أفكار وسلوكيات المدينة صيغ الاستهلاك في الشكل والملبس والمأكل وحتى التعاملات الكلامية ما بين البشر أهل المدينة الواحدة الذين لم يعودوا كذلك اليوم.

بورسعيد التي عرفت المساجد العتيقة العريقة كبيت للعبادة وجمعت في زخارف مساجدها وكنائسها وحتى بيوتها المبنية على الطرز الأوربية المختلفة؛ الإنجليزية والبلجيكية والإيطالية، صبغة وطلاوة وإبهار الفسيفساء التي تعتلي الواجهات البازلت التي نزعت مع بداية عصر الانفتاح في حملات كارثية منظمة لطمس هوية المدينة، والتي أطلق عليها شاه إيران السابق (بهلوي) وقت مرافقته للرئيس السادات على أحد اليخوت في جولة تؤكد حيوية ممر القناة في العام الخامس والسبعين (دولة بورسعيد الحرة)! وضحك وقتها أول محافظ للمدينة (السيد سيد سرحان) من أبناء بورسعيد.

الاستقلال ونتائجه

عرف عن مدينة بورسعيد استقلالها في كل شيْ حتى في اللهجة وسمات الناطق بها (أبو العربي)، جاء الخسران والهجر من قبل المسئولين عن التنمية في مصر. خاصة مع استفحال حركة تهريب البضائع عبر بوابات منافذ الجمرك في مدينة (أوجينيه) الإمبراطورة النمساوية التى رافقت (الخديو إسماعيل) في حفل افتتاح القناة الرهيب في عام 1869 وبحضور مئات بل الآف الشخصيات والزعامات الأوربية الذين جاءوا عبر البحر ورحلوا لتأتي الإمبراطورة بعد ذلك وحيدة وبعد عشر سنوات تحديدًا لتجلس تحت قبة (تاج محل بورسعيد) قبة قناة السويس، فهل كانت الإمبراطورة تبكي ألمًا من سوء الرياح التى دائمًا تأتي بما لا تشتهي السفن؟!

يقول الراوي البورسعيدي، قاسم مسعد عليوة في كتابه «المدينة الاستثناء».. قراءة مورفولوجية لمدينة بورسعيد: (كان لموقع بورسعيد دورًا غير منكور في بناء سمات الشخصية البورسعيدية. فبعدًا عن الظرف التاريخي الذي نشأت المدينة في كنفه وهو معروف للعالمين كان للناس الذين سكنوها الباع الأكبر في تكوين هذه الشخصية أبو العربي القديم والحديث والمعاصر أبو العربي هو السيد وسيد هو حافر القناة، وهو أول المتوفين أو القتلى، ضحية السخرة وقت الحفر. هكذا يقول التاريخ تاريخ مصر الحديث التاريخ المدون الذي سطره المؤرخون. إن أول دفعة من عمال حفر قناة السويس كان يتقدمهم عامل بورسعيدي ولد في حى العرب كان يعمل فحامًا ينقل الفحم على البيسكلت للخواجات، توفى مع أول دفعة، أصيب بالكوليرا ولهذا شاع اسم سيد العربي أو أبو العربي خادم القوم العربي. أو أبو العربي هو البمبوطي حامل الكلوب في عزب النحاس قبل الحرب وهو عازف السمسمية المغني الصداح الذي خاطب الأجانب وأهل بلده برفقة الصبجية في صمتهم مع الشوام وبأكثر من دورغنائى منها:

يا رايحين لحلب
حبى معاكم راح
يا محملين العنب
تحت العنب تفاح،

ومنها كذلك أنشودته أبو العربي

متى يا كرام الحى عينى تراكمو
واسمع من تلك الديار نداكمو
كثير وكثير جدًا ردده أبو العربي

للمهجرين بعيدًا من أهل بلده ومدينته، بورسعيد التي شهدت ثالث عرض سينمائي بعد القاهرة والإسكندرية، وكان ذلك في العام 1889م وقتما كانت تتجاور عمائر الإفرنج الأوربية وعمائر حي العرب المندرة والتراسينات المحجوبة بالمشربيات والأسطح الدائرية التي دائمًا ما تحمل البنّية أو (غية الحمام).

يقول الراوي المدينة كانت إلى عهد قريب مثلثة الأبعاد وشوارعها مستقيمة ومتقاطعة وميادينها شمسة واتصف المعمار فيها بعدة صفات منها انفتاح الوحدات السكنية على الخارج بدلًا من الإطلال على الداخل، الأخذ بنظام البواكى بديلًا عن الشوارع المغطاة اتفاقًا مع طبيعة الساحل، إقامة العمائر القريبة من البحر والبحيرة على أعمدة. إتاحة رؤية البحر والبحيرة للسائر في شوارع المدينة، وأخيرًا السماء المفتوحة. لقد كانت بورسعيد هكذا، وكنا نتمنى أن تظل هكذا. المدينة الفريدة في معمارها وناسها. فقد كان لأي زائر لبورسعيد أن يشاهد البحر الأبيض وقناة السويس وبحيرة المنزلة، ولكن معاول الهدم من قبل الرأسماليين الجدد والانفتاحيين وأنصار العولمة.. كل شيء تبدل في بورسعيد الآنية صارت العشش الصفيح والكرتون، فقير وغني كلاهما ساهم في إفساد المدينة، كانت بورسعيد - وأرجو أن تظل هكذا ثقافة ناسها - هي سبب تميزها وتفردها، بحر مفتوح على شواطىء العالم وسماء بورسعيد فريدة في لونها وتموجاتها وخريفها وشتائها وصيفها. وهنا التقى أكثر من 500 من مثقفي مصر ومدينة بورسعيد على مدى ثلاثة أسابيع بين شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين لحماية تراث بورسعيد، الذي غنى شعبها وهو يبكي حسرة وألمًا بعد العدوان: «علشان كرامتك يا مصر وعزتك يازعيم.. بيموتوا كل المصريين»؟!

حكايا الأساطير!

أم أساطير الحكايا وبعد أن كثر التقليب في استحضار ماضي المدينة الغرائبي.. نطقت مدينة بورسعيد بالسرد الذي يخصها في التاريخ والزمان والمكان وسيرة البشر، حتى الشوارع والحارات والميادين والأمكنة العتيقة أفاضت بما حدث من مجريات الأمور فوق تراب هذا البلد .. ففي سيرة هذه المدينة تعددت الأساطير. أو الحكايا لدرجة، أن هناك اختلاطًا أو قل امتزاجًا صنع انسجامًا هارمونيًا تجلى في حقائق أكدها التاريخ وثبتتها المدونات والعديد من مقالات كبار المؤرخين والكتّاب، وكذلك الفنانون عرب ومصريون ..

فقرب مبنى البوليس (police (وهو قسم شرطة الميناء القديم المطل على ممر قناة السويس والبادئ بعتباته أول شارع فلسطين الموازي لممشى ديلسيبس والذي أصبح الآن مقر هيئة الموانئ ببورسعيد يقول: التاريخ والسارد الفعلي.. إنه قد عبر من هنا المؤرخ المفكر الكاتب اللبناني ذو النشأة والأصول والفلسطيني الميلاد.. (د. نيقولا زيادة) والمتوفي منذ عامين على وجه التقريب.. إنه قد ركب باخرة سياحية من ميناء بورسعيد في آخر العام السابع والأربعين بعد الألف وتسعمائة وفي غمرة فوار هجرة أهالي فلسطين الحبيبة وترحيلهم خارج ديارهم إلى أمكنة عدة مجهولة عربية وغربية وغيرها.. ركب نيقولا المركب السياحي من ميناء بورسعيد وقت مجده البكر بعد أن ركب (زيادة) الباص من قبل مكان سكنه في (يافا ) واصلًا إلى عكا هاربًا بيخت صغير من ميناء حيفا إلى ميناء بورسعيد مباشرة، ليودع الأجواء المصرية متجهًا إلى العاصمة البريطانية لندن لاستكمال دراسته لأطروحتيه الماجستير والدكتوراة وهذا ما كتبه وأكده في مذكراته التي كانت تنشر تباعًا بملحق (آفاق) بجريدة الحياة اللندنية مع بدء العام 1999 حتى العام 2008 على وجه التقريب.. ويذكر الفنان نور الشريف في حديث لإذاعة سورية أنه لم يجد ميناءً حرًا يستقبله وقت المقاطعة العربية لمصر في العام 1978، 1979 غير ميناء بورسعيد الذي قصده في مركب سياحي قادمًا من ميناء أو مرفأ (بيروت) وبالعودة للتاريخ الفعلي لسيرة مدينة بورسعيد ثبت وبما لا يدع أدنى مجال للشك حقيقة هذه الوقائع.

بورسعيد.. إشاعة حب

من المعروف في تاريخ ومسار الإنتاج السينمائي المصري خارج القاهرة أن مدينة بورسعيد شهدت العشرات من الأفلام السينمائية الجادة التى أكدت تفرّد وخصوصية ونكهة هذا المكان عند كل فنان وبناء جمالي حقيقي.

في عام 1956 أمر الزعيم جمال عبد الناصر القائمين على المؤسسة العامة للسينما أو هيئة السينما بإنتاج فيلم ضخم توفر له جميع الإمكانات المادية والبشرية والفنية، ليؤكد دور أهل مدينة بورسعيد من نسائها ورجالها وحتى أطفالها في حرب 1956 أو العدوان الثلاثي، طامعًا أن يمثل هذا الفيلم مصر ومدينة بورسعيد.. والتأكيد من خلال دراماه والسيناريو المكتوب وهو الذي تطابق مع الحقيقة والواقع وظهر بعد تصوير الفيلم راضيًا طموحات الزعيم.

واختير الفيلم لتمثيل مصر في مهرجان موسكو وقد عرض بالفعل ليقدم صرخة احتجاج وإدانة للعدوان الغاشم على شعب ومدينة وأهالي بورسعيد الآمنة المسالمة قبل أن تكون باسلة.. وتتوالى بعد ذلك محطات في السرد السينمائي بعناوين أفلام مثلت مفارق ورموزًا حية في مسيرة السينما المصرية، فبعد إشاعة حب لعمر الشريف وسعاد حسني والمخرج الجميل زكي فطين عبد الوهاب تتوالى الأعمال واللقطات.. بعضًا من أطياف (الباب المفتوح)، ثورية الراحلة لطيفة الزيات ونضج عذراء الشاشة العربية والتي أصبحت سيدتها.. فاتن حمامة وتستكمل المسيرة مع (أهل القمة ) لعلي بدرخان، حسن اللول للراحل العبقري أحمد زكي والكاتب البورسعيدي صاحب القصة الشاهدة على الفجيعة والانقسام والجمال والسحر والخيبة خيبة مدينته ووطنه وبحره الكاتب الموهوب (أحمد متولي)، لنرى بعد ذلك ذروة أفلام الحركة في قمة نضجها على يد المخرج سمير سيف في المشبوه 1980، وكذلك طيف السحر في (الحريف) لمحمد خان، ولصوص خمس نجوم للراحل أشرف فهمي.. أعمال كثيرة فارقة مثلت لمخرجيها وممثليها وكذلك كتابها وسيناريستاتها إضافة بالغة الدلالة في مسيرتهم مع الفن والحياة والمدن ومدينتنا تحديدًا بورسعيد.. الرائحة والحواديت والزخم والحكي والهنجرانية أو الهنجراوية والمقصود كثيري الكلام دون فعل وهي مقولة تعكف الضلال والهجر والعصف الذي أطاح بتجلى الجميل.. ولكنه فشل أن يعصف أو ينسف الجذر الممتد في تربة المدينة الجليلة ويشهد على ذلك المساجد بيوت الله على الأرض.

مع الترجل حتى منتهى شارع فلسطين الموازي للميناء وخلف قاعدة البازلت التي كانت تحمل يومًا ما تمثال فرديناند ديليسبس البرونزي أو النحاسي، وقرب ميناء الصيد القديم وهو من أقدم موانئ الصيد في مصر، حيث تم افتتاحه قبل الافتتاح الرسمي لممر القناة عام 1867، وصوب الجداريات التي تحيط أسوار فندق سونيستا سابقًا أي قبل الولوج لنادي الصيد ومنتهي شارع فلسطين الموازي لامتداد شارع الجمهورية تبدأ كاميرا الحقيقة المدهشة الجلية في استعراض بعض من بيوت الله ذوات الزخارف والمشكاوات والممشاوات والمصابيح والقناديل والأفنية الفسيحة والمشربيات تتجلي في جدران ونوافذ مسجد السلام وهو أحدث المساجد المبنية في أواخر العقد الأول من عصر الانفتاح (المنطقة الحرة)، ولأن هناك إيمانًا عند أبناء المدينة بأن للديار منازل في القلوب البهية كثرت التأويلات والقصص والحكايا التي تخص ظروف ونشأة ودوافع البدء في إنشاء كل مسجد على حدة لنسرد حكاية أعرق مساجد المدينة (المسجد التوفيقي 1881 1882) ووضع حجر الأساس وتم الاحتفال في حي العرب وافتتح رسميًا للصلاة في مايو 1858 عند زيارة الخديو توفيق لبورسعيد والذي كان ومازال تحفة معمارية إسلامية مع خليط ومزيج من الأصالة والعراقة، وأضيفت إليهما ثمة صبغة للفخامة والعتاقة خاصة بعد أن أعيد ترميمه في عام 2001 تقريبًا ليصبح مرتادوه أثرياء المنطقة الحرة بعد تجليهم وسريان روائح البرفانات الفرنسية والسعودية العتيقة التي تشتم من قبل البسطاء أبناء المدينة الحقيقيين الذين فروا إلى مساجد أخرى أكثر مواءمة للتواضع تأكيدًا لتلاوات وتراتيل آيات الخشوع... كما في المسجد العباسي المطل على شارع محمد علي وأجينيه والذي لآخر حكايا بيوت الله التي يرويها أبناء المدينة والتي لم تعد خافية عن أحد سواء مؤرخ عادل أو حكاء عاشق... ولك في القلوب منازل أيتها الديار.. مسجد الوليد الذي يقع في شارع السواحل وبني سويف أي في حي المناخ والذي أنشئ في عام 1986، وتكفل به رجل الأعمال عبد الوهاب قوطه.. والمدهش بل الغريب بل والمفجع أن موقع هذا المسجد قد أُقيم على الأرض الفضاء أو الخراب التي كانت تحوي أو تحتوي على جمعية (بورسعيد للرفق بالحيوان ) أي الشفخانة كما كان يردد قديمًا أهل بورسعيد أبناء الطبقة الوسطي عقب ثورة يوليو مباشرة وتحديدًا سكان حي المناخ .

يقول الراوي محمد عبد الرحيم ومن بعده ردد وأكد ابنه حسن عبد الرحيم (المستبقي)! والذي ظل قابعًا في المدينة بداية من عام 1948 حتى عودة آخر من تهجروا من أبناء المدينة في عام 1975.. إن هذا المكان.. جمعية الرفق أو الشفخانة.. أو مسجد الوليد كانت مقبرة مؤقتة لضحايا الشظايا وطلقات المدافع وهجمات البوارج على النسوة والرجال والشباب والأطفال وحتى الشيوخ على شاطئ بورسعيد وقت أول إنزال لقوات العدوان الثلاثي.. إسرائيل إنجلترا فرنسا قرب شاطئ الجميل وجهة السكنات العسكرية وفي مواجهة مقابر المناخ للأقباط الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت الملازمة لمقابر المسلمين فلا يفصل بينهما إلا صبارات عتيقة.. وهنا أصل الحكايا ومهدها...

حتى فيما يخص الزي البورسعيدي هناك ثمة تشابه بل وتطابق بين ما كان يرتديه المواطن البورسعيدي من ملابس والآخر الإيطالي والقبرصي وكذلك اليوناني ممن هم على الجانب الآخر من شاطئ المتوسط وخاصة العاملين بالمهن البحرية كالبمبوطية والمساجيري، حيث تعودوا أن يرتدوا البناطيل الكاوبوي والفانلات الصوفية الهاى كول و(البلمة ) وبروز المنديل من الجيب الأيمن الخلفى للبنطال .. وأحيانًا يضع البحري أو البمبوطي من هؤلاء أو حتى ابن البلد في الأحياء الشعبية العريقة وتحديدًا حي العرب.. وردة حمراء في عروة جاكيت الجينز أو السترة أو وضع عنقود الفل مطوقًا عنقه في الصيف بعد العصاري وقبل المغارب.. فهذه الشكلانية أو المظهر الخارجي في طبيعة الزي الذي يتواءم مع أصل مصطلح بحري ساحلي صرف، يعني المتجول أو السائح مثلًا وهى مفردة شائعة في الوسط البورسعيدي حتى في الغنى وعلى السمسمية.. والمناجاة من أهل بحر وسواحل وميناء، لبحر ثان وميناء مهم وشعب أحب الرد على المناجاة بالغزل والملاغية.. فالمهنة واحدة والهم واحد والعشق واحد والرب واحد يقول مغني السمسمية الشهير الراحل حسن العشري مغازلًا أهل الإسكندرية في منتصف السبعينيات (ياما أريت وسمعت كلام عن الناس الإسكندران.. دول ناس بحارة وناس جدعان.. عندكم منشية وفي بلدكم رأس التين .. عندنا منشية وعندنا شارع الأمين .. عندكم عمود السواري عندنا برضة التجاري.. وعندكم مصنع للبيبس.. عندنا حجر ديليسبس )، ويختتم المغني وعازف السمسمية والراوي والمغني الشعبي بعد الألفية الثاني والصوت الجميل لبلبل السمسمية قائد فرقة الطنبور الريس زكريا فالماضي يجتر ويستحضر طمعًا في التغلب على الأسى السارح في اللحم الحي عند أبناء المدينة الذين باتوا يرددون ليل نهار ودون انقطاع لقتل الحنين (النوستالجيا).. الدنيا بتولع نار وبخيتة زي المنشار.. عمال ألف ليل ونهار لاجى حج الدخان .. الله الدنيا .. الحذاء راح يا دوب مش عارف أجيب مركوب .. أبو العربي خلاص بياكل طوب

والله الدينا.. وهذه هي أنسب أغاني حسن العشري والريس زكريا فهمي المعبرة عن أحوال ابن مدينة بورسعيد الحقيقي والأصيل الذي انزوى وتوارى الآن.
--------------------------------------
* روائي وسينمائي من مصر.

 

حسين عبد الرحيم