في الدورة السابقة، حين زرتُ بكين في 2008، كنت آمل أن تزيد غلة العرب
من الذهب، والفضة، والبرونز، ولكن اقتصر التتويج العربي على حفنة من أبطالنا هم
أسامة الملولي السباح التونسي الفائز بالميدالية الذهبية بسباق ألف وخمسمائة متر
سباحة حرة، والعدَّاء المغربي جواد غريب، الذي حاز الميدالية الفضية، ومواطنته
حسناء بنحسي الفائزة ببرونزية في سباق 800م عدو، والعداء البحريني رشيد رمزي
المغربي الأصل الذي حصل على الذهبية في سباق 1500م عدو، وهناك الفائزة ببرونزية
للعبة الجودو ثريا حداد الجزائرية، ومواطنها في اللعبة نفسها، وبفضية أيضا، عمار بن
يخلف، والمصري هشام مصباح ببرونزية اللعبة نفسها، وأخيرا إسماعيل أحمد إسماعيل
العداء السوداني الذي أحرز فضية 800 متر عدو.
أما (العرب) هذه المرة فحاضرون، وفائزون بذهبية غالية حتى قبل دخول
السباقات، سيدركها العالم ويحييها حين يطالع التحفة المعمارية التي شيدتها ابنة
الرافدين زها حديد، وأعني به مركز لندن للألعاب المائية، الذي أنجزته في 6 سنوات
(2005 - 2011) ليكون درة مشروعات القرية الأولمبية الرياضية على مساحة 36875 مترًا
مربعًا، متسعا لسبعة عشر ألف وخمسمائة مشجع، ناقلا بمفهومه المعماري فكرة تدفق
الماء، قويا، لينشئ حول تياره مساحات وفضاءات تتناغم مع البيئة والنهر بسقف يرتفع
من الأرض مثل موجة. (لعل المتشوق لرؤية باقي صور المشروع أن يذهب لموقع زها حديد
Zaha-hadid.com/architecture/london-aquatics-centre ليتابع مراحل الإنشاء، فيتيسر
له أن يكون هناك، يسمع ارتطام سواعد السباحات والسباحين بالماء، ويتنفس قطرات من
نشوة الفوز، والجمال).
هدف الدورات الرياضية الكبرى أن تترك بصمة، في بكين احتجنا ونحن في
ستاد (عش الطائر) إلى حافلة سريعة لنتجول داخله وحوله، وقد أصبح أيقونة معمارية في
الصين، هنا تحاول لندن أن تترك تلك البصمات ـ العلامات المعمارية الفارقة ـ في
مدينة اشتهرت قديما بساعتها، وجسرها، وحديثا بأرجوحتها العملاقة الدوارة.
العالم يعيد عمارة لندن
هكذا تمنى بوريس جونسون عمدة لندن أن يكون ذلك النجاح حال البرج
الجديد حين أزاح عنه الستار في حديقة القرية الأولمبية. إن القاسم المشترك بين
أيقونة زها وبين هذا البرج هو أن المهندس الذي أنشأه من أصول غير بريطانية ـ مثل
زها ـ ويقيم في لندن أيضا. كأن الأولمبياد دعوة لمهندسي العالم ليبدعوا في الفن،
مثلما هو دعوة لرياضييه ليتألقوا في المسابقات الأولمبية. أتحدث عن آنيش كابور (ولد
في مومباي، 12 مارس 1954)، الذي صمم بوابة للسحاب.
تصميم مذهل جذاب هو الأعلى في المملكة المتحدة، حلقة لولبية من أنبوب
عملاق ارتفاعه 115مترا، يرى مساحة المائتين والخمسين فدانا المقامة عليها القرية
الأولمبية كاملة (أعلى من تمثال الحرية في نيويورك)، لمصمم عرف بأعماله ومنحوتاته
التجريدية. تحدث بوريس جونسون ـ بفخر ـ عن مثالية التصميم واستحقاقه لأن يكون إرثا
ثقافيا ومبدعًا.
مرة أخرى ستجد إشارة إلى تلك الروح الإنسانية (العالمية) في فكرة
أولمبياد لندن حين ترى وجه منيرة ميرزا المستشارة الشابة للعمدة، المسئولة عن
الفنون والثقافة، والتي تؤكد على أن عام 2012 سيكون استثنائيا يُرحب بالعالم تحت
سقف منافسة إبداعية ليس فقط باستضافة رياضات لندن الأولمبي، وأولمبياد المعاقين، بل
هي ـ كما تقول ـ فرصة لجمهور عالمي يستقبل فنون القرن الحادي والعشرين وثقافاته،
ليس فقط في داخل القرية الأولمبية، بل في المتاحف، وعلى خشبة المسارح، وفي الأماكن
العامة وشوارع لندن.
بدأت ميرزا مبكرًا التخطيط الثقافي للعاصمة، ومن بين مشاريعها التي
حققت نجاحا تظاهرة (شباك) التي ألقت الضوء على الفن المعاصر في العالم العربي، قبل
عام من انطلاقة الأولمبياد.
شكسبير معشوقاً
حين كنا ندرس الأدب الإنجليزي في الجامعة، كانت هناك طبعتان من كل عمل
شكسبيري؛ الأولى بريطانية فاخرة، على ورق مصقول، تتصدر صفحاتها الأولى صور ممثلي
العمل، في السينما وعلى خشبة المسرح، بشروح ضافية، وقطع متوسط. وكانت هناك ـ
بالمقابل ـ طبعة هندية اقتصادية، على ورق جرائد، متقشفة، مقابل كل صفحة من النص
صفحة أخرى بلغة إنجليزية عصرية وشارحة وميسرة.
عرفنا شكسبير بوجهيه، حتى بدأنا نشاهد أعماله لنعرف أن لشكسبير أكثر
من ألف وجه، وهي الوجوه التي قدمها له مخرجو الأفلام والمسرح والباليه، بل والكتب
المصورة، وبدأت بوتريهات شكسبير تتعدد، وتُكتشف، ويبتكر لها إطار مختلف، إنه رأسمال
ثقافي، وكنز لا تغيب عنه الشمس حقا. ولكن ما علاقته بالأولمبياد في لندن هذا
العام؟
مع صوناتا جديدة، ألفها الشاعر المعاصر مارك رافنيهيل تحية للشاعر
الخالد، بدأت فرقة شكسبير الملكية مهرجان شكسبير العالمي احتفالا بعيد ميلاده
الثامن والأربعين بعد الأربعمائة. الكل سيشارك، من بريطانيا، سواء في لندن أو في
مسقط رأسه ستراتفورد ابون افون، أو في جيتسهيد نيوكاسل وبرمنجهام وبرايتون وويلز
وأسكتلندا، ومن العالم ستكون هناك رؤى عراقية وبرازيلية ومكسيكية، ضمن 37 رؤية على
عدد أعمال الكاتب المسرحي، يقول مارك مخاطبًا شكسبير:
"أنا أحسدُك. أنشأتَ عالمَك الجديدَ،
بتفاصيل لم يفضضْ
خاتمَها سواك،
مُحْكمةٌ اللغة التي كتبتَ بها، مشدودةٌ مثلُ وترٍ
دقيق،
وسواء كان اسمُك (شكسبير) أم (الشيخ زبير)،
وأيًّا
كان الشكلُ الذي اخترتَه لقلمِك
أو كانتْ عليه ريشتُك، في كلِّ
يومٍ،
فإن قلوبَ وعقولَ البشريةِ العظمى في قارَّاتها،
لم تُمنحْ لأيِّ لسانٍ وطنيٍّ سواك،
وسواء كنت ترسمُ، أم تغزو، أم
تصفُ، أو حتى تبيع:
فلقد صغتَ من لغتِنا إمبراطورية شكَّلتْ كُرتك
الأرضية/ مسْرحك.
سَنُسرعُ الآن لنسجِّل براءةَ اختراع لكلِّ حرفٍ
كوني،
وسنضعُ أناشيدَك علاماتٍ تجاريةً،
وسنجعلُ من كلِّ
مفرداتِك، التي نتفوَّهُ بها أو ندوِّنُها،
وسيلة للحياة".
فن الملايين
لن أستطيع أن أعدد المعارض التشكيلية والمصورة المختلفة التي تجتاح
لندن، لتشكل ماراثون الفن، لكنك أينما فكرت في شيء فستجده، اعتمادًا على الروح
العالمية لمنسقي المهرجان، وتأسيسا على فكرة البوتقة التي تجمع كل شيء معًا،
فبريطانيا التي لم تكن تغيب عنها الشمس، أرادت أن تشرق شموس العالم في صيفها الساخن
بالمنافسات الرياضية النبيلة. الشباب يتولون إعداد أفكار للمعارض. يتسابقون في
الرسم. يقدمون أغنياتهم حول الأولمبياد. يرقصون. الشباب هو المحور الأساس، لأننا
نتحدث عن المستقبل.
وخلال تسعة أيام، يشارك نحو خمسة ملايين، في الفترة من 7 إلى 15 من
هذا الشهر، في مهرجان هو الأضخم، مخصص للرقص، في المتاجر، والمنتزهات، والمعارض
والمتاحف، يبين تعدد معاني ومغازي هذا الفن الذي يتحدث بلغة الجسد عن آمال العالم
وآلامه.
والاحتفال الأكبر بفنون متحدي الإعاقة يعد ملمحًا أساسيا كذلك في
أولمبياد لندن الثقافي، يمزج الرياضة والثقافة والفن، الذي يقدمه المحرومون من نعمة
حاسة أو عضو ما، بدعم من المؤسسات التي ترعى تلك الإعاقات.
البداية مع الشعلة
الفن تبدأ جذوته مع الشعلة الأولمبية، تتحرك من جبال الأولمب حيث غرس
حكماء اليونان أفكارهم التي أنجبت حضارة جابت العالم. بدأ إدراج الشعلة كحدث
افتتاحي رئيسي في أولمبياد برلين 1936م، كجزء من الحملة البرلمانية النازية، ومنذ
إشعالها في طقس يعيد تمثيل الألعاب الأولى يتناوب مشاهير العالم على الطواف بها
مضيئة من مدينة لأخرى، ومن بلد لسواه، وبين قارة وغيرها، حتى تصل إلى المدينة
المضيفة، والفن يتوهج أكثر في الطريقة التي تنتقل بها النار من آخر يد تحملها، إلى
شعلة الاستاد الرئيسي. النارُ التي سرقها بروميثيوس من سماء زيوس، حسب الميثولوجيا
القديمة، تورِّث الإنسان الحكم الحكيم على الأرض.
تصميم الشعلة يختلف من دورة إلى أخرى، لكن طولها يبلغ 72 سم ووزنها
985 جراما، ويستمر لهبها مضاء لمدة ربع ساعة (حتى تضاء منها شعلة أخرى يحملها
متتابع آخر، وهكذا)، بارتفاع ما بين 25 إلى30 سم، ولا تطفأ حتى في الأجواء الممطرة،
وهو لهب فني، تستطيع كل العدسات تصويره - لمشاهدة تصميم حامل الشعلة على مدى
التاريخ يمكن مراجعة الموقع التالي
Http://www.london2012.com/games/olympic-torch-relay/history/
عرفت لندن مسبقا مشكلة محاولة المتظاهرين اختطاف الشعلة، ما جعل
السلطات الأمنية تعدل مسارها، وحدث الأسوأ في باريس، حين قاطع ناشطون مسار الشعلة
واعتركوا مع الشرطة وأجبروا حامليها على إطفائها ثلاث مرات، حتى ألغيت مراحل مسارها
الأخيرة.
شعلة أولمبياد بكين 2008 التي كان شعارها (الشغف المشتعل.. الحلم
المشترك)، عبرت 22 مدينة في قارات العالم الخمس، ومرت بكل مقاطعات الصين وأقاليمها
وبلدياتها، مسافة 137000 كيلومتر خلال 130 يوما، حملها خلالها 22 ألف شخص. هذا رقم
قياسي صعب أن يتكرر، فهذا العام ستقطع الشعلة 70 يومًا، تحملها 8 آلاف شخصية، ولكن
داخل الجزر البريطانية فقط، حتى يوم إشعالها.
الشعلة هذا العام ستوحِّد بين شباب العالم من خلال برنامج اسمه
(الإلهام الدولي)، وقد اختير 20 شابا من عشرين دولة، أحدهم سكندري مصري اسمه محمد
السيد، ليكون ضمن حاملي تتابع الشعلة بمدينة نوتينجهام بالمملكة المتحدة في 28
يونيو، وقد تم اختيارهم من أذربيجان إلى زامبيا لتفانيهم والتزامهم بإلهام الأطفال
والشباب في مجتمعهم المحلي، من خلال قوة الرياضة أو تغلبهم على التحديات الشخصية
التي واجهتهم في حياتهم.
هو برنامج مشترك بين المجلس الثقافي البريطاني، ومنظمة الأمم المتحدة
للطفولة (اليونيسف)، والهيئة المسئولة عن الرياضة في المملكة المتحدة، وهو ما يعبر
عن سعادة الجميع خاصة اللورد سيب كو رئيس لجنة لندن المنظمة للألعاب الأولمبية
والبارالمبية (الألعاب الأولمبية الموازية لأصحاب الحاجات الخاصة)، بنجاح البرنامج
الذي يثري حياة 12 مليون طفل في 20 بلدًا حول العالم من خلال التربية البدنية
والرياضة.
شعار وملصقات، وتميمتان
لا يخفى على أحد قوة العلامات التجارية، لهذا تتنافس الشركات
والمؤسسات العالمية في رعاية الحدث الأولمبي لكي تلصق ذلك الشعار بجوار شعار
منتجها، إن الفن المتمثل في الشعار يقدم قوة اقتصادية طاغية.
كنت أتابع الضجة التي ثارت بعد اختيار الشعار الخاص بالأولمبياد،
بألوانه البراقة، وتصميمه القوي، وإطاره الأصفر الذي يمثل الطاقة، بعد فترة هدأت
الضجة، وبدأ زواج الذاكرة مع الشعار، وأصبح يجسد روحًا فنية عصرية، لشخص يستعد
للعدو في ماراثون أبدي.
الطريف أن ذلك الشعار صممه فتى اسمه رايس إيفانز، من مقاطعة كنت، وفاز
التصميم في مسابقة أعلنت على مستوى المملكة المتحدة، شارك فيها أكثر من 150 فنانا
شابا أعمارهم بين 16 و21 سنة.
ولملصقات أولمبياد لندن تم اختيار 12 فنانا بريطانيا لتصميمها قدموا
أفكارهم التي تتراوح ما بين تخطيط تريسي أمين، الذي عنونته رسالة حب، لطائرين
متحابين، إلى موجة زرقاء ترمز للرياضات المائية، صممها هوارد هودجكن، إلى شكل
مستوحى من العمارة الإغريقية قدمه الفنان كريس أوفيلي، إلى سلسلة من الدوائر
الأولمبية يحمل بعضها بعضا للنحاتة راشيل وايتريد.
أما وينلوك وماندفيل فهما التميمتان الرسميتان لدورة الالعاب
الاولمبية الصيفية لعام 2012 وكذلك للأولمبياد الخاص اللذين يقامان في لندن. الاسم
الأول مستوحى من (ماتش وينلوك)، في مقاطعة شروبشاير الإنجليزية، التي أقيم بها أول
دورة ألعاب في 1850م، لتكون إلهاما للألعاب الأولمبية العصرية، على رسغ الشخصية خمس
أساور ملونة تشير لصداقته مع الحلقات الأولمبية التي ترمز للعالم، أما النقاط
الثلاث في رأسه فتمثل المراكز الثلاثة الفائزة بكل مسابقة، والأشكال المنقوشة على
جسده ترمز للعالم كله، ومقدمة رأسه تجسد التصميم المعماري للاستاد الأولمبي.
الشخصية الثانية، ماندفيل، فاسمها مستلهم من مستشفى ستوك ماندفيل في
آيلسبيري، في باكنجهام شاير. ترتدي تميمة ماندفيل ساعة إيقاف وردية أما الرأس
الفبعة فألوانه الأزرق والأحمر والأخضر وترمز للإعاقة.
الشعار والملصقات والتميمتان سنجدهما اليوم على كل شيء، ليس في
بريطانيا وحدها، ولا على العملات والطوابع وحسب، بل على مختلف أنواع التذكارات،
والملابس، والدمى. لتدور سفينة التجارة حاملة ركابها الآتين من رحم الفن.
وبعيدًا عن التجارة، يبقى أن نتساءل حين يبدأ في السابع والعشرين من
هذا الشهر ذلك العرس الرياضي الذي زينه الفنانون والمصممون والمعماريون، وروح
الإنسانية، لمن تعزف موسيقى الأناشيد الوطنية؟ نتمنى أن ترتفع الغلة العربية هذا
العام، ومعها تعود روح المنافسات النبيلة تقدم صورة متفائلة لعالم جديد.