جدارية محمود درويش: من أصغر الأشياء تولد أكبر الأفكار علاء الدين حسن

جدارية محمود درويش: من أصغر الأشياء تولد أكبر الأفكار

قراءة نقدية

عندما كتب محمود درويش قصيدته الأخيرة, خشي ألا يعيش ليقرأها, فأسماها (جدارية). واستعاد كيانه باستعادته اللغة, ومع ذلك أصرّ على الاحتفاظ باسم قصيدته, ربما إيماناً منه بأنها تستحق أن تعلّق على الجدران كأي عمل عظيم, باعتبارها سجلا للحظات صراع ضد المرض.

(لقد استبدّ فيّ هاجس النهاية منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة, إذ خيّل إليّ بفعل التخدير أنني أعرف وأعجز عن النطق بها, فكتبت على ورق الطبيب: لقد فقدت اللغة, أي: لم يبق مني شيء).

هكذا عدّ محمود درويش في آخر أعماله الشعرية (جدارية) أن الموت هو موت اللغة وعدم القدرة على النطق.

العمل جسّد تجربة شخصية مميزة عاشها الشاعر مع الموت, ومن التجربة الخاصة انطلق نحو العام, ففي مقدورنا, يقول درويش: (أن نجد الخاص في العام, والعام في الخاص). إن صراع هذه القصيدة مع تجربة موت شخصي لم يكن في حاجة إلى الإشارة الواضحة, إلا أن حياتنا العامة هي في حالة صراع جماعي ضد موت الهوية والمعنى, وإن انتصار الشعر منذ كان الشعر, ربما يحمل دلالة قريبة أو بعيدة إلى عالم جديد.

لا شيء يوجعني على باب القيامة
لا الزمانُ ولا العواطف
لا أحسّ بخفة الأشياء أو ثقل الهواجس
لم أجد أحداً لأسأل:
أي (أيني) الآن?
أين مدينة الموتى,
وأين أنا?

وهو هنا يذكّرنا بالشاعر الجزري الذي قال في إحدى قصائده:

وأين الأين إذ لا أين?!

نشيد مديح للحياة

وفي مكان آخر يذكّرنا بقمة الشاعر الإنجليزي: ت.س.إليوت, وذلك عندما يستخدم (الأرض اليباب). ولا يبقى له إلا التأمل في تجاعيد البحيرة, فيما أرض قصيدته خضراء عالية تطل علينا من بطحاء الهاوية.

إن الجدارية هي العمل الأدبي الذي يعلّق على الجدار من حيث إنه عمل جدير بأن يحيا, فالمعلقة لها مكانة خاصة في الشعر العربي الأزلي, وهكذا اعتقد محمود درويش أنها آخر مرة يكتب فيها, فلخّص تجربته لأنها نشيد مديح للحياة.

وهذا الشاعر الكبير لأهم قضية, استحق عن جدارة حب الناس, وهذه الشعلة التي أخذ قبسها من ذلك الفجر المضيء, مازالت تتوهّج, وتعيدنا إلى غنائية أخّاذة, أو تدخلنا إلى عالم القلق, وتطرح علينا أسئلة المصير والبحث عن هاجس الذات.

هزمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعها
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين
مسلّة المصري, مقبرة الفراعنة,
النقوش على حجارة معبد هزمتك وانتصرتْ,
وأفلت من كمائنك الخلودُ...
فاصنـــع بـــنا, واصــنع بنفـــسك ما تريد.

هكذا يكثّف محمود درويش في جداريته ما حاول أن يقول بأساليب متنوعة على مدى القصيدة. إنها لحظة التحدي الأخيرة بين لغة وذاكرة من جهة, ونهاية كانت تقترب بسرعة, فمن غير الشاعر يقدر على منازلة الموت بهذه الحوارية وذاك البوح?

وإذا كان الشعر في أساسه مراناً على الامحاء, فإن الذي فعله درويش هو امتحان اللغة والذات في ميدان ساخن للغاية, من شأنه أن يشدّنا ترقّباً وانتظاراً وخفقان قلب.

في القصيدة نموت ونعيش مع الوحيد في البياض الذي يكرّ ويفرّ, لكنه لا ينسى أن له عملاً على ظهر سفينة نوح المتخطية حدود الطوفان.

بعيداً عن شرفة الموت

محمود درويش في جداريته يتصاعد انتباهاً على شرفة الموت, فيبث إلينا تلك التجربة حكمة آسرة تتباطأ فيها صيرورة الزمن, وسيرورة اللقطات, لنعثر على سفر مبتكر للخلود.

إن درويش يجد نفسه حاضراً ملء الغياب, وكلما فتّش عن ذاته وجد الآخرين, وكلما بحث عنهم لم يجد سوى نفسه الغريبة في زمن ما بعد الحداثة, ولكن أهو الفقيد أم الوليد?

يتلاعب درويش باللغة حيناً, ويستعير بعض جمل التنزيل حيناً آخر, فتأتي شاعريته من ذكاء القلب, ومن فطرة الإحساس بالمجهول, من وردة حمراء في الصحراء, ومعه روزنامته الصغيرة سائراً على خطى (كلكامش) الخضراء, من زمن إلى آخر, حاملاً عن (أنكيدو) عمره ما استطاع.

ومحمود درويش في جداريته - وكما دائماً - مفرشه صهوة القصيدة, وقميصه مسرودة من حديد التحدي, تماماً كالمتنبي, يبدع الحزن الشفيف, يصادق الرمز والأسطورة, كما فعل السياب من قبل, ولا يفقد وضوحه الفني, يلازم الغنائية بثقته المتناهية, ويدير مع الموت حواراً مؤنساً بعمق الموت, علّه ينهي وصايا طرفة بن العبد.

وثمة تصوير حافل بألوان الدهشة, وثمة إيقاع لا يدعنا نغادر حدود الكلمات على مدى أكثر من مائة صحيفة يكون الموت فيها وما يسبقه من مرض وسحاب, هو المحور الأساس, ولكن هل يأتي الموت قوياً, كالفولاذ الذي يقتلع الحياة من جذورها? أم أنه مجرد لحظة صيرورة عابرة?

إن الجدارية هذه تهزّ الكيان الإنساني وتلامس وجدانه لما فيها من صدق وجمالية وعمق في المعنى والمبنى, فالهمّ بلا معنى ومبنى قاتم معتم, ولقد قال درويش ذات مرة: قصـائدنا بلا طعـــم, بلا صوت, بلا لون, إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت.

إنه يبحث في الأنقاض عن ضوء وعن شعر جديد ليرتقي إلى عالم التفاؤل الثوري, ولا يتردّى ألبتة إلى قاع الهزيمة, والثورة في جوهرها إيمان بإمكان تحقيق العدل والخلاص من أسر الظالمين. ولئن كانت الخسائر فادحة, ولئن كانت العصافير بلا أجنحة, فإن الصبر والمصابرة هو مرتكز الانطلاق في ظل القهر والألم. وإذا كان بلاء (أيوب) إلهياً قادماً من السماء, فإن بلاء درويش بلاء أرضي يستدعي التمرّد والزئير, لتبقى أوراق الزيتون مريحة لبصر الإنسان.

إن درويش بصرخته وأجنحته يكشف لنا عن الخطى المديدة, ويدوّن اللحظات النازفة على شواهد الإحراق, لترسم هديراً ونبضاً مشعّاً لقوادم الأيام, منطلقاً من التداعي الحرّ, ومن صورة إلى أخرى يرتبط بعضها بالبعض الآخر, وتكشف عن عالم يكون الجمال فيه ذروة الغاية ومنتهى الهدف, فمن أصغر الأشياء تولد أكبر الأفكار.

إن درويش يشد انتباه العابرين, تمتلئ قصيدته بالخصب والتفكير والتركيز الدقيق دون أي استطراد للزخرفة والتزويق... كلماته غنية بالإيحاء, معها تكبر الأشياء, وبها نصل عالم الرؤى التي إن قدرنا على تأويلها تصبح الأصوات مسموعة, وتتحوّل المشاهد المترامية إلى وجد ناطق بالحكمة وصدق الاغتراب, على أن رؤية درويش الواقعية هي رؤية مأساوية تنبثق من خلالها آلاف السنابل والنسمات التي لا تصدها زحمة العمارات.

هذا هو الأساس الذي يعكس ثبات الموقف دون أدنى درجات التردد متخطيا حدود العقبات.

إغواء الأساطير

وإذا كان مبصر المعرّة قد طرد نقّاده من قصيدته: (لست أعمى لأبصر ما تبصرون), فإن نهراً واحداً يكفي ليهمس (درويش) للفراشة, وليغوي الأساطير القديمة بالبقاء, لقد أخذ الرعاة حكايته وتوغّلوا في العشب فوق مفاتن الأنقاض, وأورثوه بحّة الذكرى على حجار الوداع.

إن القارئ يأتي الجدارية ويخرج منها حاملاً نكد السنين, مثقلاً بالرماد, وبعد أن يكون قد فرغ من القصيدة يشعر وكأن عليه أن يعود من جديد, لما تترك على العقل من رنيم الأفكار, ولما تترك في القلب من أنساق الدهشة, وبهذه الوقدة الحالمة نؤثر الصوت على الصمت, ولا نلعن العتمة وإنما نسارع إلى النبض المضيء حتى يثمر الموت تسانيم الحياة.

وبعد:

فإن محمود درويش صاحب مخيّلة خصبة, وعاطفة عميقة, وقلب حالم, ونظرة إنسانية ملأى بالحب, ولا ريب أن ما حقـــقه إلى الآن يبــــشّر بالكثير الذي يمكن أن ينـــجزه في قادم الأيام إن شاء الله.

 

علاء الدين حسن





 





الشاعر محمود درويش