الدمار الإسرائيلي وبناء الذات الفلسطينية عزمي بشارة

الدمار الإسرائيلي وبناء الذات الفلسطينية

في مواجهة هذه الآلة التدميرية الإسرائيلية لا بد من استراتيجية واضحة تعيد بناء الذات الفلسطينية القادرة على المواجهة

وكأنه قد كتب على الشعب الفلسطيني أن يدحرج صخرة سيزيف إلى أعلى منحدر النكبة في كل جولة لتحبطه من جديد تطورات دولية. عام 1939 قررت بريطانيا ضرب الثورة بقسوة بالغة لا تتناسب مع حجم الثورة, لكي لا تنشغل بمعارك جانبية في المستعمرات عشية الحرب العالمية الثانية. وعام 1948 اختلطت المواقف الدولية حول الشعب الفلسطيني بإسقاطات المحرقة والمسألة اليهودية التي طرحت بإلحاح على المستوى الدولي.

وعام 1967 اتسعت المأساة الفلسطينية, وقد ساهم في ذلك قرار إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا الدخول في صدام مباشر مع التيار القومي العربي وضربه عسكرياً. وعام 1982 تمكنت إسرائيل من خوض مقاومتها العسكرية في لبنان لأن مخططاتها انسجمت مع توجهات ريغان وتاتشر في المواجهة على الصعيد العالمي. وقد اصطدمت الانتفاضة الأولى بحرب الخليج, كما اصطدمت بانهيار الاتحاد السوفييتي والتغيير العاصف الذي طرأ على الفضاء السياسي والاستراتيجي الإقليمي والعالمي الذي نشأت وعملت في إطاره حركة التحرر الوطني الفلسطيني.

يضاف إلى ذلك كله حقيقة أن القضية الفلسطينية تتشابك منذ نشوئها مع المسألة اليهودية كقضية تحرص الصهيونية على بقائها مفتوحة عالميا تمثلها دولة إسرائيل.

من الصعب التعامل مع تعقيدات القضية الفلسطينية, بل ونشوئها, في الوقت الذي انتصرت فيها حركات تحرر وطني في العالم أجمع, وازدياد تعقيدها مع حل القضايا الكولونيالية الاخرى في عالمنا, دون فهم حقيقة أن القضية الفلسطينية لا تشابه من حيث اتساع وكثافة حيثياتها الدولية أي قضية وطنية أخرى في التاريخ الحديث.

لا بد إذن عند الشكوى والتذمر من تعثر الإنجازات الفلسطينية على المستوى الدولي من أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار كأحد الظروف الموضوعية المعطاة. ولا فائدة من حذفها من بين الاعتبارات عند وضع الاستراتيجية, ثم الشكوى بعد ذلك من تطورات عالمية مفاجئة. لا توجد قضية وطنية تأثرت وتتأثر بالأحداث الدولية, كما تتأثر قضية الشعب الفلسطيني.

ولذلك, فإن الشكوى من اصطدام الانتفاضة برد الفعل الإسرائيلي والعالمي على (الإرهاب) بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة, واستغلال الموقف للادعاء أن الانتفاضة لم تجلب سوى الكوارث هي تعبير عن اصطناع المفاجأة مما يجري على الساحة الدولية من أجل تمرير شعور بعدم الرضى عن طريق النضال والمقاومة, وما هذا الشعور في الواقع سوى موقف سياسي سابق للتطورات الدولية.

لا يحسم الموضوع الفلسطيني بصدام إسرائيلي ـ فلسطيني في معركة أو معارك فاصلة, ولا بد من أخذ العامل الدولي بعين الاعتبار. ولكن هذا الأخير ليس مبرراً للاستسلام له وحده والطعن بجدوى النضال. وما دمنا قد قلنا ذلك فمن حقنا أن نتابع ونقول: إن أخذ العامل الدولي وتأثيراته السلبية على إمكان حل القضية الوطنية الفلسطينية حلاً عادلاً منذ العام 1948 بعين الاعتبار يجب أن يترك بصماته على استراتيجية النضال والمقاومة.


ثمن الانتفاضة

ومنذ بداية انتفاضة الأقصى والقدس تبين أن ثمن الانتفاضة بالضحايا أعلى في حين تأثيرها الدولي أقل من الأولى, وأرجعنا ذلك في حينه لأسباب حرية الحركة الممنوحة لإسرائيل دولياً في قمع الانتفاضة نتيجة لنجاح إسرائيل وأمريكا في طرحها كانتفاضة معادية للسلام, ولأنها انطلقت من رفض إملاءات إسرائيل كشروط للتسوية الدائمة.

لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً بالأرواح والخسائر البشرية والمادية بلغ أضعاف ثمن الانتفاضة السابقة في سنتها الأولى. ولم يتراجع هذا الشعب البطل حتى اللحظة عن منطلقات وأهداف الانتفاضة السياسية الضمنية التي لم تعلن في يوم من الأيام: الإصرار على أن التسوية إما أن تكون عادلة ومنصفة وإما ألا تكون. لقد تبارت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية فيما بينها بإصدار بيانات على الإنترنت تعدد فيها يومياً جرائم الاحتلال بالتفصيل من قلع شجرة إلى اقتحام بيت أو حي إلى قتل طفل, وقامت هذه المنظمات بجهد عظيم لا تنتظر عليه مكافأة أو شكرا. ولكن معاناة الشعب الفلسطيني خلال السنة الأخيرة فاقت حتى تصوراته المتشائمة والقائمة على تجربة الاحتلال منذ عام 1967.

لقد اقتحم جنود الاحتلال حياة الإنسان الفلسطيني العادي وغير الناشط سياسياً, فتحول النشاط اليومي العادي والطبيعي والروتيني إلى عملية معاناة: الذهاب إلى العمل معركة يرافقها إذلال يومي, زيارة الأقارب في بلدة مجاورة, وحتى الأفراح والأتراح التي استثنتها أنماط أخرى من الاحتلال من عملية الإذلال والقمع تحولت إلى طريق آلام.

تبرز وسائل الإعلام, وبحق, عمليات الاغتيال والتعرض للنشطاء السياسيين, في سياق المواجهة الإسرائيلية لحركة مقاومة الاحتلال. ولكن جريمة الاحتلال الكبرى في السنة الأخيرة تكمن في التعرض للشعب الفلسطيني ومحاولة قمعه وإذلاله وكسر إرادته السياسية من خلال تصوير وتوضيح ثمن معارضة الإملاءات الإسرائيلية. وكانت الحواجز التي قطعت الجسد الفلسطيني بشكل غير مسبوق والطائرات والدبابات وإطلاق النار العشوائي وسائل الإيضاح الأساسية.


الاحتلال.. أعمى

وطيلة أعوام الاحتلال منذ العام 1967 لم تعتمل في النفوس الفلسطينية مشاعر حقد وغضب على الاحتلال كما تجسدت في عام الانتفاضة الأول. ورغم مشاعر الإحباط من السياسة لم تشهد الساحة الفلسطينية درجة التصميم السياسي الشعبي التي شهدتها في عام الانتفاضة. وتجلى هذا التصميم في الجاهزية الكفاحية العالية, كما تجلى في غياب الحدود بين الفصائل الفلسطينية على مستوى المواجهة مع الاحتلال. وكان الاحتلال الإسرائيلي يصعق في كل مرة يكتشف فيها أن المسافرين في السيارة التي استهدفتها مروحياته تألفوا من رجل أمن فلسطيني وناشط من حماس وآخر من فتح وآخر من الشعبية... وهكذا.

لقد فقد الاحتلال عيونه بفقدان عملائه المباشرين بين السكان مع زوال الاحتلال المباشر عن المناطق المأهولة وقيام السلطة الفلسطينية. وربما احتاج إلى بعض المتعاونين من أجل تنفيذ سياسة الاغتيالات الإرهابية بكثافة. ولكن الاحتلال بشكل عام بقي أعمى, كما بقي تائها في تحديد المسئولين عن المقاومة الشعبية وأعمال الاحتجاج وعن عمليات المقاومة. وقد وصل به التخبط حد اتهام عشائر وحمائل وعائلات بالمسئولية عما يجري في رفح وخان يونس وغيرهما. ومنذ عام 1948 لم يكن الاحتلال الإسرائيلي تائهاً متعثراً كما كان عليه في عام الانتفاضة الأول. فقد جهدت المخابرات العسكرية وأجهزة الأمن العام الإسرائيلية في وضع سيناريوهات من تفاصيل وشذرات معلومات فلا يجد الجيش الإسرائيلي طريقاً إلا بالقصف العشوائي والبلدوزر والمواجهة الشاملة.

هكذا وجد الاحتلال نفسه في مواجهة مع الشعب الفلسطيني لم تسفر عن نتائج. وإذا اعتبرنا الاحتلال هو البادئ بالعدوان الشامل طيلة العام الماضي, فهو لم يحقق نتائج سياسية تذكر, أما إذا اعتبرنا الانتفاضة مبادرة فلسطينية للتمرد على إملاءات كامب ديفيد فقد حققت الانتفاضة إنجازاً أساسياً واحداً هو منع فرض تسوية غير عادلة.

الانتفاضة وطبيعتها

دار منذ بداية الانتفاضة نقاش فلسطيني في الندوات الداخلية وفي وسائل الإعلام حول طبيعة الانتفاضة ومصادر قوتها: هل الانتفاضة عبارة عن عصيان مدني شعبي صدامي أم هي عبارة عن عمليات مقاومة مسلحة متواصلة? ولم تحسم الانتفاضة أمرها حتى اللحظة الأخيرة. ولا أظنه كان خياراً واعياً ومدروساً أن تختلط في الانتفاضة مظاهر المقاومة المسلحة مع العمليات الاستشهادية مع التظاهرات الشعبية وتجمعات الشبان التي ترمي جنود الاحتلال بالحجارة. وفيما عدا تنظيمات شعبية قامت كلجان مقاومة محلية بدا أن تنظيم الانتفاضة عبارة عن إدارة يومية ونضال مقاومة وردود فعل انتقامية متصاعدة على القمع الإسرائيلي وتعبير عن غضب شعبي.

لقد أصرّت السلطة الفلسطينية, كما أصرّت القوى السياسية المختلفة على أن الانتفاضة بدأت بعفوية جماهيرية كرد فعل على مذبحة الأقصى يوم الجمعة 28 سبتمبر 2000 وعلى استفزاز شارون في اليوم الذي سبقه. وكأن تنظيم الانتفاضة بشكل دائم ومثابر وبناء على استراتيجية موحدة هو أمر مرفوض لا يصح الخروج به علنياً أو دولياً. يتجلى هذا المزاج السياسي الفلسطيني الغريب في الجمع بين اعتبار الحركة الشعبية عفوية لا أب لها من ناحية, وقبول التنافس بين التنظيمات على تبني كل عملية مقاومة, حتى عندما يتطلب الظرف عدم الإسراع في تبنيها من ناحية أخرى.

يتحمل هذا المزاج السياسي مسئولية انتشار العفوية وعدم الانضباط واعتبارها ظاهرة صحية أصيلة وشعبية واعتبار النظام والمسئولية والالتزام برأي الأغلبية وبقرارات القيادة كلها أموراً مصطنعة غير أصيلة ونخبوية وتنظيرية وغير ذلك مما يحسب مثالياً في عرف هذه الثقافة السياسية. وقد بينت انتفاضة الأقصى والقدس كما بيّن تاريخ مقاومة الاحتلال بشكل عام, وتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية أنه لا يمكن خوض صراع طويل المدى مع إسرائيل بالتعقيدات الدولية والإقليمية التي تحف بالقضية الفلسطينية دون حد أدنى من الاستراتيجية والتنظيم حتى في ظروف التعددية السياسية.

لقد حاول تنظيم فتح في بداية الانتفاضة أن يمسك بزمام المبادرة ولكن على المستوى الميداني فحسب. وبدت الانتفاضة كأنها ظاهرة طبيعية يتسابق المحللون الفلسطينيون والعرب في وضع أهدافها وتوقع خطواتها التالية, وأخيرا قضت الديمقراطية العربية الفضائية أن يشارك المشاهدون في التحليل. ولم يعرف المواطن الفلسطيني حتى نهاية عام الانتفاضة الأول هل الانتفاضة هي:

1 ـ أداة سياسية لتحسين الوضع التفاوضي الفلسطيني, أم هي:

2 ـ أداة لإفشال الإملاءات السياسية الإسرائيلية, أم هي:

3 ـ انتفاضة حتى الاستقلال, أم هي:

4 ـ انتفاضة كتعبير عن غضب لا ينتهي ضد اليهود ولدفعهم إلى الانسحاب دون اتفاق?

لا عيب في انتفاضة جماهيرية تتفجر بشكل منظم وبناء على استراتيجية علنية ولديها قيادة معروفة صاحبة قرار حول أساليب النضال وحول الجبهات التي يدور فيها, ولا بأس بإقرار علني لأهداف الانتفاضة السياسية المرحلية والاستراتيجية. بل هذا هو الخيار الصحيح, والطريق الوحيد نحو عمل جماهيري فاعل سياسياً. ليست الانتفاضة ظاهرة مؤلفة من غبار إنساني غاضب, ولا هي عاصفة أو إعصار ينشغل المختصون بتحليل أسبابه ونتائجه ويقتصر عليهم توقع خطواته التالية بناء على تخمين منطقه الداخلي.

ضد العفوية

صحيح أن الانتفاضة عبّرت عما يعتمل في نفس الشعب الفلسطيني من مشاعر ابتداء من مشاعر الغبن والغضب وانتهاء بالتمسك بعدالة القضية الفلسطينية, ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن تختزل إلى ظاهرة عاطفية عفوية. يجب أن يعكس تحرك سياسي بهذا الحجم وهذه الاستمرارية استراتيجية سياسية منظمة غير عفوية تضع لنفسها أهدافاً سياسية.

وإذا لم تكن الانتفاضة كذلك, فهذه كارثة محققة. لأن كل المتحمسين للعفوية المتبرمين من التنظيم والتنظير والاستراتيجية يتحولون في هذه الحالة بين ليلة وضحاها إلى أصابع اتهام موجهة للانتفاضة والقيادة بهدر دم الشهداء دون إنجازات سياسية. وهل بالإمكان تحقيق إنجازات سياسية دون أهداف سياسية, وهل بالإمكان السعي لتحقيق أهداف سياسية دون استراتيجية? ومن يضع الاستراتيجية? وهل بالإمكان النضال ضمن استراتيجيتين أو ثلاث?

لم تعلن الانتفاضة كاستراتيجية للوصول إلى هدف سياسي, ولكن انفجارها فسر كغضب جماهيري على اقتحام المسجد الأقصى من قبل شارون بإذن باراك, ثم أصبح التمسك بهذا الموقف الجماهيري, أو الحالة الجماهيرية مصلحة فلسطينية تلتقي عليها السلطة الفلسطينية والقوى السياسية التي اصطلح على تسميتها بالمعارضة. وهكذا أصبحت استمرارية الانتفاضة هي الهدف... إلى أن يخلق الله ما لا تعلمون.

ونذكر جيداً كيف درج على اتهام القيادة الفلسطينية في حينه بإنهاء الانتفاضة الأولى وذلك بتوقيع اتفاق أوسلو. وكأن إنهاء الانتفاضة في حينه كان تهمة, وليس لأنه كان لدى من يصر على الاستمرار استراتيجية, بل لأن غياب الأفق السياسي أمام العمل النضالي يؤدي إلى أحد ردي فعل: الاستمرار بكل ثمن, أو التوقف بكل ثمن. كلتا الحالتين تؤشر إلى غياب الاستراتيجية السياسية المتفاعلة بشكل جدلي مع المتغيرات الواثقة من ذاتها ومن شعبها.

يعني التعامل مع المتغيرات السياسية بشكل جدلي أن النضال وتوقيته وأساليبه أداة في خدمة هدف سياسي, وهو ليس هدفاً, هل الهدف السياسي هو التحرر من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وإزالة الاستيطان وإحقاق حق العودة للاجئين الفلسطينيين? نعم. هذا هو هدف النضال التحرري الفلسطيني. ولكن هل هذا هو هدف الانتفاضة? هل تستمر الانتفاضة بالزخم نفسه وبأقصى درجات استنفارها لطاقات الناس وجهودهم وتضحياتهم إلى أن يتم تحقيق هذا الهدف? لقد انطلقت الانتفاضة بمبادرة سياسية متصدية لمحاولة أمريكية ـ إسرائيلية لفرض تسوية غير عادلة تقايض الدولة الفلسطينية بكل مركبات العدل والانصاف النسبيين ـ ولم تستمر الانتفاضة عفوياً بل لأنه كانت هنالك مصلحة سياسية باستمرارها.

وكما في أي حركة وطنية جماهيرية بحجم انتفاضة القدس والأقصى ابتكرت رموزاً وأبدعت بطولات وقدست الشهادة والتضحية, فهذه عوامل مهمة في شحن الجماهير من أجل الاستمرار, ودفعت صورة الشعب الفلسطيني الذاتية والخارجية ثمناً باهظاً بسيطرة الجنازة وتشييع جثمان الشهيد, والملثمون يطلقون النار في الهواء أثناء مسيرة التشييع على المشهد. هنا تغلبت حاجات الاستمرار بالنضال من أجل إفشال تسوية غير عادلة ومن أجل اختراق حصار دولي سياسي على الشعب والقيادة الفلسطينيين على الحس الجمالي والضرورات الإعلامية.

ولكن لم يعتقد أحد أنه بإمكان الرموز وحدها ودون إنجازات سياسية ملموسة مواصلة الطريق بالزخم نفسه حتى تحقيق انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي التي احتلت عام 1967م بما فيها القدس, وإزالة المستوطنات وإحقاق حق العودة للاجئين الفلسطينيين. المهم هو عدم التوقيع على حل دائم غير عادل. والثقة بالذات وبالشعب تعني أنه مادام الوضوح السياسي الذي يمنع الوقوع في حلول وتسويات غير عادلة متوافرا, وما دامت المثابرة والتصميم وصلابة الإرادة السياسية والنفس الطويل التي تمكن من الاستمرار متوافرة, فإنه لا مانع على الإطلاق من توفير التضحيات وتغيير الأساليب في مرحلة يرتفع فيها ثمن هذه الأساليب الكفاحية وتقل نجاعتها السياسية. والتوفير بالضحايا, خاصة البشرية والاجتماعية, عندما تكون نجاعتها السياسية محدودة هي مهمة مقدسة لقيادات مسئولة وثورية فعلاً, لأن هذا النوع من المسئولية هو الضمان للاستمرار على المدى البعيد.

الحل البعيد

لا يوجد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية خلف المنعطف القادم. وإذا أدركنا هذه الحقيقة توقفنا عن التفكير في إطار ومعادلات الحل وبدأنا التفكير باستراتيجية النضال طويل المدى. ويعني النضال طويل المدى تكييف الأساليب النضالية لتتناسب مع قدرة الناس على الصمود والتحمل لمدى أطول, كما يعني أيضاً عدم تأجيل القضايا المتعلقة ببناء المجتمع والسلطة والاقتصاد, وعدم حشرها في هوامش الاهتمام السياسي.

يتضمن النضال طويل المدى الصدام مع الاحتلال على مستوى استمرار عمليات الاحتجاج والتصدي للاستيطان ولتهويد القدس وللتقييدات التي يفرضها الاحتلال على حركة المواطنين وحياتهم اليومية, كما يتضمن توسيعاً مستمراً بفرض السيطرة الفلسطينية على المقدرات الاقتصادية والأمنية والسياسية كأمر واقع. ويتضمن النضال طويل المدى أيضاً عملية البناء الذاتي المستمرة للمجتمع والسلطة الفلسطينيين مع تأكيد خاص على البناء الاقتصادي والتعليمي وتحديث نظم الإدارة ومأسسة عملية اتخاذ القرار من أدنى مستويات العمل المجتمعي إلى أعلى مستويات العمل السياسي.

إذا أراد الشعب الفلسطيني, وإذا أرادت القيادة الفلسطينية الانتصار في معركة فرض الإرادة الوطنية فإنه لا يمكن تأجيل هذه القضايا ومحاولة حسم المعركة مع إسرائيل من خلال عمل نضالي واحد تستثمر فيه كل طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته مما يقود إلى أحد خيارين: اليأس والاحباط أو قبول تسوية غير عادلة. وفي الحالتين يبقى هذا الشعب دون حل مسألة السيادة الوطنية كمهمة رئيسية يضاف إليها ازدياد تعقيد القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحاسمة بالنسبة لمصيره ومستقبله.

لا يمكن أن تنتصر إسرائيل في النضال طويل المدى إذا تضمن الصراع عملية بناء الذات, ومن ضمنه بناء المؤسسات الاقتصادية والتعليمية وتشجيع الطاقات والكفاءات الفلسطينية للعودة إلى الوطن ومنحها الفرصة للمشاركة. ولا يمكن أن يتم هذا كله دون إصلاح مبنى السلطة بمشاركة القوى السياسية الفلسطينية الرئيسية.

من ناحية أخرى, يجب عدم السماح لنزعة البناء الذاتي أن تُستخدم كتبرير لإزالة الحواجز النفسية والسياسية مع المؤسسة الصهيونية. فقد أثبتت مرحلة أوسلو أن هذه لا تؤدي إلى بناء اقتصادي واجتماعي يستحق الذكر, وإنما, إلى نشوء نخب فلسطينية اقتصادية وسياسية وسيطة لا تعمل على بناء صرح المجتمع الفلسطيني الحديث وإنما على بناء مصالحها كوسيط بين إسرائيل والشعب الفلسطيني, الأمر الذي يطور بالضرورة موقفاً سياسياً وسيطاً أيضاً.

المعادلة المطلوبة, والممكنة في الوقت ذاته إذا توافرت عناصر الإرادة والوعي السياسي, هي المعادلة التي تربط استمرار النضال ورفض التوقيع على تسوية غير عادلة مع عملية بناء الذات البطيئة والتدريجية والمثابرة ضمن المعطيات القائمة ومن خلال خلق حقائق واقعية تعيد تشكيل هذه المعطيات.

بإمكان المرء أن يفهم وأن يتفاعل مع النقاش الذي دار على الساحة الفلسطينية مع نهاية عامها الأول خاصة بعد عمليتي نيويورك وواشنطن: هل بالإمكان وقف الانتفاضة, وخاصة العمليات المسلحة التي رافقتها, دون إحراز إنجاز سياسي ملموس? وهل بالإمكان العودة إلى التفاوض على تسوية دون تغيير سياسي في الموقف الإسرائيلي بل مع تدهور الموقف الإسرائيلي سياسياً? ولكن شرط إجراء نقاش حقيقي ذي معنى حول هذه الأسئلة هو التحرر من ثنائية وقف الانتفاضة والقبول بالتسوية, أو الاستمرار بالأنماط النضالية نفسها دون أخذ العوامل الدولية والإقليمية المتغيرة بعين الاعتبار. بالإمكان رفض التسوية غير العادلة والاستمرار بالنضال مع أخذ الأوضاع السياسية المتغيرة وضرورات الحياة في صراع طويل المدى بعين الاعتبار.

التغييرات في إسرائيل

شابه المجتمع الإسرائيلي في ردود فعله على الانتفاضة إلى حد بعيد سلوك (إليشوف) اليهودي السياسي عام 1948. اتخذ الصراع مع الشعب الفلسطيني مباشرة في الحالتين أشكالاً مسلحة وفهماً إسرائيلياً على أنه صراع وجود.

وتتلخص ردة الفعل الأبرز في الانغلاق الوطني والتأكيد على الوحدة في مواجهة المخاطر المحدقة. ومن نافل القول إن المجتمع الإسرائيلي لم يدافع عن وجوده في الانتفاضة, وربما كان العكس هو الصحيح, أي أنه فرض صراع وجود على المجتمع الفلسطيني. ولكن الاقتناع الذي رسخه باراك وأتى في نهاية المطاف بشارون إلى سدة الحكم, أن الصراع يدور حول حق اللاجئين في العودة, وأن عدم تسليم الفلسطينيين بوجود إسرائيل هو الذي دفعهم لرفض اقتراحات كلينتون ـ باراك في كامب ديفيد. هذا الاقتناع جعل الصراع يبدو على المستوى الأيديولوجي صراعا على وجود الدولة اليهودية.

في مثل هذه الأجواء السياسية جاءت العمليات الفلسطينية المسلحة والموجهة ضد المدنيين لتؤكد هذه المخاوف بالطبع. ولا شك أن مخططي هذه العمليات لم يكونوا على قدر من السذاجة ليعتقدوا أن هذه العمليات ستؤدي إلى هزيمة الاحتلال أو الإخلال بالتوازن العسكري بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.

وفي غياب استراتيجية سياسية واضحة تندرج ضمنها هذه العمليات المسلحة ليس للمحلل إلا أن يقدر أنها تعكس مزاجاً سياسياً معادياً لإسرائيل والاحتلال وراغباً في الاقتصاص منه. ولكي يتم نص هذا الموقف بشكل عقلاني نقول: إن هدف هذه العمليات كان إجبار إسرائيل كدولة وكمجتمع على دفع ثمن الاحتلال, وعدم قصر الثمن على الشعب الواقع تحت الاحتلال, وذلك باضطرار المجتمع الإسرائيلي إلى تغيير نمط حياته بعد تخويفه وإرهابه. لقد حققت العمليات هذا الهدف.

لدينا هنا مثال ممتاز على تحقيق هدف دون تحقيق فائدة من تحقيق هذا الهدف, أي دون أن يكون تحقيق الهدف إنجازاً. لأن الإنجاز يقاس بموجب استراتيجية. وإذا تلخصت الاستراتيجية الموجهة إلى المجتمع الإسرائيلي في إجباره على استنتاج النتائج السياسية الناجمة عن عدم تحمل ثمن الاحتلال والانسحاب بالتالي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 أو التنازل عن مواقفه السابقة, فإن الخوف وانعدام الحياة الطبيعية في إسرائيل والذي أدت إليه العمليات المسلحة في فترة الانتفاضة لم تؤد إلى هذه الاستنتاجات السياسية بل إلى الارتداد نحو اليمين والالتفاف حول (حكومة وحدة وطنية). لا توجد إذن علاقة ميكانيكية بين قطبي الوســـائل والأهـــداف, بل هــنالك علاقة جدلية لا بد أن يتم فـــيها التــفاعل مع قطب ثالث هو الواقع السياسي القائم. وتحليل الوضع السياسي القائم في إسرائيل هو الذي يمكن من طرح السؤال: لماذا نجحت المقاومة المسلحة اللبنانية في تقسيم المجتمع الإسرائيلي بين مؤيد ومعارض للانسحاب من لبنان من طرف واحد ثم إلى ترجيح كفة المؤيدين على المعارضين, في حين ساهمت العمليات المسلحة الفلسطينية إبان الانتفاضة في توحيد الشعب الإسرائيلي بدل تقــسيمه.

لقد دخل المجتمع الإسرائيلي مرحلة الانتفاضة بعد مؤتمر كامب ديفيد, فماذا يعني هذا? لقد فشل مشروع حزب العمل الداعي إلى تسوية مع الفلسطينيين بشروط يقبلها أكثر بقليل من نصف المجتمع الإسرائيلي بما في ذلك بعض مؤيدي الأحزاب اليمينية, وأدى ذلك إلى التفاف المجتمع الإسرائيلي حول طرح اليمين الذي أكد (استنتاج) باراك في كامب ديفيد حول عدم توافر شريك فلسطيني للتسوية. تعني هيمنة هذا الاقتناع على الساحة السياسية الإسرائيلية أن العمل السياسي في المجتمع الإسرائيلي يتم في سياق فهم الانتفاضة (كحرب مفروضة, أو بترجمة من العبرية: (غير اختيارية)... فالثقافة السياسية الإسرائيلية الاستيطانية تقسم الحرب إلى حرب (اختيارية) لا يتوحد المجتمع الإسرائيلي حولها وحرب (غير اختيارية), أي دفاعية, يخرس فيها النقاش احتراماً وإجلالاً لدوي المدافع. وقد دخلت حرب لبنان التاريخ السياسي الإسرائيلي (كحرب اختيارية) تصح معارضتها حتى أثناء سير العمليات. وهنا تطرح نفسها إسرائيلياً المقارنة التالية:

1 ـ حرب 1967 كانت حرباً ضرورية دفاعية بالمفهوم الإسرائيلي.

حرب 1982 لم تكن كذلك بل فهمت منذ بدايتها كتنفيذ لخطة سياسية شارونية قائمة على قضايا خلافية.

2 ـ لم يوجد ولا يوجد في المجتمع الإسرائيلي موقف سياسي جدي يستحق الذكر دعا أو يدعو لضم جنوب لبنان إلى إسرائيل.

توجد قوى سياسية إسرائيلية جدية دعت وتدعو إلى ضم الضفة الغربية أو ضم أجزاء منها والاستيطان فيها.

3 ـ عند تكبيد إسرائيل خسائر بشرية في لبنان نزع تيار مركزي في المجتمع الإسرائيلي لاستغلال هذه الخسائر لتدعيم موقفه المعارض لوجود إسرائيل في لبنان بالتأكيد أنه كان بالإمكان توفير هذه الخسائر.

عندما تكبدت إسرائيل خسائر بشرية خلال الانتفاضة لم تكن هنالك قوة إسرائيلية جدية واحدة تحمل الوجود الإسرائيلي في الضفة والقطاع مسئوليتها, أو تذهب إلى إمكانية تجنب هذه الخسائر, بل بالعكس, فقد ساد في المجتمع الإسرائيلي الاقتناع أن هذه خسائر لا بد منها وأنه لا يوجدحل سياسي يوقف (الإرهاب) ومن غير الممكن القضاء عليه (قضاء) مبرماً بالوسائل العسكرية.

4 ـ غالبية الخسائر الإسرائيلية في لبنان وقعت في صفوف الجنود, الأمر الذي يؤكد على أن المسألة الأساسية تكمن بوجودهم في جنوب لبنان, وهي مسألة تحسم سياسياً في نهاية المطاف إما من خلال اتفاق سلام أو بانسحاب من طرف واحد.

غالبية الخسائر الإسرائيلية في حالة الانتفاضة وقعت في صفوف المدنيين داخل الخط الأخضر, الأمر الذي يؤكد, نفسيا على الأقل, طرح اليمين أن قضية الصراع ليست وجود إسرائيل في الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 بل وجود إسرائيل بشكل عام, أي أن الصراع هو صراع وجود لا بد خلاله من التوحد للدفاع عن هذا الوجود.

تحتاج القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة في مرحلة التحرر الوطني إلى استراتيجية تتفاعل جدلياً مع معطيات الواقع الذي تثور عليه. ولا تقل أهمية عن ذلك الحاجة إلى استراتيجية موحدة ليس فقط لأن الشعب واحد, وهدفه في مرحلة التحرر الوطني واحد, بل لأنه لا يمكن خوض النضال وتحقيق النتائج دون استراتيجية موحدة.

يشكل التعامل مع متغيرات السياسة مثالاً بارزاً على جدلية الوسائل ـ الأهداف ـ الواقع دون الانزلاق إلى انتظار نتائج العملية السياسية الداخلية الإسرائيلية, وإنما كجـزء من ضرورات النــضال. والمـــقاومة اللبنانية لم ــتتعامل مع الواقع الإســـرائيلي (والعربي أيضاً) بـــشكل بارع فحـــسب, بل توافرت لديها استراتيجية نضالية واضـــحة وموحــدة قائمـــة على وضوح الهدف ودراسة معمقة للإمكانات, بما فيها العنصر النضالي الذاتي.

 

عزمي بشارة





القدس هي محور الصراع ولكنها ليست فقط هي المقدسة. فلسطين كلها أرض مقدسة





الانتفاضة الفلسطينية عثرة الحظ. اصطدمت أولها بحرب الخليج والأخرى بحرب أفغانستان ولكنها باقية وتدفع الثمن من دم أبنائها





يمكن لإسرائيل أن تمتلك بحق لقب قاتلة الأطفال ولا ينازعها أحد في ذلك





 





تسعى إسرائيل لإصابة أكبر عدد من الأطفال العرب. إنها تسعى لقتل المستقبل