ثقافة إلكترونية: «جوجل».. علامة فارقة للتنوع الثقافي الافتراضي

   ثقافة إلكترونية: «جوجل».. علامة فارقة للتنوع الثقافي الافتراضي
        

          لا أخفيكم قولاً أنني قبل الخامس عشر من أكتوبر الماضي لم أكن أعرف شيئا عن «وينسر مكاي»، وربما لم أكن لأعرف عنه لولا تصفحي اليومي لصفحة محرك البحث جوجل، للبحث عن مواضيع مختلفة مما أنشغل به، حيث وجدت الصفحة مختلفة بعض الشيء. فأسفل حروف «جوجل» اللاتينية الشهيرة وجدت ثلاثة كادرات مصورة بدت مثل شريط من قصة مصورة لفتى صغير يغط في النوم بغرفته على فراشه، وفي الثانية يرتفع الفراش قليلا ويبدو الفتى فزعا بعض الشيء، ثم في الكادر الثالث يرتفع الفراش أكثر حتى يبدو الفتى وهو يتعرض للسقوط على أرض الغرفة إلى فجوة صغيرة انفتحت في الأرض بغتة. ثم يخرج سهم أسفل الكادر الثالث، حين نقرت عليه ظهرت أسفل الكادرات الثلاثة مجموعة  أخرى من الكادرات، سرعان ما تبين أنها تتابع لقصة مصورة تعرف باسم «نيمو الصغير والسرير المتحرك» ومبتكرها هو وينسر زينيك مكاي Winsor ZenicMcCay) (أكتوبر 1869 - 26 يوليو 1934)؛ رسام الكاريكاتير والرسوم المتحركة الأمريكي, المشهور بسلسلته الكارتونية الفكاهية المصورة Little Nemo (نيمو الصغير) التي ابتكرها في العام 1905م.

          بالإضافة لتفاصيل حياة هذا الفنان المميز، توقفت متأملا كيف أصبحت «الإنترنت»، وسيلة حقيقية للمعرفة والثقافة العامة، حتى لمن يقصدها من دون هدف محدد، والحقيقة أن جوجل بدأت هذا التقليد الخاص بالتنويه عن مناسبات تاريخية خاصة، مثل ذكرى ميلاد عالم أو فنان عالمي أو عربي، أو إحياء ذكرى أو مناسبة تاريخية أو فنية منذ فترة تمتد إلى عامين الآن تقريبا وربما أكثر قليلا، مؤسسة تقليدا خاصا بها يعكس الطابع العام الذي باتت شبكة الإنترنت موسومة به كشبكة للمعرفة العامة، وأضيف إلى هذه السمة أنها، في الحقيقة، أصبحت وسيلة مهمة لكشف التنوع الثقافي الكبير للكوكب الذي نحيا فيه في عصر باتت فيه العولمة طابعا عاما نرى أثره في الاقتصاد والسياسة والثقافة العامة وغيرها من مجالات الحياة والسلوك البشري.

عفاريت الغابة

          وقبل الاستطراد في فكرة التنوع الثقافي الذي تعكف شبكة الإنترنت على إبرازه، أتوقف أولا عند الفنان الأمريكي مكاي، بوصفه ملهم فكرة هذا المقال، والذي ترجح المصادر أنه ولد في ميتشجان بالولايات المتحدة بالعام 1869، بينما تشير بعض المصادر إلى أنه ولد في كندا في العام 1867.

          حقق وينسور مكاي شهرة كبيرة وأسهم في سرعة انتشار وشعبية الرسوم المتحركة والقصص المصورة، بفضل موهبته الفريدة وخياله الجارف، وهو ما يجعل الكثيرين من متتبعي تاريخ القصص المصورة يشيرون إليه باعتباره - مع والت ديزني - أبرز اسمين رائدين في هذا المجال.

          بدأ حياته العملية في عمر المراهقة، حيث انتقل إلى شيكاغو بعد فترة قصيرة ومحدودة لدراسة التصوير، وعمل لدى إحدى وكالات النشر والإعلان، وتخصص في رسم إعلانات خاصة بالسيرك، وفي العام 1880 انتقل من شيكاغو إلى سينسناتي، حيث بدأ في تصميم إعلانات المتاحف. وفي العام 1891 انتقل إلى صحيفة Sinsinnati Times Stars حيث برز كرسام ومحرر للقصص المصورة، وانتقل بين عدة صحف أخرى لاحقا وحتى العام 1903، حيث نشر أولى قصصه المصورة «حكايات عفاريت الغابة» أو Tales of The Jungle Imps، وفي نفس العام شرع فن القصص المصورة يحقق نجاحا كبيرا واهتمامًا شعبيا، بدأت معه كبريات الصحف الأمريكية تتسابق في دعوة الرسامين لرسم القصص المصورة على صفحاتها، وهكذا انتقل مكاي إلى نيويورك، حيث عمل في صحيفتي تليجرام المسائية التي كان يوقّع فيها باسم سيلاس Silas، وصحيفة هيرالد Herlad.

          بين العامين 1909 و1911 انتقل للعمل في مجال الرسوم المتحركة والأفلام، ثم عكف على القصص المصورة مرة أخرى، ابتداء من العام 1911 حيث أصدر أبرز القصص المصورة التي عرف بها، وبينها «أرض الأحلام العجيبة»، كما استمر في رسم قصص مغامرات ميمو الصغير التي ابتكرها في العام 1905، ونشرت مسلسلات قصصية مصورة منها في العديد من الصحف ومجلات القصص المصورة.

          وعرفت قصص وينسور مكاي برسومها الدقيقة ومستواها الفني العالي، وألوانها المميزة، إضافة إلى الخيال، وقوة التصميم، ما جعلها شديدة التميز مقارنة بأعمال أي من مجايليه، كما يشير الناقد والمؤرخ جون كانميكر، وذلك جعلها تعيش طويلا وتحقق انتشارا كبيرا في عصر مكاي، بل وتدعو أجيال جديدة من المهتمين بهذا الفن إلى إعادة استدعاء أعماله ونشرها منذ ثمانينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة. وأنجز مكاي عددا من أفلام الرسوم المتحركة بينها «How a Mosquito Operates» وفيلم ««Gertie the Trained Dinosaur اللذين يعدان من الكلاسيكيات الشعبية في تراث هذا الفن بالولايات المتحدة.

القصص المصورة رافد للتنوع الثقافي

          هذه المعلومة عن هذا الفنان المميز واحدة من ملايين المعلومات التي تفيض بها الشبكة الدولية للمعلومات عن ثقافات العالم، والتي تكشف التنوع الهائل للثقافة البشرية، بما يتضمنه ذلك من طقوس وعادات اجتماعية، وإنجازات علمية، وتراث ثقافي، ولغات ولهجات ووسائل تعبير فني وأدبي، وإرث من التصميمات المعمارية أو الحرف التقليدية والمهارات التي يختص ويتميز بها كل مجتمع عن الآخر.

          والتوقف عند مكاي في الحقيقة، ليس لمجرد أنه اختير من قبل جوجل للاحتفال بذكراه، بل لأن هذا الاختيار في حد ذاته يكشف كيف أن المجتمعات التي تقدمت بسرعة هائلة مثل المجتمع الأمريكي بفضل الديمقراطية أولا، وما أنتجته من تطور في شتى المجالات، اهتمت مبكرا بإعداد الأجيال الجديدة باعتبارهم صناع مستقبل حضارة الأمة من خلال الارتقاء بخيالهم من جهة، وفتح آفاق العالم أمامهم وكشف أهمية فكرة التنوع بواسطة تلك المغامرات المشوقة المدهشة، وسواها للعديد من فنانين كُثر انتعش على يديهم فن القصص المصورة في أمريكا. فمثل تلك الفنون المميزة للأطفال والفتيان قدمت لهم عوالم مختلفة، وفتحت أعينهم مبكرا على فكرتي التنوع والاختلاف، وهما مسألتان أساسيتان في الثقافة الأمريكية التي ركزت باستمرار على التنوع باعتباره جوهر وجود أمريكا كمجتمع تكون من هجرات كل إثنيات وعرقيات العالم تقريبا.

أفكار ضد الزمن

          وعلى النقيض من ذلك يمكن القول، عبر العديد من الشواهد والدلالات، إنه كلما زادت درجة الفقر وتدنى مستوى التعليم في أي مجتمع ارتفع مستوى الانغلاق على الذات والتمركز حولها باعتبارها جوهر الوجود، وبالتالي عدم معرفة الاختلافات العديدة التي يتحلى بها الآخرون، وهذا هو ما نراه اليوم بشكل بارز مثلا لدى ممارسات بعض القوى التقليدية، مثل جماعة «طالبان» في أفغانستان التي تحارب كل القيم العلمية والعقلانية والفنية والأدبية، بدعوى أنها تجسد قيم العلمانية، وتمارس لفرض قناعاتها في رؤيتها المنغلقة والمتخلفة أسلوبا عنيفا رأينا العديد من شواهده المدمرة والدموية معا خلال العقدين الماضيين.

          وبدرجات أخرى متفاوتة من التشدد تتخذ الكثير من الجماعات البشرية، خصوصا تلك التي تؤكد مرجعية دينية تربط بها وجهة نظرها الواحدية هذه، من فكرة رفض التنوع الثقافي البشري ذريعة للعودة إلى عصور مضت، عرفت فيها المجتمعات الإنسانية بالبدائية والتخلف. ولا تكتفي مثل هذه الجماعات بهذا التشدد في العودة بالزمن وتوقيفه عند زمن ماض معاندة طبيعة الأمور التي تقول بأن التطور البشري هو هدف كل الرسالات الأخلاقية والدينية، بل وتسعى أيضا لفرض تجمدها هذا أو موقفها الفكري الدوجمائي على الآخرين، متصورة أن ما تراه هو الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تتحول إليها جموع البشرية!

          هذه التصورات المراهقة في الحقيقة نرى انعكاساتها في العديد من القوى المحافظة من مثل بعض الكنائس المسيحية المتشددة التي تتبنى فكرة التبشير في أرجاء مختلفة من العالم، خصوصا في المناطق النائية والفقيرة، وكذلك الأمر بالنسبة للجماعات التي ترفع شعارات دينية مختلفة، وتريد أن تلزم بها الآخرين أيا كانت دياناتهم أو ثقافاتهم أو تراثهم الإنساني.

تنوع ثقافي أم قالب واحد

          وقد تبدو هذه الممارسات عند تأملها كسلوكيات لها دوافع فكرية واجتماعية، لكن الحقيقة أن هناك ظروفا أخرى ينبغي أخذها في الاعتبار عندما نفكر في هذه الظواهر، وهو البعد الاقتصادي.

          في كتابه «خرافة التنمية» يقول الدبلوماسي والمفكر البيروفي أوزوالدو دي ريفيرو «إن عدم الاستقرار السياسي الناجم عن تباين في النمو بين تزايد السكان ومستويات الموارد مماثل لانعدام استقرار الألواح التكتونية للأرض، إذ من المعروف أن تفاعل هذه الألواح التكتونية سيحدث زلزالا ذات يوم، لكن لا يستطيع أحد أن يتنبأ متى سيحدث ذلك بالضبط. ومن غير الممكن ايضا التنبؤ متى يتجاوز بلد حد احتمال الفجوة بين سكانه وموارده ومتى ينفجر من الداخل بعنف. بل لا يستطيع أحد أن يتنبأ إذا ما كان هذا العنف سيرتدي قناع الإيديولوجيا أو الدين أو الإثنية، أو سيكون مزيجا من الفوضى والجنوح العام».

          لكنه يعود إلى جذور الموضوع أيضا في موضع آخر من الكتاب حيث يقول: «توجد جذور النهب كثابت في تاريخ الإنسان في الميل الفطري «للإنسان العاقل» إلى اعتبار جماعته (العائلة أو القبيلة أو العشيرة أو المجموعة الاثنية أو الأمة أو الدين أو الثقافة) مختلفة عن الجماعات الأخرى ومتفوقة عليها، وبالتالي تقسيم النوع البشري بين «نحن» و«هم». والقيام بذلك يعني أننا لا نتشاطر إنسانيتنا مع الأناس الآخرين الذين ينتمون إلى مجموعات إثنية أو معتقدات أو ثقافات مختلفة تصل إلى حد معاملتهم كأنواع مختلفة، وبالتالي توليد مفهوم «العدو». وقد أطلق خبير السلوك الألماني إيبلايبسفلدت على هذه العقلانية النهبية تسمية تحديد الأنواع الزائف. وللبشر ميل غريزي إلى تحديد أنواع زائفة للبشر الآخرين ومعاملتهم كما لو أنهم نوع مختلف».

          هذان المقتطفان يكشفان أن هناك جانبا بيولوجيا أو ذهنياً بدائياً لايزال يتحكم في البشر، ويجعلهم يفكرون بطريقة إقصاء الآخر وتوهم فرادة الذات أو الجماعة التي ينتمون إليها. ومن جهة أخرى، فإن هذه البدائية كلما كانت أكثر تغولا في مجتمع من المجتمعات كانت معرضة أكثر من غيرها إلى الحروب الأهلية والصراعات الداخلية التي تغذيها ربما قوى خارجية رأسمالية ترى مصلحتها في استمرار تخلف أو فقر مجتمعات بعينها، من دون وعي طبعا بأن مثل هذه القنابل التي ترعاها القوى الأجنبية كثيراً سرعان ما سوف ترتد إليها لتنفجر فيها كما حدث في أحداث 11 سبتمبر وغيرها.

          وبالتالي فالمعنى الذي يقصده أوزوالدو دي يريفيرو يؤكد أن احترام التنوع البشري هو السبيل الوحيد للتعايش ونجاة الشعوب من الهلاك، سواء من جهة القوى العظمى التي يتزايد ثراؤها على حساب إفقار الجنوب، وكذلك ضرورة احترام التنوع البشري داخل المجتمعات الفقيرة وفي كل المجتمعات، تجنبا للصراعات الداخلية والانفجارات التي ترتكز على إقصاء الآخر والأوهام التي يتصورها البعض عن ذاته.

          إن التنوع البشري بكامل تراثه الفكري والفني والثقافي والمعماري متاح اليوم بفضل «جوجل»، بل بفضل المحتوى اللانهائي لشبكة المعلومات، وعلينا أن نتعلم ونعرف ونفهم ونرى جمال التنوع وفرادته وأهميته في منح الحياة جمالها وخصوبتها، وأن نتخلى عن أوهامنا وعمى بصائرنا الذي يوهمنا بأننا مركز الكون أو العالم، لمجرد أننا لا نعرف شيئا خارج حدود عالمنا المحدود والضيق جداً، فنتوهم أن عالمنا هو العالم الوحيد أو الأهم، هذا هو ما خدعنا به أنفسنا عقودا فانحسرنا وتخلفنا وتراجعنا في شتى المجالات، وضاقت آفاق عوالمنا، بينما كانت هناك مجتمعات أخرى ترتقي ذرى العلم والتقدم، حتى بلغت آفاق الفضاء الخارجي الواسعة.

 

إبراهيم فرغلي   

 




الفنان الأمريكي وينسر مكاي





جوجل وضعت شريطاً مصوراً من أبرز قصص مكاي في ذكرى ميلاده





اتسمت أعمال مكاي بالانفتاح على ثقافات العالم إضافة لدقة وجمال الرسوم