إلى أن نلتقي أحمد عنتر
كمبيوتر أبي الفرج
أزعجه أن يرى تلك الفوضى السائدة في مكتبته. مرَّ ٍ وقت طويل قبل أن تمتد يده لترتيبها. وكان يقنع نفسه الشاعرة أنه يرى النظام في الفوضى !! .. مفلسفاً كسله ومتعللاً بضيق الوقت. كان هماً مقلقاً أن يبدأ عملية الترتيب هذه، إلا أنه شرع في ذلك- مضطراً - لتراكم الكتب التي ضاق بها المكان.
في رشاقة طفولية وثبت نظراتها بين الكتب. هالها ذلك الكم من المجلدات المتشابهة، التي تبينت على أغلفتها الصورة نفسها للمؤلف ذي النظارة السوداء.. صاحت الصغيرة التي لم تتجاوز الثامنة: "طه حسين.." وزادت أنها تعرف صاحب المجلدات الأخرى.. إنه العقاد.. تعرفه بقلنسوته (البيريه) التي اعتلت رأسه ... "هل كتب طه حسين والعقاد كل هذه المجلدات الضخمة؟؟!!".. ألقت الصغيرة سؤالها .. وقبل أن أجيبها كانت قد رمتني بدائها.. وانسلَّت!!
لقد قام كل من طه حسين والعقاد بجهد موسوعي كبير للتأسيس والإضافة في مجالات متعددة، وارتادا بأفكارهما مجاهل مساحات إبداعية شاسعة. فكتبا في النقد الأدبي، والشعر والأدب التمثيلي، والتاريخ الإسلامي والسيرة، والفكر الاجتماعي والسياسي والقصة، تأليفاً وتصنيفًا وترجمةً. وكانت سمات الدأب والتفاني والتحلي بروح العلماء وراء نتاج هذا الجيل، وكان المناخ الاجتماعي والسياسي والجو الليبرالي المستنير وعوامل أخرى - لسنا بصدد إحصائها - قد أتاح الفرصة للتأمل والخلق.
لا إبداع بدون تأمل. وها نحن نعيش زمن الاختزال. زمن اللهاث المتواتر الذي لم يتح أية فرصة للتأمل. واغتال الحواس وشل قدراتها على النفاذ إلى جوهر الأشياء. فلا وقت للأذن أن تسمع بوعي وأناة. ولا للعين أن ترى بعمق وصفاء.. تمزَّق المبدع الإنسان بين طموحات فكرية أعدَّ روحه لها .. وبين واقع يومي ينتاش جسمه وينتهب كيانه .. ولم يكن ذنبه أن حلَّق بأجنحته الشمعية في اتجاه شمس لافحة..
استوت الكتب فوق الرفوف.. اصطفت، وبدت لعينيَّ شخوصاً ماثلةً لأصحابها ! ! هذا طه حسين وذاك أبو العلاء، وبينهما المتنبي والجاحظ والعقاد.. وتداخلت شرائح لرؤى وأفكار.. واقتحم الذاكرة ذلك الفيلم القديم للمخرج (فرانسوا تروفو) المأخوذ عن رواية تعكس محاولة النجاة بتراث الإنسانية المكتوب من سطوة المكارثية والقهر، حين تتخيل الرواية عُتاة المكارثية وهم يجمعون الكتب لحرقها تحت درجة (451 فهرنهيت) وهو عنوان الفيلم، مدمرين بذلك خبرات العقل البشري وتجربته الإنسانية. وللحيلولة دون ذلك انطلقت طاقات الإنسان. فحفظ كل فرد كتابًا من عيون الكتب. حفظه عن ظهر قلب ليورثه لمن بعده. وأُطلقت أسماء الكتب على الأشخاص الحفاظ. فهذا الرجل (الأمير) لماكيافيللي، وذاك (العقد الاجتماعي) لروسو، وغيره (أعمدة الحكمة السبعة) للورنس، وآخر (الضفادع) لأريستوفانس .. وهكذا..
لعل في هذه المحاولة صورة من المشافهة التي عرفها العرب منذ الجاهلية. فقد أعلوا من قيمة الحفظ ودور الذاكرة.. ما علينا !! ها هو أبوالفرج الأصفهاني شاخص بمجلدات سفره الضخم (الأغاني) .. تروي الروايات أن الصاحب بن عباد كان في أسفاره يحمل مجموعات من كتبه على ظهر ناقةٍ في ركبه. فلما صنَّف أبو الفرج كتابه هذا اكتفى به الصاحب رفيقاً وزداً ثقافيًا في رحلاته ..
ولعلها أيضًا أول عملية اختزال معرفي. ولعل أبا الفرج نفسه، فيما هو قادم من أيام يناله هذا الاختزال، فيختزل سفره الضخم بأجزائه التي زادت على العشرين في (ديسك) عصري رقيق من (ديسكات) الكمبيوتر.. وربما أغنى ذلك الجيل القادم - إن اهتم بالكتب - عن عناء ترتيب المكتبات. وحنق الزوجات من تراكم الكتب التي زاحمتهن المكان .. والحياة !!