تأملات في ماء مالح

تأملات في ماء مالح
        

هل يمكن أن يمنحنا البحر أرزا وقمحا؟ سؤال يبدو كالمزحة، لكنه جاد وخطير، وإجابته المفاجأة هنا.

          للطريق الصحراوي الذي يصل ما بين القاهرة والإسكندرية فضل كبير عليّ. أجلس في السيارة في هذا الطريق فتنطلق خيالاتي. إذا كنت في الصباح الباكر فقد أشهد الضباب يلف الطريق ويحجب كل شيء. وإذا ما انقشع الضباب تأملت ـ أنا الريفي ـ الصحراء وقد بدأت الخضرة تتسلل إليها. حتى أن أصل قرب الإسكندرية، فأشهد تلك المساحات الشاسعة من المياه المالحة الضحلة تمتلئ بنباتات الغاب (البوص أو الحجنة). مرة توقفت عندها ونزلت أتفرج وأتأمل. كان الكثير منها مثمراً. لكن أية فائدة لنا ترجى من هذي الثمار، هذا نبات من النجيليات يتحمل الحياة في الماء المالح، ويثمر. آه لو كانت حبوبه تؤكل! أو تصلح حتى لغذاء الحيوان! وجدت لنفسي مكاناً جلست فيه، وسرح فكري بعيداً.

عبقرية الجذور

          لقد بدأت الحضارة البشرية، في الهلال الخصيب، باستئناس أهم نباتات العائلة النجيلية: القمح والشعير. إننا نحن البشر ندين حقاً بالكثير لهذه العائلة الكريمة.

          المناطق التي حرمها الله من النجيليات بقي أهلوها بعيداً عن الحضارة. أمن الممكن أن نحيل نبات الغاب هذا ليصبح نباتاً اقتصادياً? به لاشك توليفة من الجينات تجعله يتحمل هذا القدر الهائل من الملوحة. العلماء في معاملهم يحاولون كشف سر هذه الجينات وتحديدها. هي أو نظيرات لها موجودة في كل النباتات الملحية (الهالوفيتات). أمر شاق جداً أن يتكيف النبات كي يحيا في هذه المياه المالحة! جذوره قد تمتنع عن امتصاص الأملاح، أو تمتصها ثم تتخلص منها عن طريق غدد خاصة تفرز الملح على سطح الأوراق، أو قد يخزن النبات الأملاح في السوق أو الأوراق ثم تنضوها! وللوراثة دور كبير في كل هذا.

          والماء.. الماء يغطي ثلثي سطح كوكبنا حتى لتقترح إلين مورجان أن الإنسان قد نشأ أصلا في الماء. لكن معظم الماء مالح، إن تشرب منه ازددت عطشا. (يأتي إلى مخيلتي حيوان ثديي: الحوت! كيف يحيا على الماء المالح? أية تحويرات جينية وفسيولوجية فيه مكنته من هذا? هل من يهتم من المتخصصين العلماء بهذا الأمر?). الإنسان الذي تمكن من الوصول إلى سطح القمر، وانطلق بآلاته يجوب فضاء الكون، أمامه على الأرض مهام أخطر بكثير. بخار الماء يملأ الجو، يتكثف ضبابا على الطريق الصحراوي في الصباح الباكر. أفما ابتكرنا ما يسقطه مطرا على الصحراء يروي زرعا، فلا نحتاج حتى إلى تسوية الأرض? الماء المالح الذي يملأ علينا الأرض، كيف لا نتمكن من تحليته بضغطة زر? العلماء العرب وأجهزة البحث العلمي في بلادنا كيف لا تنتبه إلى أن بحوثنا لابد أن تركز أساسا على استنباط طرق بسيطة لتحلية ماء البحر. لننفق الملايين والملايين في هذه البحوث بخاصة. لنكون أكبر مدرسة عالمية ـ ونستطيع ـ في هذا المجال بالذات. ومربو النبات العرب وعلماء الوراثة منهم، أما يتجهون إلى استنباط سلالات من نباتات المحاصيل تتحمل الملوحة والجفاف? أليست هذه مهمتهم الأولى قبل كل شيء آخر? الماء العذب يشح، التصحر يغتال الأراضي الزراعية، الأفواه تتزايد وتتزايد. ومهمةالعلم الأولى هي مواجهة المستقبل بما سيحمله من مشاكل. فلماذا لا نتخصص في البحوث التي ستفيدنا? أمن الضروري حقا أن نبحث في كل شيء? لماذا لا نوجه كل همنا إلى ما يهمنا، فنبرز فيه?

          تعود إلى ذاكرتي البعيدة قريتي الجميلة بشرق الدلتا، وبها حقول الأرز حيث كنا صغاراً نصطاد السمك صيفاً. كنا هناك كاليابانيين، الأرز قبل الخبز. لا نستطيع أن نأكل السمك بالخبز ـ لابد من أرز! والأرز ـ كالغاب ـ نبات مائي، وهو أيضاً من نفس العائلة النجيلية. لو أننا اكتشفنا الجينات التي تمكِّن الغاب من تحمل الملوحة، إذن لحاولنا نقلها بالهندسة الوراثية إلى الأرز. لكن الجهاز الوراثي لتحمل الملوحة في النبات لايزال معظمه مجهولاً، بل ولقد يختلف كثيرا بين الأنواع. أتراه بعض جينات كتلك المشفرة لإنزيمي BADH و CMO اللازمين لتمثيل الجلايسين بيتين الذي أثبت أنه يحسن تحمل الشعير والذرة للملوحة? لكن، ماذا لو أجرينا تهجينا خضريا بين الأرز والغاب، ثم انتخبنا? التهجين الخضري (الذي أطلق عليه اسم (الهندسة الوراثية للفقراء)، وهو في الحق ليس هندسة وراثية)، هو دمج خلايا منزوعة الجدار من نوعين مختلفين من النبات لتنتج خلايا هجينة تحمل الطاقمين الوراثيين للنوعين كليهما، يمكن تنميتها إلى نباتات كاملة.

مواجهة الملوحة.. والجفاف

          تختمر الفكرة في رأسي، لأناقشها مع زميلي (بكلية الزراعة بالجيزة) الدكتور أسامة الشيحي، أستاذ بيوتكنولوجيا النبات، ليبدأ هو بالفعل في تجريب الفكرة في موسم 89 ـ .1990 ثم نتمكن من تمويل مشروع ضخم للتهجين الخضري بين الغاب وكل من الأرز والقمح، بهدف اقتناص جينات تحمل الملوحة (أيا ما كانت) من الغاب وتضمينها في الطاقم الوراثي للمحصولين. وعن طريق الانتخاب بين البادرات (الناتجة عن استزراع كالوس الخلايا المدمجة) للقدرة على تحمل الري بماء البحر، تم اختيار النباتات التي تعطي حبوباً تشبه حبوب الأرز أو القمح ـ فقد نتج في الجيل الأول للتهجين الخضري للأرز (صنفي جيزة 175 وجيزة 176) بالغاب، 22 صورة من الحبوب تتراوح في الحجم والشكل ما بين حبوب الأرز وحبوب الغاب، و18 صورة في حالةالقمح (صنفي سخا 8 وسخا 69). في الصوبة بدأ الانتخاب بين البادرات لقدرتها على تحمل الملوحة، أو تحمل الملوحة والجفاف.

          وفي عام 1998 كنا قد استأجرنا بالفيوم أربعة فدادين من الأرض المالحة وزرعنا بها بذور سلالتين من الأرز المهجن خضرياً (سلالة لتحمل الملوحة والأخرى لتحمل الملوحة والجفاف)، وتلاها في نفس المساحة سلالتان نظيرتان من القمح أيضاً. أعطى الفدان من سلالة الأرز الأولى محصولاً بلغ 5،2 طن (بتصافي 72%)، وأعطت السلالة الثانية 75،2 طن (بتصافي 66%). كانت غلة سلالة القمح الأولى 5،15 أردب للفدان أما الثانية فكانت 11 أردباً. (لم يكن طعم الحبوب مالحاً على الإطلاق). مساحة التجربة صغيرة لكن النتائج مذهلة. المحصول بالطبع يقل عن محصول الأصناف الطبيعية في أرض الوادي، غير أنه يعتبر بكل المقاييس رائعا. لو زرت الأرض ورأيت، لتعجبت أن ينمو بها نبات، أي نبات! التجربة لاتزال مستمرة حصدنا أرز هذا العام (الثاني) ومازالت نتائجه تحت التحليل، وسنزرع القمح ثانية هذا الموسم. نخطط لاستئجار مساحة أكبر من الأرض المالحة، قبل أن تنشر النتائج المفصلة.

          أكتب هذا المقال القصير على صفحات مجلتنا هذه العربية داعيا زملائي في سائر أقطار وطننا الكبير أن يجربوا مثل هذا التهجين الخضري على النباتات المختلفة بهدف إنتاج سلالات من المحاصيل تقاوم الملوحة.

 

أحمد مستجير