أنور عبدالملك.. وشارل عيساوي في مقاربات متميزة لنهضة الشرق الأقصى

  أنور عبدالملك.. وشارل عيساوي في مقاربات متميزة لنهضة الشرق الأقصى
        

          لم تحظ نهضة اليابان في عهد الإمبراطور المتنور (المايجي) في القرن التاسع عشر، ولا نهضتها الثانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ثم صعودها السريع لتحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي باهتمام الباحثين العرب. كما أن نهضة الصين على قاعدة «سياسة الانفتاح والإصلاح» التي قادها الرئيس الصيني ديسياو بينج منذ العام 1978، لم تلفت انتباه الباحثين العرب إلا حين بدأت الصين تحقق نموًا سنويًا هو الأعلى في العالم.

          لعل أولى الدراسات العالمية التي كتبها باحثون عرب عن نهضة شعوب الشرق الأقصى كانت مقالة للمؤرخ الاقتصادي العربي شارل عيساوى، وأخرى للمفكر المصري أنور عبدالملك. صدرت المقالتان عام 1983، وقدمتا مقاربتين لرؤية عربية متكاملة لنهضة دول آسيوية في الشرق الأقصى. ركزت الأولى على دور العامل الاقتصادي في النهضة، والثانية على دور العامل الثقافي الحضاري.

شارل عيساوي وأسئلة النهضة اليابانية في مقالته «لماذا اليابان؟» 1983.

          نشرت الدراسة أولاً باللغة الإنجليزية، ثم أعيد نشرها بالعربية في كتاب شارل عيساوي: «تأملات في التاريخ العربي»، بيروت 1991.

          بدأ الباحث مقالته بسؤال منهجي: «لماذا اليابان، ولماذا ليس مصر؟». ثم قارن بين نجاح تجربة التحديث في الأولى وفشلها في الثانية. كانت مصر في وضع أفضل مما كانت عليه اليابان في النصف الأول من القرن التاسع عشر. «ولو قدر لمصر أن تحكم في ذلك الوقت على يد حكومة وطنية ومستنيرة لكانت بزغت في القرن العشرين كصورة مصغرة لليابان».

          ظلت مصر طوال ما يقارب من ستة آلاف عام تحت سيطرة حكومة مركزية. وتمتعت بفائض زراعي ضخم، وبممرات مائية داخلية ممتازة. وكانت سباقة إلى تحديث نظام النقل فيها. وعرفت خطوط سكك الحديد قبل اليابان بزمن طويل. واستثمرت كمية ضخمة منها لتطوير الصناعة والتعليم وغيرها من الأنشطة الاقتصادية الأخرى. وفي عام 1913 كان متوسط دخل الفرد المصري من الناتج المحلي الإجمالي أعلى بقليل من اليابان، وكان نصيب الفرد من التجارة الخارجية المصرية يساوي ضعف نصيب الياباني. وقدم الباحث خمس ميزات كبرى تفتقر إليها مصر، وساهمت في تحويل اليابان إلى بلد غني، وهي: موقع مصر في قلب العالم القديم، في حين تقع اليابان في طرف العالم، ما ساهم في الحد من خطر التدخل الخارجي فيها، والتماسك الاجتماعي في اليابان الذي لا مثيل له في العالم، والموارد البشرية الأكثر تقدمًا، والتوجه المبكر نحو النمو الاقتصادي، إضافة إلى قدر أعلى من حب الاستطلاع، وزعامة حكيمة على نحو غير عادي يبدو أنها كانت ذات براعة خارقة للعادة في اتخاذ الإجراءات الاقتصادية السليمة.

          كانت اليابان قد نعمت بفترة طويلة من الاستقرار الداخلي تحاشت فيها تدخل القوى الخارجية، وشكلت مجتمعًا داخليًا شديد التماسك. كانت لديها سلطة أوليغارشية قوية تولت الإصلاحات في عهد الإمبراطور مايجي، فتقبلها الشعب بالطاعة التامة. ركزت الإصلاحات الأولى على التعليم العصري، والصحة، وتنظيم النسل، وتعليم المرأة وتشغيلها. لم تقف طبقة الساموراي أو نبلاء اليابان موقفًا معارضًا من تعليم أبناء الشعب، بل شجعته وشاركت في إنجاحه. وبما أن الدولة المركزية كانت دولة وطنية ومتنورة، فقد لعبت الدور الأساسي في نشر التعليم والخدمات الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة. واهتمت الحكومة بشكل خاص بنقل التكنولوجيا والعلوم العصرية لتوطينها في البلاد، عبر إرسال بعثات متلاحقة إلى الخارج، واستقدام خبراء أجانب لفترات محدودة بهدف تدريب اليابانيين.

          اعتبرت هذه المقالة عند صدورها أفضل وجهة نظر علمية عربية في مجال المقارنة بين النهضة المصرية والنهضة اليابانية. ورفض العيساوي توصيف تجربة التحديث اليابانية بأنها مجرد تقليد لتجارب التحديث الغربية. وشدد على ثلاثة عوامل نهضوية مترابطة بشدة، هي: الاستخدام المقتصد لرأس المال، والتوالد المحلي لأرصدة الاستثمار، والاستغلال الأفضل لمزيج العناصر، والتسلسل الصحيح للعمليات والمراحل.

          فتطورت الصناعة الكبيرة بسرعة وبتشجيع من الدولة المركزية التي أرست ركائز البنى التحتية التي تساعد على التنمية الشمولية. وانتشرت الورش الصغيرة المجهزة بالمحركات الكهربائية على نطاق واسع، وتمت الاستفادة من القوى البشرية المتعلمة والمدربة على التكنولوجيا العصرية.

          أتقن اليابانيون مختلف الأعمال المالية والتجارية. وكان دور الدولة المركزية في التنمية كبيرًا في مكافحة التضخم ومراقبة الفوضى النقدية والانفتاح المدروس والشامل على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، وتشجيع القطاع الخاص على لعب دور أساسي في عملية التنمية المستدامة إلى جانب القطاع العام. وما هو فريد في اليابان العلاقة بين الدولة والنشاط الاقتصادي، في حين أن الدولة في بلدان الشرق الأوسط ومعظم البلدان النامية اندفعت إلى الاستيلاء على القطاع الخاص. فاليابان هي البلد الوحيد خارج أوربا الذي شهد إقطاعًا حقيقيًا، وأن الإقطاع الذي وصفه ماركس بوضوح ساهم في الإعداد الجيد جدًا للرأسمالية.

          أخيرًا، ختم عيساوي استنتاجاته الدقيقة بالقول: «لقد فات العرب قطار الرأسمالية في القرن التاسع عشر، وهو القطار الذي لحق به اليابانيون بنجاح شديد، لكن هناك الكثير من القطارات الأخرى. ويمتلك العرب اليوم فرصًا لم يكن اليابانيون ولا غيرهم ليتصوروها أبدًا. ما نتمناه هو أن يحسنوا استغلال هذه الفرص وأن يجدوا طريقهم إلى التنمية. وهم إذ يفعلون ذلك، فإننا ننصحهم بأن يتأملوا التجربة اليابانية، وأن يتعظوا من بعض دروسها. فقد أفرزت اليابان طبقة حاكمة قامت في ما بعد بما قد يكون أعظم عمليات التحديث في التاريخ، بل أكثر من ذلك، كانت الطبقة الحاكمة على استعداد لتتعلم من الآخرين. وربما يكون الأكثر روعة من ذلك كله الأخلاقيات السائدة في العمل والربح».

أنور عبدالملك والرؤية الحضارية لنهضة شعوب الشرق الأقصى

          صدرت مقالته «ريح الشرق»، في كتاب حمل العنوان نفسه وصدر في القاهرة سنة 1983. وقد تضمن مقالات عدة تناولت قضايا عربية سياسية وثقافية، والاستعمار الصهيوني، والإسلام السياسي، والإسلام والعروبة، وتنمية أم نهضة حضارية؟، ومشروع حضاري لكسر الأزمة، والعام الثالث والشرق، وريح الشرق. فكان من أوائل المثقفين العرب الذين نبهوا إلى أن انبعاث الشرق في المرحلة الراهنة يؤكد الدور المتزايد للحضارات الشرقية الكبرى، وذلك ضمن دائرتين كبيرتين هما:

          أ - الدائرة الآسيوية - الصينية التي تعتبر الصين واليابان والهند ممثليها الرئيسيين.

          ب - الدائرة الإسلامية من حول العالم العربي وإيران.

          قدم المؤلف توصيفًا مكثفًا لنهضة اليابان تضمن النقاط التالية: الديمقراطية في الحكم، والرأسمالية في الاقتصاد، وإنتاج المصانع في الصناعة، ونظام التعليم القومي والإلزامي، وتأسيس قوة حربية وطنية، وتحرير الوعي الشعبي من إطار المجتمعات المحلية. وأكد أن اليابان لم تكن دولة ديمقراطية قبل العام 1945، ولم تنهض الرأسمالية من مستوى القواعد بل عملت حكومة المايجي على إنشائها. أسس التعليم الإلزامي في اليابان في العام 1872، وتميز بالمساواة خلافا للنظام الإنجليزي، حيث توجد مدارس منفصلة لكل من الأغنياء والفقراء. كان تحديث الجانب العسكري ناجحًا جدًا في اليابان. وكانت المساواة السائدة في الجهاز العسكري الياباني تنطوي على مساواة تفوق ما كان معروفًا في بلدان الغرب المتطورة آنذاك. كانت الإصلاحات تراعي كرامة الفرد، وتحسين مستويات المعيشة التي ترافق حركة التصنيع وعملية التحديث.

          ثم حلل العوامل التي ساهمت في إنجاح تلك النهضة، وهي الأحوال الجغرافية، والاستقلال القومي، والاستقرار الاجتماعي المدعوم بالانسجام الإثني وفترة العزلة القومية الطويلة، والتمتع بسلام دام مائتين وخمسين سنة، وانتشار التعليم، والوحدة القومية المطورة بشكل صحيح، والقابلية على التكيف، وضعف أثر الدين، وغياب أي فلسفة، والإلغاء التام للنظام التقليدي ذي الطبقية الاجتماعية. كما أن الشعب الياباني الذي قطع نفسه عن الاتصال مع العالم، وحافظ على استقلاله عن طريق العزلة القومية، قد أوجد ونشر في جميع أرجاء بلاده ثقافة مركبة مرتقية خلال مائتين وخمسين سنة متواصلة من السلام. لكنه أدرك في منتصف القرن التاسع عشر أن العلاقات الدولية القوية كانت قادرة على فتح أبواب اليابان أمام العالم. عندئذ عمل اليابانيون بشجاعة على إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم، وأكد أن إصلاحات المايجي شكلت ثورة ثقافية قام بها اليابانيون بأنفسهم لإنشاء دولة عصرية.

          دعا عبدالملك الباحثين العرب إلى دراسة تجربة اليابان بعيون عربية، على أن يتم النظر إليها من خلال وثائقها الأصلية، والدراسات العلمية الرصينة التي كتبها باحثون يابانيون. فرؤية اليابان من الداخل أمر حيوي، إذا كان الباحث يعمل على تجنب اقتباس المقولات السائدة. وعلى الباحث العربي في دراسته لموضوع التكون التاريخي لخصوصية اليابان أن يصغي إلى الأصوات المنبعثة من داخل اليابان.

          تقدم تجربة اليابان دروسًا مستفادة للعرب أبرزها: أن قيم الثورة اليابانية تكمن في الأسلوب المتكامل وغير المسبوق الذي تمت به. فلم تكتف بفك التبعية الثقافية للصين والتي دامت قرونًا كاملة فحسب، بل راح مصلحو المايجي يأخذون بكل ما هو أفضل حتى عند الأعداء الذين نهضوا لمجابهتهم، وكان هدفهم تحقيق ثورة ثقافية عامة وشاملة. وهناك عامل آخر مهم في التحديث الناجح لليابان هو الحفاظ على استقلالها القومي. وثمة عامل ثالث يكمن في نضج النظام الإقطاعي تحت حكم أسرة توكوغاوا. فمجتمع اليابان الإقطاعي كان ينشئ الظروف الملائمة لقيام بيروقراطية متطورة تمامًا. وقد مهد الأرض أمام تقسيم ناعم وسريع للعمل بتشجيعه على التخصص في كل فروع المهن. كذلك مهد المجتمع المستقر السبيل لتشجيع التعليم وانتشاره. وعند البدء بإصلاحات المايجي كانت اليابان تتمتع بأعلى نسبة تعليم «ألفبائي» في العالم. ومارست القيادة السياسية المركزية القوية واجباتها بفاعلية. وأنجبت الإدارة القوية في عهد أسرة توكغاوا القادة الثوريين من الشباب الطامحين الذين بزغوا من صفوف الطبقات الفقيرة في أوساط الساموراي. وبعد أن رفعوا الإمبراطور إلى منزلة تكاد تخالط الألوهية، واستطاعوا أن يستخدموا نفوذه الإمبراطوري إلى أقصى حد ممكن لكي يفرضوا على الأمة اليابانية إصلاحًا واسعًا وجريئًا.

          استنادًا إلى هذه المقاربة الحضارية لتجربة التحديث اليابانية، رسم أنور عبدالملك مشروعًا متكاملاً لتطوير العلاقات العربية - اليابانية من منظور حضاري لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. وانتهى إلى القول: «من هنا ينشأ الطلب الملح على مشروع حضاري جديد. وهذا بالضبط ما يجب أن تتركز عليه محاولات العرب واليابانيين المشتركة، وما ينبغي أن تسعى إليه حضارتاهما المترافقتان وتركزا عليه».

          شكلت دراسات أنور عبدالملك عن النهضة اليابانية نموذجًا علميًا مميزًا بين الدراسات العربية. فقد نظر إليه بعيون عربية موضوعية، بعيدة تمامًا عن الانبهار والانطباعات الشخصية، وغير منفعلة بالمقولات الغربية التي لم تنصف تلك النهضة. وحللها بالاستناد إلى خبرة معمقة بعد إقامته سنوات عدة للتدريس في مدينة كيوتو اليابانية واطلاعه الواسع على وثائقها ومصادرها الأساسية. وأفرد حيزًا واسعًا لمناقشة أفضل الدراسات العلمية التي كتبها باحثون يابانيون في تقويمها. واعتبرت مقالته «ريح الشرق»، مدخلاً لكتاباته الأخرى عن اليابان وبقية الدول الآسيوية. فنشر مقالة مهمة جدا بعنون: «الجزء المختفي من جبل الثلج: المدنية، والثقافة والتحديث في اليابان والوطن العربي»، صدرت ضمن كتاب «العرب واليابان»، الجزء الثاني، منشورات منتدى الفكر العربي في عمان 1992. وأصدر كتابه المتميز: «الصين بعيون مصرية»، الذي عالج فيه تطور النهضة الصينية المعاصرة بكثير من الدقة والموضوعية. وساهمت دراساته الآسيوية مجتمعة في بلورة رؤية عربية رصينة حول تجارب التحديث الآسيوية، من خلال ملاحظات أمبيريقية ذات بعد اجتماعي وإنساني بالغ الدقة والشمولية. وامتازت مقولاته بالتركيز على البعد الحضاري في تحليل النهضة اليابانية ومدى استفادة العرب منها. ونبه منذ وقت مبكر إلى أن انبعاث شعوب الشرق في المرحلة الراهنة يؤكد الدور المتزايد للحضارات الشرقية أو الآسيوية الكبرى.

          أخيرًا، عاش أنور عبدالملك عمرًا مديدًا، وشهد تفرد الولايات المتحدة بالنظام العالمي تحت ستار مكافحة الإرهاب الدولي. انتقد بشدة المقولة النفعية: «التكنولوجيا اليابانية مقابل النفط العربي»، والتي كان من نتائجها السلبية أن الدول العربية لم تستفد بصورة جيدة أو مقنعة من خبرات اليابان في مجالات التكنولوجيا، والعلوم العصرية، والتعليم، والتدريب، ونشر قيم العمل الجماعي، والثقافة الإنسانية، وغيرها. فتطور التبادل التجاري بين اليابان والصين مع الدول العربية بشكل كبير في السنوات العشرين الماضية، من دون أن تتطور العلاقات الثقافية بين الجانبين إلا بشكل محدود للغاية. ودعا إلى انخراط الدول العربية في جبهة موحدة لمواجهة النزعة التسلطية الأمريكية على النظام العالمي الجديد، بما يعزز دور اليابان والصين والهند وغيرها من الدول الآسيوية في بناء نظام عالمي جديد على قيم ثقافية وأخلاقية مشتركة.

          ختامًا، لفتت دراسات عبدالملك انتباه العرب إلى «ريح الشرق» الآسيوية التي أنعشت مختلف الجوانب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والقومية لدى الشعوب العربية. فالمؤلف مثقف عربي عميق الانتماء إلى الثقافات الغربية والحضارات الإنسانية، وشديد التواضع على خلفية ثقافية اجتماعية أصيلة تملك لغات عدة، وكان على معرفة شمولية ومتخصصة بقضايا المجتمع المصري، والمجتمعات الغربية، بالإضافة إلى دراساته المعمقة عن المجتمعين الياباني والصيني. تمتع بحس إنساني مرهف تجاه كل ما هو وطني وإنساني، وكان منحازًا على الدوام إلى جانب الحركات الشعبية، الثورية منها والليبرالية، ومدافعا صلبًا عن شخصية مصر، وعن التراث العربي الأصيل، مع الدعوة إلى الانفتاح التام على الثقافات الإنسانية، خاصة الآسيوية منها لبناء عولمة أكثر. ونبه مرارًا إلى ضرورة الاستفادة من دراسات علمية رصينة، تؤكد أن القرن الحادي العشرين سيكون آسيويًا بامتياز من حيث طاقاته الإنتاجية، وقيمه الأخلاقية ومقولاته الثقافية، وأبعاده الحضارية.
-------------------------------
* مؤرخ وباحث من لبنان.

 

 

مسعود ضاهر*