كيف يفكِّر الآسيويون؟: د. سليمان إبراهيم العسكري

   كيف يفكِّر الآسيويون؟: د. سليمان إبراهيم العسكري
        

  • تم توجيه النظر إلى الأوربيين على أنهم أحرار بصورة طبيعية، ذلك في مقابل الطبيعة العبودية للشرقيين. وربطت مفاهيم الطغيان في كثير من الحالات بتسويغات الاستعباد أو تفسيراته أو تنظيماته أو بالفتوح والاستعمار أو الهيمنة الإمبراطورية.
  • إن الآسيويين يفكرون، ربما للمرة الأولى في تاريخهم، بأنه حان الدور لكي يأخذوا دورًا يليق بهم، كشعوب لها تاريخها، وحضارات لها تقاليدها، واقتصادات لها قوتها. هكذا يفكر الآسيويون، على الأقل في الشرق الأقصى، ولعل من الحكمة أن نتأمل ذلك التفكير ونستلهمه.
  • الذين يتحكمون في تيار المعلومات يتحكمون بالمضمون الذي يدخل إلى بلايين العقول التي تستخدم المذياع والتلفزيون والإنترنت. هكذا يتحكم الغرب بالمصادر التي تصل إلى كل مكان في العالم.
  • تبيّن عملية حسابية بسيطة السذاجة الغربية، إذ يبلغ سكان الغرب 800 مليون نسمة فيما يصل سكان العالم غير الغربي إلى نحو خمسة بلايين نسمة، ولن يقبل أي مجتمع غربي، في المجال الوطني، وضعًا تشرّع فيه نسبة 16% من السكان لبقية المجتمع التي تبلغ 84%، لكن هذا ما يحاول الغرب فعله في العالم.

          بعض الأسئلة يولدُ ليعيش للأبد، مثلُ الأسئلة السرمدية عن الحياة والخلود، وبعضها يتقلب كلما تقلبت الأفئدة والأبصار.
والسؤال الذي حركني للكتابة هو عنوان كتاب أعيدت طباعته مرارًا، وترجم إلى العربية بعنوان «هل يستطيع الآسيويون أن يفكروا؟».
وقد رأيت أنه سؤال مستنكر، فما من أمة إلا وكانت تتبعُ نمطًا من التفكير، حتى تلك الشعوب البدائية، التي ربطت في عصور ما قبل التاريخ بين ظواهر الأرض ومشيئة السماء، في أساطيرها وآدابها وفنونها وعاداتها وتقاليدها، الشفاهية والمدونة، فما بالكم ونحن نتحدث عن قارة بحجم آسيا، ولدت فيها حضارات كبرى وشهدت مهد الديانات السماوية، ويمثل تعدادها اليوم أكثر من ثلثي سكان العالم؟
إن السؤال الأجدر بالطرح هو: كيف يفكِّر الآسيويون؟

          عرف مترجم الكتاب حمزة بن قبلان المزيني بالمؤلف، هو البروفيسور كيشور محبوباني، الأكاديمي في الجامعة الوطنية بسنغافورة، الذي أمضى نحو 33 عامًا بالسلك الديبلوماسي ليصبح خبيرًا في الشئون الآسيوية والعالمية. وتأتي فصول هذا الكتاب مجتمعة من عدة محاضرات جاب بها محبوباني المؤتمرات الدولية، وعدل ونقح فيها لينشرها في كتابه (?Can Asians Think). والتعريف بالمؤلف مهمٌ لأنه يبعد عنه شبه التحيز للفكرة النمطية الغربية عن الشرق الآسيوي، وعن الشرق بشكل عام، واعتباره رمزًا للتخلف، والبداوة، والجهل.

          إذ نحن أمام نقد ذاتي، وعلينا أن نتعرف على آلياته، وأسباب ما تراءى لمؤلفه الذي يحاضر بين عشية وضحاها في الشرق والغرب وتستضيف قلمه كبريات الدوريات المتخصصة في الشئون الدولية المعاصرة، حتى لحظة كتابة هذه السطور.

          بدا من الأفضل للمؤلف أن يوضح بداية لم تأسست تلك النظرة «الدونية» للشرق الآسيوي. الواقع أن هذا التوجه ليس جديدا، فهو يعود إلى قرون ماضية بعيدة، كما يشهد القول التالي من «معجم تاريخ الأفكار»  Dictionary Of The History Of Ideas  حيث «بدأ مفهوم الطغيان بصفته فهمًا أوربيًا خالصًا للحكومات الآسيوية وممارساته».

          إذ تم توجيه النظر إلى الأوربيين بطبيعتهم على أنهم «أحرار بصورة طبيعية، ذلك في مقابل الطبيعة العبودية للشرقيين. وربطت مفاهيم الطغيان في كثير من الحالات بتسويغات الاستعباد أو تفسيراته أو تنظيماته أو بالفتوح والاستعمار أو الهيمنة الإمبراطورية....».

          ويرى أيضا أنه «يمكن أن يستخدم إسباغ وصف الطغيان على العدو لتجييش المنتمين إلى وحدة سياسية معينة أو سكان منطقة ما، لهذا فقد حط الإغريق من شأن الفرس بوصفهم طغاة بالطريقة نفسها تقريبًا التي كان الكتّاب المسيحيون يعاملون بها الأتراك. ومن المفارقة أن مثل هذه الحجج التي ربما لا يستطيع المنافحون عن الحرية أو مؤرخوهم اكتشافها دائما تصبح المسوّغ الوجيه، كما عند أرسطو، لهيمنة الذين يتمتعون بتقاليد الحرية على الآخرين الذين لم يتمتعوا قط بذلك الظرف السعيد».

          كان يمكن لتلك الفكرة أن تتسق مع الماضي، وعصور الإمبراطوريات الزاحفة بجيوشها، والديكتاتوريات المتسلطة على شعوبها، ولكن أما كان لهذا الموقف أن يتبدل في القرن الحادي العشرين؟ أما كان يجب التخلي عن التسليم بالفوقية الأخلاقية بحثا عن «ملعب محايد» يحقق نقاشا مفهومًا وموضوعيا بين الآسيويين وغيرهم؟

آليات مسبقة

          وضع المؤلف في كتابه آليات على وجهة النظر الغربية أن تتأملها قبل التعامل مع الآسيويين، فالغربيون على حد قوله لا يحتكرون الحكمة، وهو ما يوجب عليهم أن يحاولوا تجريب قدر قليل من التواضع حين يتحدثون.  ولعل القاعدة الأولى هي أن يعاملوا الناس بمثل ما يحبون أن يعاملوا به. فمن مصلحة الغرب أكثر من أن يكون لمصالح الآخرين تطوير خطة جيدة طويلة المدى للتعامل مع تحوّل موازين القوى، تتخذ بين حين وآخر بعض القرارات الجيدة (كاتفاقية الولايات المتحدة مع الصين بشأن دخول الأخيرة في منظمة التجارة العالمية). لكن من ناحية أساسية لم يحاول أي مفكر استراتيجي غربي وضع خطة عالمية للتعامل مع التحول إلى نظام عالمي جديد. وظلت هذه المشكلة خطأ كبيرًا في التفكير الاستراتيجي الغربي.

          إن هناك شعورًا عميقًا في العواصم الغربية الكبرى بالتخوف من المستقبل. فقد حلّ مكان الثقة بأن الغرب سيظل قوة مهيمنة في القرن الحادي والعشرين، مثلما كان مهيمنًا في القرون الأربعة أو الخمسة الماضية، شعور بالتخوف من أن قوى كالأصولية الإسلامية البازغة، وبروز شرقي آسيا، وتهاوي روسيا وأوربا الشرقية، يمكن أن تكوّن خطرًا حقيقيًا للغرب مما أدى إلى تنامي شعور ذهني بالحصار. فمن المتوقع، إذن، في داخل هذه الجدران المضطربة، أن يتردد صدى مقالة صامويل ب. هنتنجتون «صراع الحضارات».

          لقد ناقش هنتنجتون التحدي الذي تمثله الحضارتان الإسلامية والكونفوشيوسية. حيث بدأ الأمريكيون منذ الهجوم على مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر 2001م يتفهمون شعور الخوف المرضي الأوربي من الإسلام، وأن يتمثلوه على أنه قوة ظلامية تحوم حول الحضارة الغربية الصالحة. ومن المفارقة أن يتزايد خوف الغربيين من الإسلام في الوقت الذي يذكّر فيه المسلمون يوميا بضعفهم. ومن ذلك ما يقوله هنتنجتون: «إن للإسلام حدودًا دموية» (مناطق التقائه بالحضارات الأخرى). لكن المسلمين كانوا خاسرين، في الصراعات كلها التي حدثت بين المسلمين والقوى التابعة للغرب، وهم يخسرون بشكل حاد سواء كانوا آذاريين أو فلسطينيين، أو إيرانيين، أو بوسنيين مسلمين. وليس العالم الإسلامي الذي يعاني من التشتت والافتراق في وارد التوحد في إطار قوة واحدة.

خوف مرضي

          وعلى الرغم من هذا القدر الكبير من الخوف المرضي، هناك شعور بأن الغرب يسعى بتصميم عالٍ إلى زيادة مشكلات العالم الإسلامي، فهو يحتج على الانقلاب على الديمقراطية في ميانمار، أو البيرو، أو نيجيريا، لكنه لا يفعل مثل ذلك حين يمس الأمر بلدًا مسلمًا. وهذا التعامل بمعيارين مختلفين مؤلم. فقد عانت البوسنة من دمار ذريع ومزّقت السلبية الكبرى للدول الأوربية القوية الحجاب الصفيق من السلطة الأخلاقية للغرب الذي تلفّع به، ولم يصدق إلا قلة من الناس أن الغرب سيظل سلبيا بالدرجة نفسها لو كانت مدافع المسلمين هي التي تهطل قنابل على السكان المسيحيين في ساراييفو أو سيربرينتشا.

          ويرى الكتاب الأمر نفسه مع السلوك الغربي المحير بالدرجة نفسها تجاه الصين. فقد طور الغرب علاقة حب في السبعينينات مع الصين التي كان يحكمها نظام ارتكب فظائع عظيمة خلال ما سمي بالقفزة العظمى إلى الأمام وخلال الثورة الثقافية. لكن الغرب عاقب الصين، في الفترة التي خلف فيه حكم دنج شياوبينج غير الخطر نظام ماوتسي تونج الفظيع، على ما يعد، في معايير الصين التاريخية، حالات بسيطة من مطاردة المناوئين، مثل حادثة ميدان السماء «تيان ان مين». ولا تعي إلا قلة في الغرب أن دولهم مسئولة عن مفاقمة الاضطرابات بين أكثر من بليوني إنسان يعيشون في كنف الحضارتين الإسلامية والصينية. فقد أسس هنتنجتون، بدلاً من ذلك، وبجمعه صور الحشدين الآسيويين اللذين يخيفان العقل باعتبارهما قوتين غزتا أوربا في الماضي، ليجد الصلة بين الحضارتين الكونفوشيوسية والإسلامية ضد الغرب.

          ولا يوحي بيع أمريكا السلاح إلى دول عربية إسلامية بأن هناك صلة مسيحية إسلامية طبيعية. كما يجب ألا يوحي بيع الصين السلاح لإيران بذلك. فالتصرفان كلهما توجه استغلالي، يقوم على التعاطف الطبيعي أو التحالف الحضاري. إن الفزع الحقيقي هو في الإيحاء بوجود صلة بين الكونفوشيوسية والإسلام، لأن ذلك يؤدي إلى طمس الطبيعة المختلفة بشكل عميق للتحدي الذي تمثله هاتان القوتان.

          ومن هنا سيواجه العالم الإسلامي صعوبات جمة حين يريد أن يتحدث. وسيندلع الاضطراب فيه عند ذلك ليصل إلى الغرب. أما شرقي آسيا، ويشمل ذلك الصين، فسيقترب من تحقيق المساواة مع الغرب، كما أن شرقي وجنوبي آسيا سيشعران بانسجام أكبر مع الغرب.

جناية الغرب على نفسه

          تبيّن عملية حسابية بسيطة السذاجة الغربية، إذ يبلغ سكان الغرب 800 مليون نسمة فيما يصل سكان العالم غير الغربي إلى نحو خمسة بلايين نسمة، ولن يقبل أي مجتمع غربي، في المجال الوطني، وضعًا تشرّع فيه نسبة 16% من السكان لبقية المجتمع التي تبلغ 84%، لكن هذا ما يحاول الغرب فعله في العالم.

          ومن المفزع أن الغرب يدير ظهره للعالم الثالث في الوقت نفسه الذي يمكن فيه للعالم الثالث، أخيرًا، أن يساعد الغرب في معالجة مشكلاته الاقتصادية، فقد زاد إنتاج الدولار في العالم في 1992م أكثر مما زاد في أمريكا الشمالية، ودول الاتحاد الأوربي واليابان مجتمعة. وذهب ثلثا الصادرات الأمريكية المتزايدة إلى العالم النامي. وبدلا من تشجيع هذا التوجه العالمي عن طريق اختتام مؤتمر أوروغواي سعى الغرب إلى الشيء المعاكس. إذ يحاول وضع العراقيل، لا إزالتها. وقد حاول رئيس وزراء فرنسا آنذاك، إدوارد بالادور، أن يسوّغ هذا التوجه بالقول بصراحة في واشنطن إن «السؤال الآن هو كيف يمكن تنظيم أنفسنا وحمايتها من بلدان لها قيم مختلفة تمكّنها من تهديدنا».

          ويستخلص المؤلف كيشور محبوباني أن كثيرًا من المجتمعات الغربية تحاول أن تتحدى قوانين الجاذبية الاقتصادية. فتنظيم الميزانيات في طريقه إلى الاختفاء. وتتكاثر البرامج الاجتماعية عالية الأسعار والمحسوبيات من غير انتباه كبير لتكاليف ذلك كله. ويقود الادخار الغربي المنخفض ونسب الاستثمار إلى انخفاض التنافس مقارنة بشرق آسيا. وأخلاقيات العمل تتآكل في الوقت الذي يخدع فيه السياسيون العمال ليعتقدوا أنه يمكن لهم أن يحافظوا على المرتبات العالية وإن صاروا غير منافسين عالميا. وهناك نقص في القيادة. وأي سياسي يتفوه بالحقائق المرة يتعرّض للهزيمة الانتخابية مباشرة. ويعترف الأمريكون بشكل حر أن كثيرًا من مشكلاتهم الاقتصادية تنبع من الشبكة المعقدة للديمقراطية الأمريكية.

          ويقول إنه نتيجة لهيمنة الغرب على العالم طوال قرنين أو يزيد فقد غطى على العالم بطبقات عدة من التأثير، وهي التي نتجت عنها تلك الهيمنة بطريق أو آخر. ومما يلفت النظر أن أكثر العقول الغربية لا تستطيع أن ترى طبقات التأثير الغربي لأنها قضت معظم حياتها فوق مستوى تلك الطبقات. أما الذين يعيشون تحت تلك الطبقات فيعرفون كم كانت شاملة وعميقة.

الأطروحات المضادة

          يستلهم محبوباني من تجربته الذاتية مقولاته، فهو من الذين سافروا من تحت الطبقات ليصعدوا فوقها، فأتيح له أن يرى وجهي الصورة. وهذا التحول الذي صنعه في حياته هو الذي دفعه ليجرؤ على التفوه بمزاعمه الشجاعة.

          يتذكر محبوباني قصة الحياة تحت الطبقات. حين سأل ذات مرة زميله مورجان، حين دخل المدرسة قبل أكثر من نصف قرن، وكانت سنغافورة مستعمرة بريطانية حينذاك، «أين يريد أن يكون حين يكبر»، فأجابه زميله: «في لندن، بالطبع». فأعاد سؤاله: «لماذا؟»، فأجاب مورجان: «لأن شوارعها مرصوفة بالذهب». لقد كان ذلك مبلغ عظمة لندن، وقوتها كما كانت تصورها العقول الصغيرة لهؤلاء التلاميذ.

          إن الناظر إلى مجالي المعلومات وتقنية المعلومات، مثلا، وهما بعدان رئيسان في عالمنا اليوم، لأن الذين يتحكمون في تيار المعلومات يتحكمون بالمضمون الذي يدخل إلى بلايين العقول التي تستخدم المذياع والتلفزيون والإنترنت. يتحكم الغرب بالمصادر التي تصل إلى كل مكان في العالم سواء أكانت سي. إن. إن، أو بي. بي. سي، أو وول ستريت جورال، أو فاينانشال تايمز، أو مجلة التايم، أو مجلة إيكونومست، وتحدد العقول الغربية كذلك الأخبار المهمة التي تستحق النشر عالميا، وتلك الأخبار غير المهمة. وينشأ عن هذا فارق جوهري، فلو توفيت أميرة آسيوية أو إفريقية فلا يكاد يحتمل أن تُذكر في الأخبار، أما حين توفيت الأميرة ديانا فإن وفاتها أصبحت حدثا عالميا لأن الذين يتحكمون في تيار المعلومات العالمية قرروا أن هذا الحدث عالمي!

          كما يهيمن الغرب على كثير من الأمور بالمثل؛ فهو يهيمن على مستوى الجامعات، وفي البحث العلمي، وفي النمو، وفي جوائز نوبل للعلوم، وفي إنتاج التقنية الحديثة. وتكاد تنتج الأعمال المهمة كلها في أي ميدان من ميادين العلوم، وربما في العلوم الاجتماعية كذلك في الغرب. ومن المهم بشكل مماثل، في مناقشات الفلسفة والقيم الإنسانية، أن أكبر نصيب من الأبحاث الغزيرة والكتب فيها تنتج في الغرب.

          الحكمة الشائعة في الغرب الآن تقول إن تلك الأفكار الأساسية لن تتغير، من هنا تنشر صحيفة فاينانشال تايمز (مايو 2000م) مقالة كتبها مايكل بروز قال فيها: «إني أرى أن القرن الحادي والعشرين سيكون أوربيًا»، ويستخدم كاتب مشهور هو روبرت كابلان صورة أكثر وضوحًا ليصف استمرار الهيمنة الغربية. فقد قارن العالم في القرن الحادي والعشرين بـأنه «سيارة أجرة طويلة فخمة تعبر شوارع مدنية نيويورك الملأى بالحفر، حيث يعيش الشحاذون المشردون». وتوجد في داخل هذه السيارة «المناطق المكيّفة لفترة ما بعد الحقبة الصناعية في أمريكا الشمالية، وأوربا والدول الآسيوية الناشئة المطلة على المحيط الهادي». وما هذان إلا نموذجان يوضحان الفكرة السائدة في الغرب، والنمطية التي يتم تكريسها يومًا بعد يوم، ويحلمون أن تكون قاعدة ليس للقرن الحالي وحسب، وإنما للأبد.

تجربة اليابان وما بعدها

          بعد الحرب العالمية الثانية، وللحيلولة دون حدوث انقطاع في العلاقات الأمريكية - اليابانية أخذت القوى اليابانية المسيطرة بشكل واعٍ في نسج شبكة كثيفة من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين البلدين. ويمكن للعلاقات الاقتصادية الأمريكية مع اليابان أن تصبح، نتيجة لتغذية الشعور بالتنافس الاقتصادي، مثلاً، جيدة وطبيعية شيئًا ما، مثل علاقة الولايات المتحدة مع سويسرا، مثلاً. وربما لن تعود الولايات المتحدة تشعر عندئذ بأنه يلزمها الدفاع عن اليابان أو أن تخاف على وجود قواتها في شرقي آسيا لحماية الخطوط البحرية اليابانية. ويمكن، بدلاً من ذلك، أن تصبح العلاقات الوثيقة ضحية لعودة نغمة الانكفاء الأمريكي إلى الداخل، إذ يخشى اليابانيون من أن استمرار المشكلات الاقتصادية الأمريكية - التي زاد منها عدم قدرة الحكومة الأمريكية على التعامل معها - ربما يجعل الأمريكيين غير مستعدين أو غير قادرين على دفع أكلاف وجود القوات العسكرية الأمريكية المستمر في الخارج. وهو ما سيجعل اليابان تشعر بأنها مهددة من قبل جيرانها المسلحين بالقوة النووية، إذا ما حرمت من المظلة النووية الأمريكية، لأنها البلد الوحيد الذي جرّب الهجوم النووي.

          والسؤال المطروح في اليابان هو: ماذا يجب على القوات اليابانية الدفاعية أن تفعله إن استخدمت الصين قانونها الجديد الخاص بجزر سينكاكو المختلف عليها ووضعت قواتها هناك؟ هل سيكون من الممكن طرد القوات الصينية بسهولة تماثل السهولة التي طردت بها القوات التايوانية الرمزية قبل سنوات؟

          تتفوق اليابان اليوم على الصين وكوريا وروسيا تفوقا واضحا من حيث قوتها الاقتصادية العالية، لكن كل واحدة من هذه الدول تثير بعض التخوفات الأمنية الفريدة لها. ويمكن لأي تحالف معاد بين أي اثنتين منها أن يمثل كابوسا استراتيجيا لليابان المعزولة. ويجب على اليابان، مع الحس الجديد بعدم الطمأنينة على القيمة المستقبلية للعلاقة الأمريكية - اليابانية الدفاعية، أن تعيد النظر في علاقاتها مع هؤلاء الجيران الثلاثة.

          كما تبدو العلاقة الروسية - اليابانية، من بين العلاقات مع الدول الثلاث، أكثر خطرًا، فمازالت القضية التي لم تحل الخاصة بجزر الكوريل تسمم العلاقات، لكن التاريخ المضطرب للعلاقات بين اليابان وروسيا ويشمل ذلك سوء المعاملة السوفييتية لأسرى الحرب اليابانيين ودخول الاتحاد السوفييتي المتأخر للحرب العالمية الثانية ضد اليابان، أدى إلى زيادة تدهور عدم الثقة اليابانية بالروس.

          بل يجب أن تسأل اليابان نفسها حتى أن حل الخلاف حول جزر الكوريل، إن كان من المفيد للمصالح اليابانية طويلة المدى مساعدة روسيا لتصبح قوية مرة أخرى. وينظر اليابانيون إلى كوريا على أنها خنجر مصوب نحو قلب اليابان. ولم يتردد اليابانيون في الماضي عن التدخل في كوريا أو غزوها، مخلفين وراءهم قدرا كبيرًا من عدم ثقة الكوريين بهم.

          ومن اللافت أن اليابانيين، حتى بعد مضي عقود طويلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يبدأوا في العمل على الحد من الثقة تلك. لم تكن اليابان خلال الحرب الباردة تخشى كوريا. ذلك أن الجيشين الكوريين الكبيرين كان كل منهما مشغولا بتهديد الآخر، لا اليابان، أما لو اتحدت الكوريتان فسوف ترث الدولة الكورية القادمة، مثلها مثل ألمانيا الموحدة، إمكانات عسكرية هائلة، وستكون تلك القوة على مسافة قريبة من اليابان.

          الخطوط العامة للحل الممكن للمشكلة الكورية أصبحت واضحة. ويتمثل ذلك في أن كوريا الجنوبية ستخرج على أنها الدولة الوارثة للكوريتين، كما فعلت ألمانيا الغربية ضمن ألمانيا المتحدة. ولا تظهر القوتان اللتان كانتا تضمنان استقلال كوريا الشمالية الآن إلا اهتمامًا ضئيلاً باستمرار تقسيم كوريا بل إن روسيا، تظهر الآن اهتمامًا كبيرًا بكوريا الموحدة، تحت كوريا الجنوبية، لأن ذلك يمكن أن يساعدها على أن تلعب «ورقة كوريا» ضد اليابان.

          ومن المنطقي القول إنه حين يتحول مركز جاذبية الاقتصاد العالمي إلى منطقة المحيط الهادي الآسيوية في القرن الحادي والعشرين، فسيكون التحول السياسي الجغرافي المصاحب له مهمًا بالدرجة نفسها. وستكون القوى الثلاث الأكبر في المنطقة (وربما في العالم كذلك) هي الولايات المتحدة والصين واليابان. وستحدد الكيفية التي ستتفاعل بها هذه القوى مستقبل المنطقة، وستؤثر بشكل عميق على سائر العالم. وسيصبح المحيط الهادي لأول مرة مركزا لتاريخ العالم ( كما كان المحيط الأطلسي أو البحر الأبيض المتوسط كذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين)، لذلك، ستحدد الكيفية التي ستتفاعل بها هذه القوى الثلاث مسار هذه المنطقة.

          وقد عززت دول شرق آسيا تعاونها في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وبعد أن اقترحت ماليزيا إنشاء منظمة المؤتمر الاقتصادي لشرق آسيا Eaec زاد الاهتمام بمنظمة آبيك وكان من الجيد أنه عقد اجتماع تاريخي في كوالالمبور في ديسمبر 1997م بين دول منظمة آسيان والصين واليابان وكوريا. وفي نهاية الأمر فإذا سارت الأمور على ما يرام فسيصبح مجموع الناتج الإجمالي لدول شرق آسيا أكبر من الناتج الإجمالي لأمريكا الشمالية وأوربا مجتمعتين. والتعاون الآسيوي أولوية عند قادة الدول جميعًا في القارة الصفراء، ولعل الاستجابة الإيجابية لقمة التعاون الآسيوي التي دعت إليها دولة الكويت قبل شهور هي أكبر دليل على وجود نمط مشترك من التفكير الآسيوي في تعاظم القوى الاقتصادية بالقارة، وضرورة الاستفادة منها.

          إن الآسيويين يفكرون، ربما للمرة الأولى في تاريخهم، بأنه حان الدور لكي يأخذوا دورًا يليق بهم، كشعوب لها تاريخها، وحضارات لها تقاليدها، واقتصادات لها قوتها. هكذا يفكر الآسيويون، على الأقل في الشرق الأقصى، ولعل من الحكمة أن نتأمل ذلك التفكير ونستلهمه.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري