في أزمة الفيلم المسيء: سيكولوجية العداء المسيحي وثقافة الغضب الإسلامي!

في أزمة الفيلم المسيء: سيكولوجية العداء المسيحي وثقافة الغضب الإسلامي!
        

          من يتأمل المشهد الثقافي الممتد بطول سنوات العقد الماضي يكشف عن نمط من الأزمة الدورية، أخذ يهيمن على تفاعلات الطرفين الإسلامي - العربي من ناحية، والمسيحي - الغربي من ناحية أخرى، استنادا إلى وقائع تمت بالصلة إما إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وإما القرآن الكريم، وإما لكليهما معا.

          فمثلا، وفي خريف 2005، قامت صحيفة دنماركية ثم صحف أوربية أخرى بنشر صور كاريكاتورية تجسد أو تسيء لنبينا الكريم على نحو أثار عراكا ثقافيا هائلا استمر شهورا عدة. ثم تكررت الأزمة مع محاضرة البابا بيندكتوس السادس عشر أمام طلاب جامعة ريجتزبورج في خريف 2006م،  قبل أن تعاود أزمة الرسوم الدنماركية تفجرها مرتين في خريف 2007م، وربيع 2008م، ثم جاءت الأزمة المتعلقة بقرار البرلمان السويسري حظر بناء المساجد، وما تلاها قبل نحو العام وفي ذكرى 11 سبتمبر من دعوة القس المتعصب تيري جونز إلى إحراق المصحف الشريف في موقع قريب من موقع الحدث الذي أدى لتهديم برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. وأخيرا الأزمة الراهنة، حيث قامت مجموعة من شذاذ الآفاق، فاقدي الحس الإنساني من أقباط المهجر بإنتاج فيلم «براءة المسلمين» المسيء للرسول الكريم والإسلام، بتأييد من القس المتعصب جونز نفسه، وفي ظل مناخ يسمح بهذا السلوك المشين، تطغى عليه وتفوح منه رائحة الصهيونية المسيحية، ودولة إسرائيل.

          يكشف هذا الإصرار المسيحي - الغربي على إهانة الرسول الكريم عن بعد ثقافي - نفسي مركب، فمن ناحية ثمة غيرة عميقة من نجاحه (صلى الله عليه وسلم) في تبليغ الإسلام وتفجير طاقته الحضارية، التي سادت العالم لأربعة قرون متصلة تم فيها حصار الغرب المسيحي وحبسه داخل جغرافيته في ما لا يمكن أن يسقط من ذاكرته. وثمة من ناحية أخرى قياس خاطئ لنبوة محمد، التي جاءت إنسانية خالصة، إلى نبوة المسيح مزدوجة الطبيعة: إنسانية - إلهية، وفق قانون الإيمان (النيقاوي) الذي أسس منذ العام 325م للعقيدة الكاثوليكية. ومن ثم اعتقد مسيحيو الغرب أن كل تباين بينهما ليس إلا ثغرة أو نقصا في نبوة محمد يبرر ادعاءهم بأنها زائفة، بمعنى أن نبوة محمد إما أن تأتي على منوال نبوة المسيح، وإما  تكون كاذبة!

          وفي اعتقادنا أن جوهر التباين بين النبوتين ليس إلا نوعا من الارتقاء في مسار الدين التوحيدي، ومن ثم فإن كل ما يعيبه المسيحيون على الرسول من تعدد الزوجات وإنجاب الأبناء، أو تأسيس دولة مجتمع المدينة، وقيادة جيشها، ويبعده في تصورهم عن جوهر نبوة المسيح (الحق) التي اتسمت بالمسالمة والوداعة ورفض الانشغال بالدنيا، ليس إلا ارتقاءً دينيا مثل ذروة تلاقي العقل مع الإيمان في التاريخ، ومكَّن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من تأسيس الدين والدولة معا، مكرسا الشريعة والحضارة في آن، وهو التلاقي الذي طالما بحثت عنه فلسفة الدين الغربية عبر القرنين الماضيين من دون أن تجده في المسيحية التقليدية، فقامت بإدانتها على منوال ما قام به كبار الفلاسفة (المؤمنون) لا الملحدين مثل هيجل، الذي اعتبر في كتاباته المبكرة أن الروحانية المسيحية المنسحبة من التاريخ ليست إلا نوعا من  العبودية، كاشفا عن تقديره للمعتقدات اليونانية لأنها على الرغم من وثنيتها، فإنها كانت تدعو للحرية، وتكرس للحضور الإنساني حتى في مواجهة الله، ومن ثم أعلن هيجل الشاب انحيازه لأرسطو على حساب المسيح. فضلا عن أولئك الفلاسفة الذين ارتادوا طريق الإلحاد لما افتقدوه في المسيحية من مكوني: العقلانية والإيجابية التاريخية، على منوال فولتير وفيورباخ وماركس وغيرهم، ممن رفضوا الانصياع لعقيدة تحثهم على انتظار الملكوت السماوي بدلا من السعي إلى تغيير الواقع الدنيوي السيئ إلى الأفضل، لأنه مسعى لا سبيل أمامه، وفق المسيحية التقليدية، سوى الفشل والخيبة.

عيوب أم ميزات؟

          ما يعيبه المسيحيون إذن على الإسلام هو بالضبط ميزاته الأساسية التي جعلت منه صالحا ليكون الشريعة الخاتمة للدين التوحيدي، هذا اعتقادي واعتقاد كل مسلم، وإن خالف اعتقاد المسيحيين. وهنا لا مشكلة جوهرية، فالأديان لا تنتمي إلى عالم العقل المحض بل تعلوه، والإيمان لا يكون في الأغلب استدلالا من مقدمات إلى نتائج، ولا استقراء لحقائق من وقائع، بل هو إلهام يأتي من داخل ومن بعيد، من عالم الروح «الجواني»، ومن عمق الإدراك الباطني، إذ لا سبيل إلى قمعه أو التحكم به، فليؤمن كل إنسان بما شاء طالما وجد أن إيمانه قادرا على إلهامه، وحفزه نحو أخلاقية إنسانية صحيحة، بينما تبدأ المشكلة جوهريا مع محاكمة العقائد، أو ازدرائها.

          في هذا السياق، يمكن فهم جوهر العلاقة «حرية الاعتقاد» و«حرية التعبير»، كما يجب العمل على فض الالتباس بينهما، فليس من حق أي طرف أن يقحم حريته في التعبير داخل المجال الاعتقادي للطرف الآخر، على منوال ما يقوم به العقل الغربي حينما يقوم بتوسيع تصوره لمفهوم حرية التعبير ويتعسف في استخدامه على حساب «حرية الاعتقاد» حتى يسحق معها كل اعتبار للمقدس، مقدسه هو المسيحي، ثم يحاول فرض تصوراته على الآخرين.

العنصرية هنا

          الذي لا شك فيه أن تلك المحاولة أو النزعة الهجومية إنما تتجذر في وعي المركزية الغربية، والذي لايزال يتجسد في تيار عنصري يشكل ما بين 10 و20 في المائة من المجتمعات الغربية، لايزال يؤمن بأن قيم التنوير الغربية، التي انبثقت من - وفي الوقت نفسه - صاغت تجربته التاريخية، ومسيرة نهوضه وتقدمه، إنما هي قيم عالمية إنسانية تقبل التعميم على كل الثقافات الإنسانية، وأن لا سبيل سواها لتحقيق التقدم. هذا التيار يندفع إلى محاكمة الثقافة العربية الإسلامية  بمعايير خارجة عنها، حيث تبيح الثقافة الغربية النقد الجذري للكتاب المقدس، والتجسيد الكامل للمسيح، بل إنها تقع دوما في غواية نقده، وأحيانا في فخ الإساءة إليه، وليس التراث الممتد للنقد الرفيع عبر القرون الثلاثة الماضية إلا تطبيقا لهذا النقد الجذري على الأناجيل أو العهد الجديد من الكتاب المقدس. وفي هذا السياق لا يرغب هذا التيار في تفهُّم طبيعة الوعي الإسلامي، الذي لا يعتقد في مسئوليته أمام تلك القيم، ولا يرى أي ضرورة لإخضاع حرية الاعتقاد لحرية التعبير، أو لوضع شخص الرسول الكريم، موضع النقد الجذري، كما أنه لا يمارس نقدا جذريا للقرآن الكريم، بتأثير درجة إحكامه التي تنعكس في وجود سردية واحدة له وليس سرديات أربع، وأيضا نمط روايته المباشرة عن الله عز وجل، فيما تروي الأناجيل على لسان أصحابها من الحواريين، وكذلك بفعل ملابسات تدوينه وحفظه المغايرة، وهو فهم يجب على الثقافة الغربية أن تعيه وتحترمه بالضرورة، فلا تفرض على المقدس الإسلامي طريقتها في التعامل مع المقدس المسيحي، لأن في ذلك اجتراء جارحًا على روح المسلمين الذين يحترمون مقدسهم بما فيه المكون المسيحي، فالمسلم الشرقي يرفض التعرض بالنقد للمسيح كمحمد، لكونه من أنبياء الإسلام الواجب الإيمان بهم، حيث تنعكس تسمية (الإسلام) على مسميين متفاوتين وإن كانا متداخلين: أولهما ضيق، يعني شريعة الإسلام الخاصة بنا نحن المسلمين، وثانيهما واسع، يعني دين الإسلام العام أو الحنيف الذي يضم جميع الموحدين من نسل إبراهيم عليه السلام.

          بل إن الأمر اللافت، الذي يجب التأكيد عليه هنا والتوقف عنده هو كذب ادعاء الثقافة الغربية بأن لا مقدس لديها، لأنها في الحقيقة تصوغ مقدساتها ومحرماتها، وإن اختارت لنفسها ما يغاير مقدسات ومحرمات الثقافة العربية - الإسلامية، فإذا لم تكن تكترث بالمقدس الديني، ولا تجعل من المسيح والإنجيل مجالا لمحرماتها، فإن لديها مقدسات سياسية على منوال واقعة «الهولوكوست» مثلا، رغم كونها واقعة تاريخية ووضعية، انبنت على اضطهاد تاريخي معروف وممتد لليهود في سياق الحضارة المسيحية - الأوربية، ومن ثم يجب ألا تخضع للتقديس وإلا بقيت في أسر الأوهام المعرفية الأربعة التي حذر منها بيكون، هو أحد بناة العقل الأوربي الحديث، كما تبقى خارج إطار الشك الديكارتي، الذي هو بذرة الحداثة الأوربية التي تجافي المطلق، وتكره اليقين.

          هذا الفهم لطبيعة حضور التيار العنصري في الثقافة الغربية والذي لا يمثل سوى رافد نحيل لا يزيد على الفصيل المتطرف في الثقافة العربية الإسلامية مثلا، يجب أن يكون نقطة انطلاقنا للتعامل مع العراك الجاري الآن، ومع كل أزمة قادمة. فمهما كانت غطرسة هذا التيار الذي يزداد نحالة، يجب ألا نندفع إلى صراع عدمي مع الغرب كله فليس ذلك في مصلحتنا، فضلاً عن أن يكون في مقدورنا. لقد كان الفيلم المسيء أمرا يثير الغضب بلا شك، ولكن السؤال: كيف نغضب؟ فمن دون إجابة معقولة وصارمة عن سؤال كهذا نجد أنفسنا في مواجهة، ليس فقط واقعة فيلم عارضة، بل أزمة عقل دائمة.

المطلوب عراك ثقافي

          كان الرد المعقول على مثل هذا الفيلم يتطلب خوض عراك ثقافي جدلي، يهدف إلى تصحيح العلاقة بين حريتي التعبير والاعتقاد، من خلال توجيه رسائل فكرية وسياسية عبر منابرنا الثقافية والإعلامية وقنواتنا الدبلوماسية إلى العقل الغربي عموما، والأمريكي خصوصا، تؤكد حجم الإساءة التي شعر بها المسلمون جميعا إزاء العدوان على عقيدتهم. ثم المطالبة، كضرورة قصوى، ليس فقط باعتذار يعد من نافلة القول، بل بالتوجه فورا نحو صياغة قانون يحمي الإسلام من خطر الازدراء، من خلال حوار خلاق تضطلع به منظمة المؤتمر الإسلامي والأزهر الشريف مع اتحاد الكنائس الأمريكية والفاتيكان، وكذلك مع ممثلي الأديان والمذاهب الأخرى في العالم، إذ نطمح إلى وضع هذا القانون في سياق أرحب، يستند إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تصون مواثيقه حرية الاعتقاد وتجعلها صنوا لحرية التعبير، فليست العقيدة الإسلامية بمطلقها الإلهي المتعالي، ولا حتى الديانات غير السماوية، بأقل قداسة من واقعة الهولوكوست بوضعها الإنساني التاريخي، والتي يحيطونها بتقديس يحرم التشكيك فيها.

          أما ردود الأفعال المنفلتة، فقد أساءت إلى الرسول وإلى الإسلام بأكثر مما فعل الفيلم، إذ تبدت طاقة غضبنا كرصاصة طائشة أصابتنا أنفسنا.. لقد أراد صانعو العمل المسيء هذا النوع من رد الفعل، وقد تحقق لهم ما أرادوا: عنف وتخريب أمام السفارة الأمريكية بالقاهرة وقتل للسفير الأمريكي ومساعديه بليبيا، واقتحام سفارات أمريكا مع وقوع قتلى في تونس والسودان والعراق.. إساءة للغير وإفناء للذات، ترهيب رعايا دولة لم ترتكب خطأً حقيقيا، وتقتيل أنفسنا بأنفسنا، فيما المجرم الحقيقي يقبع في مواقعه آمنا.

هزيمة ثقافية

          كانت أزمتنا مجرد فيلم «براءة المسلمين» قام به الأعداء، لم تعرضه دار عرض واحدة، ولا قيمة فنية حقيقية له، فإذا بنا أمام عشرة أفلام قاتلة يقوم بها الأصدقاء، تعرض حية على القاصي والداني في أنحاء الأرض الأربع، وإذا المباراة تنتهي بهزيمتنا حضاريا وثقافيا وإنسانيا (0 / 11) ، منها هدف واحد بقدم المنافس والعشرة الباقية بنيران صديقة!

          تلك الهزيمة الثقافية ما كان لها أن تقع إلا لأنها دارت بين عقليتين متباينتين كيفيا، أولاها حققت شروط العقلانية، والثانية لم تحقق هذا الشرط بعد. الأولى تجسد مفهوم (العقل) الحائز لملكتي (الفكر)، و (الوعي) ، بينما الثانية تجسد مفهوم (الذهن) القاصر على مجموعة الأفعال الشرطية (البيولوجية) التي تلبي ضرورات الحياة العملية لدى الإنسان البدائي، وكذلك الحيوان الراقي.

          يتركب هذا الذهن على (المخ) كمادة خام تمثل الشرط المبدئي لوجود العقل الإنساني، ولكنه ليس الشرط الكافي، فالعقل  ينطوي على الذهن ولكن يتجاوزه، يمر به من دون أن يتوقف عنده أو يقتصر عليه. ولذا كان العقل قادرا على استبطان المعاني والخيال والرموز المجردة، فيما يقف الذهن على  أعتاب ردود الأفعال البسيطة والانعكاسية، لا يرهق نفسه في استقصاء النتائج من مقدماتها، ولا يربط العلة بمعلولاتها.

          وهكذا يتبدى أن ما قام به جمهور المعتدين على السفارات الأمريكية، فضلا عن اغتيال السفير الأمريكي في طرابلس ليست إلا ردود فعل غريزية لعقل بدائي واجه حدثا أثار غضبه، فإذا به ينقض على ما اعتقده (خصما) من دون فحص، محاولا الفتك به من دون وعي، فإذا بمجموع قتلانا في تونس والسودان وصنعاء، وربما في القاهرة يفوق كثيرا عدد قتلاهم (السفير الأمريكى ومساعدوه الثلاثة). وقد يقول قائل من أولئك إن السفير ليس مجرد شخص عادي وإن مقتله، ومساعديه يمثل ضربة لأمريكا، غير أن هذا القول يحمل معاني سلبية عدة:

          - منها أننا ننظر لأنفسنا نظرة دونية، نُحقِّر ذاتنا، ونعترف بسمو الآخر علينا، ما يحرمنا من مبرر الغضب، فالفيلم المسيء لا يقول أو يهدف لأكثر من ذلك.

          - ومنها أننا ثقافة أو دين نحتفي بالقتل، ولا نكترث للأبرياء، إذن فالرسالة التي يقول بها الفيلم صحيحة، قدمنا بأنفسنا دليل صدقها، فلماذا إذن كان غضبنا؟

          - ومنها أننا، برفع علم «القاعدة» على سفارة القاهرة، وحمل راياته السوداء في أكثر من بلد ومشهد، إنما نتبنى فكره وننهج نهجه القائم على العنف العبثي والإرهاب الدموي، ولم يكن صانعو الفيلم ليحلموا بأكثر من تكريس هذا الفهم، بغية إدخال العالم العربي - ومصر في القلب منه - إلى مواجهة دموية مع الولايات المتحدة، واستدعاء المسيحية الصهيونية واليمين المحافظ إلى قيادة تلك المواجهة، مجسدًا في رجل مثل رومني على حساب رجل كأوباما أدى دورا مهما في ترسيخ السلام العالمي، على الرغم من تعثره في حل القضية الفلسطينية.. وهكذا نجد أنفسنا أمام مجموعة سلوكيات عبثية لا ترقى إلى مستوى العقل، بل تقف عند حد الذهن، بما هو ردود أفعال انعكاسية لا تتوافق سوى مع الانفعالات الغريزية.. وبالأحرى أمام حق مهزوم بفعل سذاجة الذهن الذي يدافع عنه، وشر منتصر بفعل دهاء العقل الذي يمارسه.
-----------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

 

صلاح سالم*