الشعر فن لا موسيقى له

  الشعر فن لا موسيقى له
        

          اعتاد كثير منا شعراء وباحثين ونقادًا على استخدم اصطلاح الموسيقى، في سياق الكلام على الشعر، وكأنه من المسلمات التي لا تحتاج إلى تعليل. والحق أنه اصطلاح محفوف بكثير من المزالق والمحاذير لأسباب شتى، لعل من أظهرها أن الصواتم ليست خلوا من دلالة الخطاب الذي يحويها. والأمر على خلاف ذلك في الموسيقى التي تنزع إلى وحدة الشكل والمحتوى. على أن ما يسوغ  هذا التأتي- أي استخدام المصطلح في غير سياقه- اللغة نفسها، فهي تحوي كلمات ذات طاقة استعارية، ولها هامش كبير من الحياد. الأمر الذي يتيح لها أن تنتقل من مجال إلى آخر، فيتعدد إجراؤها ويتنوع.

          نقدّر أن «سيولة» الكلمة، أو «ماء الشعر» أو «مائيته» بعبارة القدماء، ترجع إلى ذاتها، أي إلى وفرة معناها وغناه، مثلما ترجع إلى سياق استخدامها أو إجرائها. وليس هناك خطاب، بما في ذلك الخطاب العلمي الدقيق، لا يناط به توضيب تشبيه أو استعارة أو كناية. فهي تشهد لوحدة «جوهرية» ما أو تراسل بين مختلف الفنون التي كثيرًا ما تصنّف في سجلات حسيّة متمايزة. وهذا ما يسوغ احتكامنا في قراءة الشعر إلى جهاز تحليل «موسيقي» بالأساس، يضاف إلى ذلك أن في الإنشاد موسيقى وأن الإنشاد نوع من أنواع الغناء. غير أن الاصطلاحات الموسيقية التي يمكن أن تنضوي إلى سجل فن مثل الشعر، تحتاج إلى كثير من حسن التأتي، مردّه إلى تكافؤها المتعدد. وقد يفيدنا هذا التكافؤ في إدراك الفروق بين مختلف استعمالاتها، أكثر مما يفيدنا في معرفة وجوه الشبه بينها. وعليه فإن الحكم لكفايتها يقتضي مراجعتها وإعادة تأصيلها.

بين العروض والموسيقى

          من ذلك كلمة «نغم» بسائر مشتقاتها مثل «تنغيم» و«تناغم» وكلمة «لحن» فاستعمالها العروضي يختلف عن استعمالها الموسيقي. والتناغم صفة وقيمة يرجع إلى القوانين الصوتمية في تجميع الكلمات وتسويتها، وفي ضبطها وتوازنها. ومصطلح «قصيد» أو نشيد يدل على نوع موسيقي، أو هو ينضوي إلى مدار الموسيقى، كما تدل على ذلك قرائن وشواهد كثيرة، والقصد من إنشائه إنما هو إنشاده، فالقصيد يعد لينشد أو كما يقول سيبويه: «الشعر وضع للغناء والترنم». ولعل هذا ما يفسر أيضا انصراف العرب القدامى عن كتابته، شأنهم في ذلك شأن شعوب أخرى كثيرة. فلم يكن «الترقيم الموسيقي» معروفا ولا متداولا. وإنما هو حديث النشأة، يرجع إلى العصر الوسيط، ونحن نكاد نجهل كل شيء عن الموسيقى التي لم تكتب ولم تدوّن.

          ومهما يكن فلا غرابة أن يتزاوج فنان اثنان أو أكثر، كأن يزاوج القصيد اللحن أو الإنشاد أو الغناء. وربما لا صعوبة في ذلك، فالقصيدة في الثقافات الشفوية نشيد بالأساس، إذ ترافقه الموسيقى أو شكل موسيقيّ ما، مرده إلى صوت الشاعر وإنشاده. وإنما مكمن الصعوبة في اكتناه وحدة الأثر الفني أو هذا القصيد الذي يمكن أن نسميه قصيدا مغنى:«Lied» فهو محصلة قصيد ولحن أو قصيد وإنشاد، وإذ يلابس هذا ذاك، يلابس الكلام اللحن أو الإنشاد، أو هما يقولان الشيء ذاته أو المعنى ذاته، دون منافرة أو تناقض. والأمر إنما يرجع إلى الشاعر المنشد، مثلما يرجع إلى المتلقي السامع وإلى «أفق التوقع» لديه، ولا وسيلة لفك التلابس بينهما إلا بالكتابة.

          فالكتابة تنقل النص من أفق التلقي الشفوي إلى أفق التلقي الكتابي، بيد أنها إذ تثبت هذا الشعر الشفوي وتحفظه من الضياع والتلاشي، تطمس شيئا ما فيه، هو موسيقاه أو إيقاعه المسموع أو ما نسميه «شعرية إنشاده». والكتابة إنما تكتب الأصوات وتنقلها من مسموع إلى مرئي (صورة خطية)، ولكن بمنأى عن أجراسها. فهي على قدر ما تخط شيئًا وتمحو شيئا.

          ولعل الجذر «ن.س.خ» أو رسم بشتى معانيه المتجاذبة المتدافعة أن يؤدي عنها جذرها. وإذا كان ذلك كذلك، كان لزاما علينا أن نبحث في وقع الكتابة لا على اللغة فحسب وإنما على الشعر الذي نحن فيه، أيضا.

          على أنه ليس بالإمكان إدغام سلّم الأصوات في اللغة، في سلّم الأصوات الموسيقية. والكتابة العروضية نفسها لا تزال كتابة صوتية. وإذا كانت الموسيقية أو «الترقيم الموسيقي» تحدّ بنسبة أو بأخرى المجال الصوتي، وتمكّن من أداء القطعة الموسيقية أو تسجيلها وتحيينها، فإن الكتابة المقطعية أو الهجائية تقتصر على إعادة إنتاج اللغة المحكية. فيما لا تنهض الكتابة العروضية المتعارفة بأي وظيفة من هذه الوظائف. فهي مجرد كتابة «وزنية» تحد التفعيلة أو  تفصل التفعيلات بعضها عن بعض، وتيسّر للمتعلم المبتدئ معرفة البحر الذي عليه مدار البيت. فإذا كان لها من وظيفة فهي لا تعدو الوظيفة التعليمية. إن الترقيم الموسيقي موضوع للمؤدي أو العازف الذي ينبغي أن يتقن قراءته لا شك، حتى يتمكن من أدائه أو عزفه، فإلحاقه بكيانه الموسيقي. فالعازف أشبه ما يكون بقارئ القصيدة أي منشدها. غير أن قراءة الترقيم الموسيقيّ لا تعني ضرورة المقدرة على عزف القطعة الموسيقية أو أدائها. وكذلك الأمر في الشعر، فبإمكان القارئ أن يقرأ القصيدة، كلما كانت مكتوبة، أو أن يستظهرها، دون أن يعني ذلك المقدرة على إنشادها (كثير من شعراء العربية المعاصرين يخدعون المستمعين بإنشادهم لا غير. وشعرهم ظاهرة صوتية أكثر منها ظاهرة شعرية).

الإنشاد ترقيم موسيقي

          فإذا سوّغنا الرأي بأن القصيدة، لا توجد قبل إنشادها أو أدائها، فربما أدركنا سببا من أسباب عزوف الشاعر القديم عن كتابتها أو تدوينها، فالإنشاد، كما قلنا، أشبه بترقيم موسيقيّ. ولم تكن ثمة وسيلة لكتابة هذا الترقيم، شأنه في ذلك شأن أوزان الشعر، فقد كانت محفوظة في ذاكرة الشاعر «الإرادية» يفزع إلى مذخورها، ويدير على أي منها قصيدته، دونما حاجة إلى الاستعانة بها مكتوبة. فهي بمنزلة مثال ذهني «Patron mental» في ذاكرة الشاعر، أو «صيغة» تعهّدها التقليد الشفوي، وجعلها تجري مجرى «الكفاية» اللغوية.. وربما يرجع عزوف الشاعر القديم عن كتابة قصيدته، إلى اعتقاده في أن الشعر «سر» أو أن فيه سرا خفيّ الشأن، كما تدل على ذلك معتقدات العرب الأسطورية في «شياطين الشعر» و«توابع الجن»، فمصدره قوى غيبية أو غير منظورة، الأمر الذي يجعل من الشعر «صوتًا داخليًا لا يمتّ إليه أي صوت بشريّ بصلة»، فلعل الشاعر القديم تحاشى كتابته حتى يحتفظ له بكامل «قداسته» أي بسره.

ذاكرة إيقاعية

          ولعل الوقوف على مكونات «إيقاع الوزن»، أن يعزز من وجاهة هذا الطرح. وأهم هذه المكونات في تقديرنا القافية. فالقافية من حيث هي لازمة إيقاعية أو فاصلة إيقاعية بين البيت والبيت الذي يليه، لا تعدو في الظاهر أكثر من أداة في تثبيت الصوت أو إيقافه، إذ لا يخفى أن الصوت - أي صوت - ينتج عبر علاقة بالزمن مخصوصة، فهو يكون حيث لا يكون، أي هو لا يوجد إلا عندما يكون في سبيله إلى الزوال. والصوت شأنه شأن الكلمة ينتمي أبدًا إلى الماضي إن القافية «وقفة» «Pause» تستغرق الصمت الذي يفصل بين البيت والبيت مثلما تستغرق أذن المتقبل، وتجعل الصوت يستأنف عبر رويّها المتعاود، لحظة ميلاده. وكأن القافية هي خاتمة البيت وفاتحته في آن، أو هي جرس لا ينبه المستمع فحسب وإنما يساعده أيضا على التذكر، أو هي تصطنع ذاكرة للذاكرة نفسها، أي ذاكرة الصوت الذي لا يكاد يشرد من سمع المتقبل مع بداية كل بيت حتى يطرق أذنه ثانية، وهكذا دواليك. فلا غرابة إذن أن تكون القافية حاملة لقوة إيقاعية كبرى، حتى إن العرب سمّوا القصيدة قافية (تسمية الجزء بالكل). بل إن الجذر اللغوي الذي اشتقت منه (ق.ف.و) ليؤكد ما نحن فيه من أمرها فهو دلالة على نوع من «شعرية الأثر». إن القافية أشبه ما تكون بـ «ذاكرة إيقاعية» وأداة تواصل بين المنشئ والمتقبل، شأنها شأن البيت الشعري نفسه حيث إيقاع الزمان من إيقاع المكان. فهي التي تثبت حركة الإيقاع مثلما تثبت لحظة سكونه، وكأنها تؤدي بذلك ما تؤديه الكتابة عادة، وتقوم مقام حجر الزاوية في نظام القصيدة الإيقاعي (الوزني). ومما يؤكد ذلك أن جذرها اللغوي يحيل على المرئي أكثر مما يحيل على المسموع، أو على حاسة المكان أكثر منه على حاسة الزمان. وكأن الشاعر القديم كان يعتاض بالقافية عن الكتابة.

          ونقدّر أن في هذا مظهراً من مظاهر الكتابية، في القصيدة العربية القديمة التي يصعب الإقرار بأن أداءها كان أداء شفويا خالصا. فلعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إنها أداء شفوي يحتفظ بنمطية كتابية وينقلنا من ذاكرة إلى صورة مكتوبة، حتى وهي تصاغ في هيئة تجعلها قابلة للحفظ والاستظهار والاستعادة، أو لنقل إنها قصيدة قابلة للكتابة وما القافية فيها سوى فعل كتابيّ معلق أو مقدر.

لغة الضرائر

          إنّ الحاجة إلى التذكّر هي التي جعلت القصيدة العربيّة القديمة تنبني في هيئة مخصوصة، بل لعلّ هذه الحاجة هي التي تفسر نشأة الوزن الشعري عند العرب، كما يذهب إلى ذلك حازم القرطاجني، مستأنسًا بـ «المقدمة الطللية الغزلية» القائمة أساسًا على حافز الذكرى أو التذكر، بل هي تفسر أيضا «لغة الضرائر» من حذف وإضمار والتفات وتقديم وتأخير، فهي أنماط وصيغ تذكيرية تجعل الجمل الشعرية تتأدى في تراتيب وتراكيب مخصوصة محكومة بإيقاع من شأنه أن يشحذ فعل التذكر ويحد الطريقة التي تنتظم بها الخبرة الشعرية. ونقدّر أن وعي هذه القاعدة التذكرية التي تجري عليها القصيدة هو السبيل إلى اكتناه سجلها الشفوي وسجلها الكتابي معا، وليس الإيهام بموسيقاها. فعن هذه القاعدة ترتبت أساليب من الأداء الشفوي وسمت القصيدة «الأنموذج»، وأرست تقاليد كتابية في القصيدة اللاحقة عليها (قصيدة المحدثين).

ومن أظهرها:

          - البنية العطفية التي تنهض بها القافية فهي بمنزلة «واو العطف» التي تعطف البيت على البيت الذي يليه وتحول دون تداخلهما. ولذلك عّد «التضمين» أو «المعاظلة» عيبا في القصيدة القديمة وفي نظرية العمود الشعري. ولا مسوّغ لذلك في تقديرنا سوى كونه مظهرًا من مظاهر البنية الكتابية التي تعنى بالتركيب أكثر من عنايتها بالعطف. أو ربما لأن التضمين/ المعاظلة من شأنه أن يفضي إلى تشتّت الذاكرة وانسياحها، فلا يخفى أن القافية - كلما استقل البيت بذاته معنى ومغنى - هي التي تثبت القاعدة التذكرية وتساعد على حد المعنى وضبطه. وهذه القاعدة هي التي تعهدت - في ما يتهيأ لنا - قواعد في تلقي الشعر قد تكون أكثر دقة وثباتا من تلك التي تعهدتها الكتابة في ما بعد. فالقافية أداة تجميع تجعل البيت يلوي على البيت دون أن يداخله، أو هي تجعل الكلام يأخذ بعضه برقاب بعض، حسب العبارة المأثورة، في حين أن المعاظلة أو التضمين أسلوب تحليل وتركيب يقوّض بنية البيت ويخل بالوظيفة التي استتبّت للقافية، فيشتت انتباه المتلقّي ويجعله لا يحتفظ في ذاكرته إلا بالقليل مما استمع إليه. وعليه فقد يمكن القول إن مستودع القافية إنما هي الذاكرة، وأما مستودع ظاهرة  أسلوبية كالتضمين أو المعاظلة إنما هو العقل، أو إن مستودع الأولى الأذن ومستودع الثانية العين.

          على أن القافية تنهض بوظيفة أقرب ما تكون إلى الوظيفة الكتابية. فهي بحكم تكريرها تتيح للسامع أن يظل في الصميم من السياق الذي يجري فيه الكلام، وربما تتيح له أيضا استعادة هذا السياق، مادامت - بحكم ثباتها - تحول دون عطب المنطوق، وتبني خطا من «الاطراد» داخل بنية «الاستطراد» التي تقوم عليها القصيدة.

          - بنية الاستطراد: تبدو القصيدة صورة من فن التوريق العربي: الأرابيسك، أو هي مثل الأحجية الصينية، وكأنها صناديق داخل صناديق، أو هي ترد في هيئة من العناقيد. وقد يذهب في الظن أن هذا الضرب من الاستطراد من شأنه أن يشتت انتباه المتلقي وهو ينقله من موضوع إلى آخر، الأمر الذي يقتضي نوعا من الاطراد أو التواصل يجعل المتلقي منشدّا إلى «الفضاء  السماعي» الذي تجري فيه القصيدة. على أن القافية تنهض بجانب من هذا الاطراد أو التواصل اللفظي الذي يحكم بنية الشفاهية، لما يتوافر فيه من دينامية الصوت أو حيويته حيث الرويّ أشبه بصدى يتردد في جنبات القصيدة، وبقية الجوانب إنما تقوم بها عناصر أخرى يمكن أن نتناولها، من خلال المقارنة بين المسموع والمرئي.
-----------------------------------
* أكاديمي من تونس.

 

 

 

منصف الوهايبي*