هل تحدد الجغرافيا شخصيتنا؟

هل تحدد الجغرافيا شخصيتنا؟

إذا صح أن الريحاني، مثل نيتشه، دعا إلى التفوق، فإنه، مثله أيضاً، أرادنا أقوياء في مواجهة ذواتنا قبل أن نكون أقوياء في مواجهة الآخرين، أرادنا أن نتغلب على ضعفنا، ونكسر القيود التي تكبل أيدينا، ونتحرر من الأغلال التي تضغط على عقولنا وتوجه سلوكنا.

نزعة التفوق هذه، هل استعارها الريحاني من نيتشه أم أملتها نظرته إلى ذاته؟ وإلى أي حد تشكلت هذه الذات من جغرافيا المكان الذي عاش فيه؟

تكشف مؤلفات الريحاني أن صاحبها كان يهوى النظر دائما إلى الأشياء من فوق، من رابية أو شرفة أو سطح مبنى، وهذا الهوى هو جزء من منحى عام عند الكاتب يظهر في سعيه الدائم إلى تظهير ذاته وإحاطتها بشعور القوة والأهمية والتفوق، وهو ينم عن دوافع نفسية لا واعية تتحكم بشخصيته.

ظهر هذا الإحساس باكراً عند الريحاني، فعام 1905 تلقى رسالة من صديق له في مصر يرجوه فيها، إن هو عاد إلى القاهرة، ألا يخاطر بحياته بتسلق الهرم. ذلك لأن الريحاني بدأ يتسلق الهرم بعدما أخذت الآلام العصبية تضرب يده اليمنى، وكأنه كان يستمد من هذا التحدي شفاء لمرضه.

لكن النظر من فوق كان عنده بحثاً عن لذة، لذة الاستعلاء على الأشياء، فسواء في لبنان أو في مصر أو في نيويورك لم يتوقف الريحاني عن البحث عن المكان العالي المشرف. ها هو في لبنان، في أعالي بلاد جبيل، لا يكتفي بالنظر من تلك الأعالي، بل يدعو القارئ إلى مرافقته إلى سطح الكنيسة: «إن أجمل ما نشاهده من سطح مار شربل لا من كنيسته، فلم نصعد إلى السطح فنشهد مشهداً رائعاً من آفاق لبنان». وها هو في نيويورك يدخل مصعد إحدى البنايات الشاهقة فينقله المصعد إلى الطبقة الخامسة والعشرين، ومنها يرتقي درجاً معدنياً لولبياً يصل به إلى قبة البناية ليشرف منها على مدينة نيويورك وينظر إليها نظرة الطائر.

ليس النظر من عال سمة ثانوية في شخصية الريحاني ، بل صفة عميقة ثابتة عبرت عن نفسها في مؤلفاته على كثرتها. فهو في مقالته الشهيرة «من على جسر بروكلين» يعدد ثلاثة مناظر متعت عينيه وتركت أثراً عظيماً في نفسه، وهذه المناظر هي لبنان من ذروة جبل صنين، وباريس من برج إيفل، ونيويورك في الليل من منتصف جسر بروكلين.

ليست العلاقة بين المكان ونفسية الإنسان ما يجهله الريحاني أو يتجاهله، فهو في «قلب لبنان» يصل إلى قرية «جران» الجبلية حيث بيت صديقه خير الله خير الله، فيكشف له موقع البيت سر الصديق، فيقول: «ما عرفت السر في خيال خير الله الأميري - فقد كان مثل جبران يهوى الإمارة وجاهها ويتمثل نفسه من أبنائها - ما عرفت السر في ذلك الوهم الخلاب، إلا يوم زرت بيته في جران ووقفت على السطح أمام تلك العلبة الصغيرة المشرفة على الأودية والربى التي رأها خير الله الصبي بعين الصبوة فكانت كبيرة فخمة عالية. فالولد الذي تصور نفسه أميراً في قصره هذا حمل تلك الصورة في قلبه طوال حياته، فصارت حقيقة رائعة.. ولا ريب في أن هذا الوهم، أو هذا الخيال الذي غدا حقيقة في نظر خير الله وحسه، ولد تلك العنجهية التي كانت تساعده في صموده».

هذا التحليل الخليق بعالم النفس ينطبق على شخصية الريحاني أكثر من سواه، فبيته المشرف على وادي الفريكة يشبه بيت خير الله، ولا مقارنة بين خير الله وجبران خليل جبران تجوز أيضاً بين جبران والريحاني، فكلاهما تميزا بهذه النزعة الأميرية التي كانت سبب التنافس بينهما على زعامة أدباء المهجر.
-------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

 

لطيف زيتوني*