لبنان: وجوه لاستثمار المعرفة بالتاريخ والجهل به

   لبنان: وجوه لاستثمار المعرفة بالتاريخ والجهل به
        

          تختلف مقادير معرفتنا بتاريخ لبنان باختلاف العصور وباختلاف الوجوه التي تراد الإحاطة بتاريخها من واقع كل عصر وباختلاف المناطق والجماعات اللبنانية التي يراد التأريخ لها أيضًا.

          فنحن نملك من العصور القديمة، مثلاً، آثارًا أخرجتها الحفريات في لبنان وفي أقطار أخرى، بعضها يدلّ على أساليب العمران وبعضها عليه نقوش وكتابات تشير إلى وقائع وأشخاص وتقاليد ومعارف. ونملك أيضًا إشارات إلى لبنان وبلاد كنعان في بعض أسفار التوراة، وإشارات أخرى في ألواح المصريين وتواريخ اليونان والرومان، إلخ. وهذا كله يتيح معرفة إجمالية جدًا بتلك العصور تتخلّلها روايات لا تخلو من التفصيل لهذه الواقعة أو تلك. ولكننا حين ننتبه إلى أن ما نسمّيه العصور القديمة يغطّي نحو ثلاثة آلاف سنة من التاريخ، ندرك أن ما نعرفه عنها ليس إلا معالم متفرّقة ركّب منها المؤرخون صورة تبدو على شيء من التماسك ولكنها، في الحقيقة، صورة فقيرة الملامح للغاية.

          وأما حين نقترب من زماننا الحاضر، فنحاول - مثلاً - أن ندرس أواسط القرن التاسع عشر، أي المرحلة الواقعة بين الحملة المصرية على بلاد الشام سنة 1831 وقيام متصرّفية جبل لبنان سنة 1861، فإننا نجد أنفسنا وسط بحر من الوثائق والروايات التاريخية والأحكام والتعليلات المعاصرة للوقائع أو المتأخّرة عنها. وبعض هذه المادة محلّي حملته روايات أو وثائق لبنانية بقيت في محفوظات المؤسسات أو الأسر، وبعضها مصري وبعضها عثماني وبعضها الأخير أوربي تكشّفت عنه محفوظات الدول المتدخّلة في نزاعات تلك المرحلة أو تركه شهود أجانب، إلخ.

تاريخ كثير وآثار قليلة

          ولكن غزارة المادة التاريخية لا تتبع باطراد مطلق قرب الوقائع المؤرخ لها من زماننا. فما بقي من الآثار العربية على الساحل اللبناني، مثلاً، ينحصر بمقام الإمام الأوزاعي المعروف بظاهر بيروت. وما وصلنا من أخبار حواضر الساحل في المدة الفاصلة بين نشوء الخلافة  العباسية وحروب الفرنجة (وهي ثلاثة قرون ونصف القرن) قليل جدًا أيضًا.

          وذلك لأن هذا الساحل كان مستغرقًا في الكل الشامي، في تلك المدة، بعيدًا عن المسارح الكبرى للسياسة والعمران. لذا قد يصحّ القول إن معرفتنا بأحوال لبنان تخصيصًا، في تلك المدة، أضأل مادة من معرفتنا ببعض أحوال الحواضر الفينيقية، وذلك على الرغم من أن قرونًا كثيرة تفصل بين العهد العباسي وأوضح العهود الفينيقية صورة في مخيلتنا.

          الراهن، على سبيل المثال أيضًا، أن معرفتنا بالوجه السياسي من تاريخ المقاطعات اللبنانية في عهد المماليك تنحصر في عناصر قليلة. فنحن لا نعرف إلا القليل من أسماء الحكّام المحليين في ذلك العهد ومن أخبار العلاقات بينهم ونزاعاتهم. أما الوجه الاجتماعي من ذلك التاريخ، فيسعنا الركون، في شأنه، إلى معرفتنا بأسس النظام الذي اعتمده المماليك لبلاد الشام. وقد وصلتنا من تلك المرحلة أسماء بطاركة وعلماء من الموارنة والشيعة مثلاً، وأخبار عن بعض أعمالهم وتآليفهم وما جرى لهم من حوادث. وأما ما وصلنا من أخبار الزعامة السياسية في الطائفتين فهو أندر وأكثر اضطرابًا.

مصادر تاريخية للذاكرة اللبنانية

          تتباين أيضًا تواريخ المناطق والطوائف من حيث الوضوح وغزارة العناصر. فقد حفظ الكثير من تاريخ الطائفتين الدرزية والمارونية في الجبل بسبب وجود مؤسسة طائفية مستقلّة لكل من الجماعتين حظيت باستمرار متطاول، وحفظت أسماء الرؤساء المتعاقبين عليها وبعض الحوادث المتعلقة بهم وبها. والكنيسة، في وثائقها وتواريخها، غالبة في الجهة المارونية حتى القرون الأخيرة، بما هي مؤسسة مستمرّة للطائفة. وأما في الجهة الدرزية فالغالب هي الأسر الموغلة في القدم التي وصلت إلينا، عبر أخبار رؤسائها، أخبار الطائفة كلها. وقد تيسّر مثل ذلك للشيعة إلى درجة أقل لوجودهم في مناطق اختلاط مفتوحة على الديار الشامية والفلسطينية. ولم يتيسّر مثله لاتحاد تاريخهم بتاريخ الدول الإسلامية وعدم افتراق جماعتهم اللبنانية عن الأكثرية الحاكمة في الدول المذكورة. وهذا نقص أمكن أن يعوّضه بعض الشيء الرجوع في العهد الأخير إلى وثائق مؤسسات من قبيل المحاكم الشرعية، وهذا فضلاً عمّا حظيت به مدن الساحل التي يمثّل السنة معظم أهليها من ذكر لأخبارها في هذا أو ذاك من التواريخ العامة.

          وقد انعكست هذه الفوارق، بطبيعة الحال، على تواريخ المناطق. فحيث وُجدت جماعة أظهرت من زمن قريب أو بعيد حرصًا على حفظ تاريخ خاص بها، توافرت لنا معارف أغزر بماضي المنطقة (أو المناطق) التي اتّصل مصيرها بمصير تلك الجماعة. لذا كثرت الأعمال التاريخية المتعلقة بجبل لبنان، بالقياس إلى غيره من مناطق لبنان المعاصر. وليس مؤدى ذلك أن المناطق الأخرى لا تاريخ لها، بل إن تاريخها لا يفترق عن تاريخ الآفاق الواسعة التي كانت مفتوحة عليها في معظم العهود.

الحاجة إلى النقد

          على أن المشكلات التي واجهت كتابة تاريخ لبنان لا تنحصر في المصادر وحدها. فهذا التاريخ محتاج، بمختلف وجوهه، إلى نقد مستمر. وهذا شيء يمكن قوله عن كل تاريخ. ولكن في وسعنا أن نسمّي العامل الذي كان ولايزال أدعى من سواه للخروج بتواريخ لبنان عن جادّة الموضوعية. وهو عامل التنافس بين الجماعات اللبنانية في توكيد الذات الطائفية وفرض وجهة النظر المناسبة لهذا التوكيد على ماضي البلاد. فالطوائف تتنافس على الأرض مثلاً، فتدّعي هذه أو تلك منها لنفسها انتشارًا تاريخيًا معينًا في مناطق مختلفة من البلاد، وتسند هذه الدعوى إلى أدلّة كثيرًا ما تكون ضعيفة. والطوائف تتنافس أيضًا على قيم تاريخية أخرى. هكذا شهدت المقالات والكتب نزاعًا على الأمير فخر الدين المعني الثاني، بما هو زعيم بارز، فحاولت طوائف عدة أن تثبت انتماءه - أو انتقاله - إليها معتمدة على غموض المعطيات المتعلقة بهذه المسألة. وأهم من ذلك، النزاع المتصل بـ«عُمر» الكيان اللبناني أو الهوية اللبنانية. وهو يدور حول تغليب انفصال لبنان، بشخصيته التاريخية، عن محيطه الشامي أو العربي الإسلامي أو تغليب اتصاله بهذا المحيط. والمرمى المضمر للقائلين بالانفصال هو إثبات الانفراد بتأسيس الكيان لجماعة أو جماعات وفتح مدى تاريخي يعزّز حق هذا الكيان بالاستقلال المستمر. وكان المرمى المضمر للقائلين بالاتصال، حتى عهد قريب، تسويغ الدعوة إلى الوحدة السورية أو العربية. ثم صار هذا المرمى، في الأغلب، إثبات التساوي بين حقوق الجماعات في الكيان القائم. ولا يستغرب أن يكون الانطلاق في صوغ الرواية التاريخية من مصالح جزئية راهنة قد أدى إلى شطط المؤرخين في هذا الاتجاه وفي ذاك. وهو قد أدى، بخاصة، إلى الخلط بين المستويات التاريخية المختلفة. فبذلت جهود، في إحدى الجهتين، لتقديم تاريخ الأرض (وهو مستمر، بالضرورة، من أقدم العصور) على أنه تاريخ لمجتمع مستمر... ثم لتقديم تاريخ المجتمع على أنه تاريخ لكيان سياسي وحتى لـ«دولة» مستمرّين أيضًا. وبذلت جهود، في الجهة الأخرى، للتهوين من شأن كل خصوصية تميّزت بها هذه الجماعة أو تلك في عهد من العهود. ونُسب النزوع إلى الوحدة القومية إلى الجماعات المتجاورة في ظل سلطة ذات طابع إمبراطوري، لم يكن يتطلّب الاندماج القومي ولا يفرضه، على أنها مجتمع واحد مندمج.

          هذه النوازع والأهواء والمصالح فتحت أبوابًا واسعة لامتزاج الخرافات وأشباه الخرافات بأعمال كثيرة في تاريخ لبنان وُضعت في خلال الأعوام المائة الأخيرة. ولكن أعمال المؤرّخين لا تقع كلها بنسبة واحدة تحت طائلة هذا النقد. وقد برز، في مراحل مختلفة، مؤرّخون علماء، لبنانيون وغير لبنانيين، نظروا في ماضي لبنان بعين أكثر التزامًا بالحقائق الموضوعية. وهذا جهد لا يستطيع أحد أن يبلغ به حدّ النهاية أو الكمال. من طبيعته أن يكون كثير المصادر والزوايا والموضوعات، وأن يستثير الجدل والنقد المتبادل. وهو يزداد كثافة في أيّامنا هذه ويتحوّل إلى اتجاه ذي أهمية نسبية في قراءة ماضي بلادنا.
--------------------------------
* مؤرخ من لبنان.

----------------------------------------------

أيها الثائرون فى جبل النار
                              سلامًا يا زينة الأبطال
لكم الله يا حماة فلسطين
                              زحمتم مصارع الآجال
تحملون الأرواح فوق أكف
                              وتبيعونها... ولكن غوالي
إنما الحق من بنادقكم يسطع
                              والعدل من وراء العوالي

أبوسلمى

 

 

 

أحمد بيضون*