مناقشة هادئة للتعصّب.. الإمام محمد عبده يرد على المفكر الفرنسي هانوتو

مناقشة هادئة للتعصّب.. الإمام محمد عبده يرد على المفكر الفرنسي هانوتو
        

          في أول حديث جرى في الصحافة العربية، كان قد نشره صاحب جريدة الأهرام ورئيس تحريره الأستاذ بشارة تقلا في 16 / 7 / 1900 مع المفكر الفرنسي والسياسي ذائع الصيت هانوتو وزير الخارجية الفرنسية وقتئذ، أي منذ مائة وعشرين عامًا، والذي سبق حديث الأستاذ عباس محمود العقاد مع الزعيم سعد زغلول وزير المعارف العمومية الذي نشره بجريدة الدستور في 22 / 5 / 1908، أي بعد حديث تقلا بحوالي ثماني سنوات، ما يؤكد حقيقة أسبقية حديث تقلا مع هانوتو على حديث العقاد مع سعد زغلول، الذي اعتبرته بعض المصادر الإعلامية العلمية أول حديث صحفي تم نشره في الصحافة العربية.

          كانت مناسبة نشر حديث تقلا مع هانوتو بسبب نشر الأخير مقالتين ذكر فيهما بعض الآراء الخاطئة عن تاريخ الإسلام وأحوال أتباعه، ولهذا السبب سافر تقلا لمقابلة هانوتو في باريس وإجراء هذا الحديث. وقد تصدى الشيخ الإمام محمد عبده بالرد على الأخطاء التي وردت في المقالتين والحديث معًا.

          ولعل هذا الأمر يقتضي: أولًا عرض الأفكار التي تضمنها حديث تقلا مع هانوتو على اعتبار أنه يمثل جانبًا حيويًا في هذا الموضوع، ثم الأفكار التي تضمنتها مقالتا هانوتو عن الإسلام والمسلمين. وثانيًا رد الشيخ الإمام محمد عبده على كل ما جاء فى المقالتين والحديث معًا في ما يشبه المحاورة أو المناظرة الفكرية بين الطرفين.

أول الغيث السام

          ولنبدأ بالأفكار التي تضمنها حديث تقلا مع المفكر والوزير الفرنسي هانوتو والتي استهلها بعبارة: «إن الأهرام تقول مرارًا وتكرارًا إن تقدم الشرق لن يكون إلا بتقدم الأمة الإسلامية»، مشيرًا إلى ما جاء في مقالتي هانوتو متأثرًا بالكاتب اليوناني المتعصب كيمون، حيث يزعم هانوتو بأنه لم يستشهد بالكاتب كيمون إلا ليفند أقواله تلك التي تأثر بها الكثيرون من الكتّاب الأوربيين، فيرددون قوله بأن تقدم المسلمين مستحيل، وأنه- أي هانوتو- ما ذكر كيمون إلاّ ليعرّف المسلمين بما يقال عنهم، وليفند مزاعم هذا الرجل، وأن الذي دعاه إلى ذلك ما كان منه أي كيمون أو غيره من المتعصبين الذين لا يخرج مغزى كتاباتهم عن إعادة كرات الحروب الصليبية.

          ويسأل تقلا: إذا كنت بالفعل تحب مصلحة المسلمين على هذا النحو الذي تقوله، وتعتقد أنهم راضون عن وجود فرنسا في تونس، فهل تعتقد ذلك عند أهل الجزائر؟

          ويرد: أما التونسيون فلا خلاف في أنهم مسرورون عن حالتهم. لقد دخلنا بلادهم وهي قاع صفصف، بعد أن فرق شملها الذين حكموها. وأما نحن فقد تركنا لهم حقوقهم الدينية ولم نسألهم إلاّ عن أمر واحد هو احترام سلطتنا السياسية. وأما بالنسبة للجزائر فلا أنكر أنه يجب تعديل بعض قوانينها، وقد شرعنا في ذلك، وأملي ألاّ يمضي وقت طويل حتى نرى الإصلاح يدب فيها.

          ويسأل: إني أعرف ما تقوله لي عن تاريخ السلطتين الدينية والسياسية في أوربا، إلاّ أن تطبيق ذلك مستحيل في أمم الشرق ولا سيما في الحكومات الإسلامية، والذين يقولون به ليسوا إلاّ خصومًا للمسلمين؟

          ويرد: أنا لا أسال الشرق في ذلك، فهو حر يفعل ما يشاء، ولكن أعتقد أن أوربا لم تتقدم إلاّ بعد تحديد حقوق كل من السلطتين السياسية والدينية وجعل الكلمة الأولى للسلطة السياسية.

          ويسأل: وما شأنكم بالشرق وأممه فكلاهما راض عن حاله، ومفضل لها عن كل سلطة أجنبية، والذي ينفر الإنسان الشرقي هو تدخل أوربا في سياسة وطنه، وعتبنا على فرنسا أكثر من غيرها لأنها عودتنا حماية الضعيف من القوي. ولكن مواقفها تجاهنا سلبية؟!

          ويرد هانوتو في عبارة صريحة: إن هذا القول لا ينطبق على الأوربيين في هذا الزمان، فأوربا بعد أن كانت لا تهتم إلا بقارتها، اندفعت إلى الاستعمار، ولا تقف عند دعوى العدالة التي تريدونها، وأعلم أن فرنسا مضطرة إلى التوسع ما دامت لا تقدر على منع غيرها من التوسع الاستعماري والتجاري، وأعلم أيضًا أن الأوربيين مهما اختلفت أجناسهم فمن السهل اتفاقهم على التوسع على حساب الشرقيين، إلى آخر ما أدلى به هانوتو من إجابات للأهرام.

رأي الاستعمار

          والحق أن رأيه في الشرق كمفكر وسياسي محترف عليم ببواطن الأحوال في أوربا والشرق، ووزير دولة كبرى في السنوات الأخيرة من القرن قبل الماضي والأولى من القرن الماضي، حيث إن رأيه يمثل رأي الغرب الاستعماري، وهو ما أثار حفيظة الشيخ الإمام محمد عبده. خاصة أن هانوتو ناقش في مقالته الأولى العديد من المذاهب الدينية والفلسفية قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة، ثم تطرق إلى إبراز الفروق بين اليهودية والمسيحية والإسلام من حيث طبيعة كل دين، والفروق بين السامية والآرية .. وأصدر أحكامًا خاطئة هوجاء .. من الطبيعي أن تستوقف الإمام الشيخ محمد عبده، حيث يركز هانوتو في مقالتيه وحديثه على ضرورة الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، مسجلًا أن أوربا لم تتقدم إلاّ بعد أن تم لها هذا الفصل، ويرجع سوء التفاهم بين الحاكمين المستعمرين، والمواطنين في البلاد الإسلامية المستعمرة لعدم الفصل بين هاتين السلطتين. وهذه بالطبع مغالطة شديدة من هانوتو، أشد منها زعمه بأن هناك تقدمًا في بلد عربي إسلامي هو تونس، والسبب وجود المستعمر الفرنسي. وطبيعي أن يكون رأي هانوتو في مقالته الأولى صادرا عن أفكار وتوجهات تخدم مصالح بلده فرنسا.

          وفي المقالة الثانية أراد أن يقلل من غلوائه ومبالغته وأخطائه، حيث يتظاهر بأنه لا يتفق مع كتاب الغرب المتأثرين بأفكار الكاتب اليوناني المتعصب كيمون وغيره من الكتاب المتعصبين الذين يذهبون إلى حد القول بأن تقدم المسلمين يعد أمرًا مستحيلًا والسبب اعتناق الإسلام. ويتظاهر بالتأثر لما أصاب الشرق الإسلامي من تأخر، مشيرًا إلى أنه كلما تقدمت أوربا تأخر الشرق.

الاحتلال شرط التقدم؟!

          ثم نراه يتعصب من جديد حيث يقرر أن الدول التي سارت على النهج والنظام الأوربي أصبحت متقدمة وكأن شرط التقدم بالنسبة للمسلمين أن يكونوا تحت النفوذ والاحتلال الأوربي!

          كذلك ينبه هانوتو في مقالتيه إلى قيمة المادة في حياة الأمم، مؤكدًا أن كل أمة لم تتقدم في امتلاك المادة، فإنها لابد أن تموت، كما ينبه إلى قيمة العمل فيقول إن التقدم سببه العمل والاجتهاد، والتأخر سببه اليأس والاستسلام والوقوف عند التغني بالماضي. وهو غرور قومي يزداد شدة إذا احتقر أصحابه غيرهم من البشر الذين لا ينتمون إلى أصلاب الأجداد المسلمين.

          ثم يضرب مثلًا بتقدم اليابان لأنها لم تقم باحتقار الأجنبي أو التغني بأمجادهم، تاركين خلف ظهورهم العمل ومواكبة العصر إلى أن يدلنا على سر تقدم اليابان وما وصلت إليه بأنه كان لاعتقادها بضرورة محاربة أوربا بسلاح أوربا. أي أن تستخدم علم أوربا ومدنيتها في صراعها من أجل التقدم.

          وعلى الرغم من قبول بعض الملاحظات التي أبداها هانوتو، يجب أن نتنبه إلى أنه إنما كان مدفوعًا إلى التعصب لأسباب سياسية. وأنه في الوقت الذي يتهم غيره بالتعصب نراه غارقًا حتى قمة رأسه في هذا التعصب. وإلاّ كيف يمكننا تبرير تمجيده لتقدم تونس حينما كانت مستعمرة من فرنسا؟ وشعوره الدائم بالتفوق لأنه من أبناء الجنس الآري وليس الجنس السامي مع أنه يعلم جيدًا بأن موضوع التمييز بين الأجناس قضية ثبت فسادها.

          والآن بعد أن عرضنا الأفكار الرئيسية لمقالتي هانوتو اللتين نشرهما بصحيفة الجورنال الباريسية وحديثه الذي نشر في الأهرام، فقد وجب أيضًا عرض الأفكار الرئيسية لردود الشيخ الإمام محمد عبده.

          ومنذ البداية يمكن القول بأنه واضح من ردود الشيخ الإمام أنه بدأ بعد أن قرأ مقالتي هانوتو حيث قال: «قرأت الساعة مقالتي هانوتو، ثم ينبه إلى أن ما كتبه هو بدافع من غيرته على شئون دولته، وأنه يريد أن يدعو قومه إلى التبصر في وضع قاعدة لمعاملة المسلمين الذين يدخلون تحت ولايتهم. وفي رأي الشيخ الإمام أن ذلك لا يتم لهانوتو وقومه إلاّ بالبحث في ما صار عليه المسلمون محافظين على أمر دينهم، وأنهم لم يتحولوا بعد عن تعاليم هذا الدين الحنيف.

          وإذا كان أمر المسلمين على هذا النحو فلا بأس، ولا ضرر ولا ضرار. ولكن هانوتو كما يرى الشيخ الإمام يريد ربط ما عليه المسلمون بالولاء الفرنسي. وأن يجمع المسلم بين ما وقر في قلبه، وبين الخضوع الأعمى لسلطان فرنسا حتى يطيب جوارها في قلوبهم، والطاعة لكل أمر تصدره فرنسا التي يصح لها أن تمن على هؤلاء المسلمين بالبقاء في الأرض إذا شاءت، وإلا وجب عليها أن تشن عليهم حملة واحدة فتمسحهم من على وجه البسيطة.

الإمام يفنِّد

          ثم يشير الشيخ الإمام إلى أن هذا الفهم عند هانوتو قد جره إلى النظر في أصول الأديان القديمة، ثم المقارنة بينها، خاصة بين الدين الإسلامي والدين المسيحي، ثم الحكم في تفضيل إحدى الديانتين على الأخرى وأثر كل منهما على نفوس معتقديها، وكأن غاية هانوتو من هذا البحث وتناوله هو تحريك نيران العداوة في قلوب الفرنسيين ليثيرهم ضد المسلمين ثم الشرقيين بوجه عام.

          ويسجل الشيخ الإمام على هانوتو خطأ هو أنه مقلد في التاريخ، كما أنه مقلد في العقائد، وأنه جمع خليطًا من الصور وحشرها إلى ذهنه ثم سلط عليها قلمه كما يشاء، ليدهش بها من لا يعرف الإسلام والمسلمين من مواطنيه الفرنسيين.

          ويشير الشيخ الإمام إلى أن هانوتو أكثر مَنْ ذكر التمدن الآري، والتمدن السامي والتفريق بينهما منتهيًا إلى أن الآري قهر السامي. وهنا يذكره بأن مهد التمدن الآري ومنبت غرسه الهند. التي لا يزال بعض أهلها على الوثنية، ومن هؤلاء مَنْ قضى عليه بالانحطاط في العقل والخلق والصناعة، ولا يسمح له الارتقاء بين مواطنيه أنفسهم، وفيهم مَنْ حكم عليه بالنجاسة حتى لا يسمح لأهل أي طبقة أخرى من مواطنيه أن يلمسوه.

          ثم يتساءل الشيخ الإمام: ألا يتذكر هانوتو أن التمدن الذي وصل إليه الأوربيون حمل إليهم مع المهاجرين الأولين الذين رحلوا من البلاد الشرقية الآرية؟ وألم يخطر بباله تلك العظائم التي انتفخ بها بطن التاريخ، وما كانت عليه أوربا الآرية من الهمجية وأن العلم والمدنية لم ينبعا من معينها، وإنما جاءها بمخالطة الأمم السامية؟ إلى أن يتساءل: ماذا حمل العرب المسلمون إلى أوربا؟ ويجيب: لقد جاءها العرب بما استفادوا من صنائع الفرس، وعلوم الفراعنة والرومانيين واليونانيين ... ونظفوا جميع ذلك ونقلوه من الأوراق التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في سائر الأمم الغربية، وذهبوا به ناصعًا يبهر أعين أولئك الغافلين المتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون؟ ثم يذكره بأن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدينة الحاضرة ... كانت هى تلك الشعلة الموقدة التي كان ضوؤها يسطع في بلاد الأندلس!؟

          ثم ينتقل الشيخ الإمام إلى موضوع علاقة الأديان بأحوال الأمم المعاصرة الذي أشار إليه هانوتو فيقول: إن صح الحكم على الأديان بما يشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم. جاز لنا أن نحكم بأن لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة. فإن الإنجيل بين أيدينا نقرؤه ونفهمه يأمر أهله بالانسلاخ عن هذه الدنيا والزهادة فيها، إلى آخر هذه الوصايا التي تليق برسول إلهي يدعو الناس إلى الانقطاع عن هذا العالم الفاني.

          ثم يسأل الشيخ الإمام: هل خطر ببال هانوتو أن يجعل ما لله لله، وما لقيصر لقيصر كما أوصى الإنجيل؟ ويجيب: النظر يدلنا على أن شيئًا من ذلك لم يكن، حيث إن هذه المدنية إنما هي مدنية الملك والسلطان، الذهب والفضة، مدنية الخداع والنفاق ... ولا دخل للإنجيل بكل ذلك.

          ويوضح الشيخ الإمام فضل الساميين الذين يقلل من شأنهم هانوتو قائلًا: من الساميين الفينيقيون وهم أساتذة القوم في الصناعة والتجارة والقراءة والكتابة. ومنهم الآراميون وكانت لهم مدنية.

لا مجال للاتكال يا هانوتو

          ويبدأ الشيخ الإمام رده على المقالة الثانية بقوله: تحرش هانوتو بمسألتين من أمهات مسائل الدين وهما القدر والتوحيد. وفي المسألة الأولى وهي القدر خلط في بيان وجه الإشكال واختلاف الناس فيها قديمًا، حيث انقسموا إلى فريقين. فريق ذهب إلى أن العبد مسير بقدرة الله لا عمل لإرادته في فعله، وفريق ذهب إلى أن خالقه وهبه الاختيار ليتصرف به وإن له ما كسب وعليه ما اكتسب. ثم قال هانوتو إن الرأي الأول ينزل بالإنسان في حضيض الضعف، والثاني يرفعه إلى ذروة القوة!

          ثم انتهى هانوتو إلى الديانتين المسيحية والإسلامية وقال إنهما تمثلان هذين المذهبين أي مذهبي الناس في القدر. وأن الأولى أي المسيحية ربانية ورثت ما ترك الآريون حيث ترقى بالإنسان، والثانية أي الإسلامية: بشرية أخذت ما ترك السابقون حيث تنزل بالإنسان إلى أسفل درك من الضعف. ويعلق الشيخ الإمام على ذلك متسائلًا: هل عهد بين الكتاب وأهل النظر تشويش في الفكر وخلل في المقال يشبه ما جاء به هانوتو!

          ثم يوجه إليه تساؤلات منها: هل سمعت بمسلم حقيقي استلقى على قفاه وترك العمل اتكالًا على القدر؟ وهل سمعت بأحد الفينيقيين أنه كان ينام ويتلذذ بالأحلام اعتمادًا على ما يسوقه الغيب؟ لكننا سمعنا بذلك في الأديرة وبين الرهبان، وعرفنا ذلك الجيش العرمرم من المتكلمين الذين كانوا يعيشون حتى ضجت أوربا في وقت من الأوقات!

          ثم يبلور الشيخ الإمام موقف الإسلام من القدر قائلًا: لقد جاء القرآن الكريم فأثبت الاختيار للإنسان والكسب في نحو أربع وستين آية، وجاء نبيه صلى الله عليه وسلم في عمله وقوله بما يؤيد ذلك. فكان العامل الذي لا يكل، والدائب الذي لا يمل، والساهر الذي لا ينام. فهل تقول عنه بعد ذلك إنه اتكأ على وسادته، واكتفى بالتسليم للقدر في إتمام دعوته قائلًا: الذي كفل لي النصر يكفيني التعب؟ وجاء الصحابة والتابعون من بعده فكانوا أعرف الناس بالقدر.

          ثم ينتقل الشيخ الإمام إلى المسألة الثانية وهي عن التوحيد فيقول: والآن لعلني آتي على آخر القول لكسر شره هانوتو وتهجمه على الإسلام، وما تعني به التوحيد حيث يقول: إن كان هانوتو قرأ شيئًا في أطوار الأمم ونشأة العقائد لعلم أن توهم السلطان الإلهي الذي يشير إليه دليل على انحطاط الأمم، وأنه كلما ارتقى الإنسان في العلم، ولطف وجدانه بالفهم انجلى أمامه الوجود الأعلى حتى ينتهي إلى الاعتقاد بوجود إله واحد لا شريك له. ثم يضرب الشيخ الإمام مثلًا على أن التوحيد مصاحب لارتقاء الأمم باليونانيين القدماء الذين وصل أئمة فلاسفتهم، أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى معاني التوحيد، وبمصر القديمة التي وصلت إلى التوحيد حين ارتقت بالعلم.

          ويشير الشيخ الإمام إلى أن تعصب هانوتو مستمد بالفعل من أسلوب المتعصب اليوناني كيمون الذي نادى بإخلاء وجه الأرض من المسلمين، ويذكره بأن حلمه وحلم كيمون لن يتحقق لأن الإسلام وإن طالت غيبته فله أوبة وعودة حتى وإن طال الزمان.

نظرة عقلانية

          ويتناول الشيخ الإمام الرد على الحديث الصحفي الذي أجراه بشارة تقلا مع هانوتو بعد أن يسجل بأن كل ما جاء به هو من كلام هانوتو صاحب الفصول المعروفة عن الإسلام، وأنه من الظلم ترك هذا المتعصب من دون مناقشة ثم يقول: لقد جاء في كلام هانوتو ما يدل على أنه أصيب بشيء من سوء الفهم مستخدمًا الشقاق والخصام حتى بين أهل المقصد الواحد. فلا يليق بذي غيرة على الحق ألاّ يوفيه من الاعتبار ما يستحق.

          ويبدأ بتفنيد ما جاء في هذا الحديث قائلًا: «صرح هانوتو بأن أوربا اندفعت إلى الاستعمار لا يردها عنه إلا قوة الأمم التي تأبى الاستعمار بها، وضرب المثل باليابان فإنها بما ارتفعت في المدنية قد أقرت أوربا بقوتها واضطرتها إلى الإقرار بمكانتها فحمت بلادها ومصالحها. وهو قول حق من هانوتو. وكان على المسلم أن يعرفه من قرون، وله في كتابه المنزل خير هاد، وكان يكفيه منه آية {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} فقد دعته هذه الآية إلى الإعداد وطالبته أن يبلغ منه حد المستطاع.

          ثم ينتقل الشيخ الإمام إلى أمرين أولهما في ما فهمه في إجابات هانوتو من شأن المسلمين وما يسمونه دعوة إلى توحيد كلمتهم، وجمع السلطة الدينية والسياسية في يد شخص واحد، وثانيهما سوء ظن أكثر المسلمين بالسياسة الأوربية على وجه التحديد. حتى وصل فقدان الثقة بهم إلى أبعد الحدود. وقبل أن يناقش هذين الأمرين يتنبه إلى أخطاء وقع فيها المسلمون فأدت إلى تأخرهم، وتبع هذه الأخطاء هزال في الهمم، وفساد في الأعمال، يبتدئ من البيت وينتهي إلى الأمة. ثم يتحدث عن جمع السلطة الدينية والسياسية في يد شخص واحد، حيث قرر هانوتو في حديثه أن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة السياسية وهو كلام صحيح. لكن هانوتو لم يعرف ما معنى جمع السلطتين في يد شخص واحد عند المسلمين، ويذكره الشيخ الإمام بأن المسلمين لم يعرفوا في أي من عصورهم شكلًا من الأشكال التي كانت للبابا على الأمم المسيحية عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويصنع لها القوانين الإلهية. وفي المقابل نجد الإسلام قد قرر حقوقًا للحاكم الأعلى- وهو الخليفة أو السلطان- ليست لصاحب السلطة الدينية. فالخليفة أو السلطان هو المدافع عن البلاد بالحرب أو بالسياسة، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس لهم عليهم إلاّ التولية والعزل.

          ويستطرد الشيخ الإمام مؤكدًا أن تداخل السلطتين الدينية والسياسية مقرر عند الأوربيين وحدهم حيث تسمي فرنسا نفسها حامية الكاثوليك، وملكة إنجلترا تلقب نفسها ملكة البروتستانت، وإمبراطور روسيا رئيس الكنيسة.

          وحول سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا وعدم الثقة بسياستها يتساءل الشيخ الإمام: لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم هانوتو بذلك أهم الهنود وهم في حكم دولة أجنبية يطيعونها! هل هم مسلمو روسيا وثقتهم بحكومتهم، وثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد؟ هل هم الأفغانيون وإخلاص أميرهم لإنجلترا أشهر من أن يذكر؟ أم هل هم التونسيون الذين أثنى عليهم هانوتو في حديثه؟ بعد ذلك يؤكد الشيخ الإمام لهانوتو أنه ليس بقليل في مصر من يثق بالفرنسيين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم.

          ويختم الشيخ الإمام ردوده على المقالتين والحديث بأنه لو اقتصرت آراء هانوتو على السياسة وحدها ولم تتناول أمور الدين في أصلين من أصوله وهما القدر والتوحيد، لما أخذ عليه أحد شيئًا. يا ليته قد فعل لأراح نفسه وأراحنا من عناء الرد على أخطائه الفاضحة.
------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

سامح كريم*