الثأر

الثأر
        

          في صباح ذلك اليوم القديم، وبعد أن انزاحت الثلاجات الضخمة عن صحارى إفريقيا وآسيا متراجعة إلى القطبين، اهتز وجدان الكون في أول حرب عالمية حقيقية، حينما اندفع قابيل حانقًا ليقتل هابيل أخاه، وليلطخ أول دم وجه الأرض بالندم والرعب والقشعريرة، وليهتز وجدان العالم المبكر، ذلك الذي بدأ دورته التاريخية الدامية، وليصبح الثأر الوجه الأحمق لحركة الإنسان: فردًا وأسرة وقبيلة وأمة وتاريخًا.

          وأكبر وهم عايشه الإنسان المعاصر، أن الثأر سلوك دموي بدائي يتقهقر تحت نور التمدن والتحضر، وأن التعليم بما يصاحبه من رقي العقل وتنزهه وسموه عن العنف، هو الذي يحول دون انزلاق الفرد، أو الأسرة، إلى هذه المستنقعات الدموية.

          غير أن العالم المعاصر- بكل إمكانات العلم والفلسفة ناقض هذا المفهوم التربوي، حيث قامت منظمات ذات تركيب عصري متطور، بمجازر ثأرية في قلب أكثر البلدان تعليما وتحضرًا، وفي المدن بالذات (لا في البوادي أو القرى)، في شيكاغو ونيويورك، في برلين وميونخ، في مدريد ولندن وباريس، مستغلة إنجازات العقل الحديث من سلاح وتخطيط وحصار، وكان أكثرها ظهورًا ودموية الكراهية المستمرة خلال القرنين الثامن والتاسع عشر بين فرنسا وإنجلترا وكل الدول التي وقعت تحت أيديها وأصبحت مستعمرات ما هي إلا ثأر بين دولتين تتصارعان بالسلاح والعلم، لتهون أمامه أيام ثارات العرب في الجاهلية: وأشهرها حرب البسوس بين بكر وتغلب، وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وغيرها من أيام ثارات العرب، تلك التي ذبلت وانحسرت تحت سطوة مفاهيم الإسلام، وهو الدين الذي حوى في جوهره نبذ الثأر الأعمى والأحمق، والذي يقودنا اليوم إلى قاعدة صادقة: أن الذين يقومون بالعمليات الثأرية الدموية، وفيهم كثيرون من أرقى المتعلمين، هم أبعد الناس وعيا بالدين وإدراكًا لمبادئه ومفاهيمه، ولعل أوضح مثال لذلك هو أن الأماكن الإسلامية المقدسة، في مكة والمدينة وبيت المقدس، تنعدم منها تلك الحركة العنيفة الجاهلة التي يقوم بها فرد أو جماعة ليزهق أرواح الآخرين، كما أن من الواضح أن رجال الدين المسلمين هم أيضا أقل شرائح البشر تعاملا في هذا المجال.

***

          والثأر في تعريفه المبسط: دافع يلزم الفرد من عصبية خاصة الانتقام، أي الثأر لأحد أقربائه ممن قتله، ويصور في العادة إحدى مراحل تطور الجماعة عندما تكون الأسرة هي الرابطة الاجتماعية الوحيدة، وصاحبة السلطان، نافيا عن السلطة أو الحكومة أو الدولة أن تنوب عن الفرد في القصاص، أو أن يخشى الفرد أن تنوب عنه الدولة في نيل شرف القصاص فيلتصق به عار الجبن وقصر اليد.

          والثأر على مستوي الفرد أو الجماعة اتصفت به كل الشعوب دون استثناء، وفي كل المراحل التاريخية دون استثناء أيضا، ودون استبعاد قيام الحرب وخاصة الحروب العالمية بين الأمم إلى فكر الثأر والقصاص، والتي يكون الثأر واحدًا من عناصر قيامها، ومن أخطر عناصر قيامها في الأساس، والتي يبرز عنصر الثأر أيضا في التسويات ومعاهدات الهدنة في نهايتها.

          فلا نتصور قيام الحرب العالمية الثانية من دون أن يكون قلب هتلر قد امتلأ بالعمى والحمق وقرر الثأر لما حدث لألمانيا في الحرب العالمية الأولى وإذلالها في معاهدة فرساي، كما لا نتصور دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية من دون التفكير في الثأر لكرامتها بعد مهانة «بريل هاربر» حتى وصلت بشاعة الثأر لاستخدام القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي.

***

          وصاحب الثأر (حيث لا نستطيع أن نطلق عليه لفظ الثائر) هو فرد يقع في يقينه أن حياته تظل تفقد معناها دون النيل ممن أوقعه في هذا اليقين، وهناك حالات تزخر بها صحائف الثأر لأناس حملوا هذا اليقين في كيانهم أكثر من ربع قرن، ولم ينفضوه عن أنفسهم إلا باكتمال تحقيق الهدف، وأذكر هنا صديقي الذي كان يتشاجر في مقهى وهو في سن الثامنة عشرة، وقد وقف رجل يبعد المتشاجرين، وهذا الرجل ليس له دخل بالمشاجرة من الأساس، ولكن صديقي في ثورته طعن هذا الرجل في صدره ليموت فورًا، وليدخل صديقي هذا السجن لمدة خمس سنوات بالقتل الخطأ، وقد تصورنا أن الأمر قد انتهي بعد خروجه من السجن، ولكن ذات يوم - وكان صديقي يقف في الشارع وسطنا، وإذا بسيدة تأتي وقد ارتدت النقاب واقتربت منه ثم أخرجت ساطورًا وانهالت على رأسه بضربتين كانتا فيهما الخلاص والانتقام، ليموت صديقنا بين أيدينا ووسط ذهولنا وصراخنا، ولتخلع السيدة وهي أخت الرجل القتيل النقاب في وسط الشارع، وتطلق زغاريدها، وقد كان المشهد مؤثراُ ولم أنسه حتى الآن.

          كذلك لا أنسى من حكايات والدي الأديب محمد مستجاب أثناء عمله في السد العالي، أن شخصا جاء للعمل في موقع صحراوي كان يمد عملية السد العالي بنوع من الكاولينا (الطمي القديم )، وعرف ملاحظ الموقع أن هذا الشخص (أ) جاء طالبا الثأر من الشخص (ب) الذي يعمل معهم منذ سنوات، وارتج الموقع الصحراوي المليء بعمال من بلاد متقاربة في الصعيد، وكل جماعة من العمال لها (ريس) أي رئيس له سطوته عليهم، واستقر الأمر على إقامة صلح أو هدنة بين (أ)

          و(ب) على الأقل في هذا الموقع، وبالفعل ظل (أ) يعمل بدءًا من عامل أتربة إلى مساعد سائق بلدوزر إلى سائق بلدوزر، ونسي الناس هذا الأمر سنوات، وبعد حرب 1967 ألغي العمل الليلي في الموقع، فتكدست الورديات في النهار دون عمل، وكانوا يتسكعون حول الخيام، حينئذ قام (أ) أمام كل المتسكعين بقتل (ب) بعد سبع سنوات من وصوله، ويبدو أن حياته كانت قد أخذت معنى (آخر) خلال تدرجه في العمل، أو ما يسميه علماء النفس: تحقيق الذات، فلما انسحب عنه ذلك بالفراغ والتسكع عاد الأمر القديم ليطفو في الإدراك من جديد، كذلك هناك حادثة مشهورة لشاب صغير جاء إلى الإسكندرية من الصعيد بحثا عن قاتل أبيه، ولما عثر عليه شاءت الظروف أن يعملا عن قرب، ثم يعملا معًا، ثم أراد المطلوب بالثأر أن يزوج الشاب لابنته، تتويجا لإسقاط أمر الثأر وإنهائه، غير أن الشاب قبل زفافه بيومين قتل صهره، وهرب إلى بلدتهم عائدًا إلى الصعيد ليسلم نفسه لشرطة بلدتهم في زهو وافتخار.

          وطالبو الثأر كثيرا ما يعجزون عن نيل غرمائهم، إما لقوة الغرماء وإما ما يفرضونه على أنفسهم من حراسة أو لضعف طالب الثأر، ولذا يلجأون إلى القتلة المأجورين، وهم شريحة من الرجال معروفة في البلاد التي تنوء بكثرة عادات الثأر في الصعيد وشمال الدلتا (محافظة البحيرة) وشرق الدلتا (الشرقية)، ولم يتعرض أحد من علماء الاجتماع أو النفس ببحث أو دراسة عنهم، ربما لأن القاتل المأجور ينظر إليه من زاوية عقابية تجريمية فقط، مع أن ثارات كثيرة ومتعددة تمت على أيدي هؤلاء المأجورين، الذين تحميهم مجموعة من التقاليد تجعلهم بمنأى عن العقاب، إذ لا أحد من أهل القتيل يعترف أو يشير إلى القاتل المأجور، لأن ذلك خارج دائرة الفخر والاعتزاز، حيث يعد أداة ثأر لا يصح الثأر منها، ولأنه ليس طرفًا في العلمية كلها مع أنه منفذها، وكثيرًا ما يؤدي هذا التستر من الطرفين على القاتل الأجير أن يعطي لهذه الشريحة امتدادا لنشاطهم يصل إلى حرق المحاصيل وتسميم البهائم وإغراق الأراضي لحساب مؤجريهم، بل إن حالات حدثت في هذا الأمر أن أدى القاتل الأجير خدمته للطرفين وقبض عنها أجره.

          وتقضي قواعد القتلة المأجورين ألا يراوغ في التنفيذ فور الاتفاق وقبض (مقدم العملية)، غير أن حالات أخرى قام فيها القاتل الأجير بإبلاغ الطرف المقصود بالثأر ربما تقربا أو بحثًا عن منفعة أكبر، وعندما يحدث ذلك فمن النادر أن توكل للقاتل الأجير عملية أخرى، وهناك حالات قام بها قتلة مأجورون مجانا، وغالبا ما تكون لحساب امرأة فقيرة ثكلت زوجًا أو شقيقًا، أو ابنًا، وقد تتم في شكل تضامن مجاني يجعل القاتل الأجير طرفا أساسيا يجب النيل منه.

          والمركب الاجتماعي للتجمعات السكانية يجعل لكل قرية قاتلا مأجورًا، تمامًا كما أن لكل قرية شيخ بلد وعمدة وداية (قابلة) ومغن وفاتح مندل وغير ذلك من أصحاب المهن الفريدة، ساعد على ذلك انحسار الإحساس بالفروسية والنبل والمجد العظيم تحت وطأة الحياة المعاصرة المضطربة، ذلك أن القبائل في زهو فروسيتها ونبلها كانت تحقر من شأن القاتل الأجير (الذي وكله في المهمة جبان خائف)، غير أن شريحة هذا النوع من القتلة انتشرت في العصور المتأخرة، وأصبح لكل واحد مجال عمل لا يصح لأقرانه أن ينافسوه فيه دون استئذان، وهم يعرفون بعضهم ويتصادقون ويتكلمون في ما بينهم عن عملياتهم الناجحة ووسائل تدبيرها، ونادرًا ما يقع واحد منهم ضحية أو صريعًا للآخر إلا في ظروف بالغة الدقة، ويكون المال الوفير في معظم الحالات ثمنا ينزح بعدها هذا القاتل عن المنطقة كلها.

الثأر والأدب

          وقد ظل الأدب هدفًا أساسيًا لعملية الثأر - الأدب العالمي أو العربي، فلا ننسى «الكونت دي مونت كريستو» وهو ينتقم من أصدقائه الذين خانوه، وقد استهلكت السينما هذا الموضوع بشتى الطرق، كذلك فلا أحد يستطيع أن ينسى أنور وجدي وهو يعدد ضحاياه، انتقاما وثأرًا على ما فعلوه به، الأول، الثاني، كذلك زيارة السيدة العجوز لدورنيمات وعودة تلك السيدة بجبروتها للثأر من حبيبها وقريتها التي طردتها هي ورضيعها من سنوات بعيدة، ولا يمكن أن نترك خالتي «صفية» وجبروتها وهي تثأر من حربي المسكين طوال حياته في رائعة عمنا بهاء طاهر، كي يكون الثأر حبًا هو الموضوع الأشد اهتمامًا، حيث يصبح القلب هدف الثأر، أما عباس البوسطجي فقد قرر الثأر من إحدى قرى الصعيد بطريقته بأن يدخل ويكتشف أسرار أهل تلك القرية البائسة، فحاول أن يثأر من كل التقاليد والجهل والتخلف التي تنام فيها تلك القرية، ليجد نفسه متورطا في قضية قتل فتاة كان ذنبها أنها أحبت فقط، ليقتلها والدها في أحد أعظم مشاهد السينما العربية حتى الآن، عن الرواية القصيرة «البوسطجي» للراحل العظيم يحيى حقي.
-------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

محمد محمد مستجاب*