عشر أساطير للهوى (قصة قصيرة)

عشر أساطير للهوى (قصة قصيرة)
        

          ( 1 )
          نام الليل على رأسي، فسمعت همسا أتاني مع عمق الظلام. قمت أتحسس موضع أقدامي، عابرًا صالة طويلة ترتجف في صقيع الشتاء. حين وصلت إلى الركن الأيسر تراءى لي شبحان يتعانقان. عصرت بصري وشنفت أذني، فخلص من طيات السواد وجهان أليفان لي. ومكثت ساعة في مكاني، منصتا إلى هسيس خافت يبدو كهديل اليمام. ولما وجدتهما غير عابئين بي رغم أنهما شعرا بوجودي، سألته بصوت مسموع: من أنت؟ فسمعت ضحكة عكرت صفو السكون وجاء الرد قاطعا: أنا أنت. ولم أفهم للوهلة الأولى، فنقلت بصري إلى الشبح الآخر، وكان لفتاة يكاد وجهها يضيء، وسألتها: من أنت؟ ابتسمت وقالت: أنا هي. أغمضت عيني في ذهول، ثم جريت إلى قابس الكهرباء وضغطت عليه فغمر النور كل شيء.

          ورميت بصري فلم أجد الشبحين المتعانقين. مشيت متمهلا إلى مكانهما فوجدت ورقة صفراء ربما سقطت من كتاب قديم أثناء قيامي على عتبة المساء بترتيب مكتبتي العامرة بألوان شتى من المعارف. فتحت الورقة، فلما بانت حروفها وجدت نفسي أصرخ: ياااااه. وكان هذا أقل ما يمكن أن يفعله عاشق مكسور جلس وحيدا قبل ربع قرن ليكتب ما تخيله من حوار مع فتاة يقف أمامها ليعترف لها بحبه الجارف، لكنه مضى دون كلمة، وبقيت هذه الورقة التي تغالب الزمن شاهدة على جرحه الذي لا يندمل أبدًا.

          ( 2 )
          رن جرس الباب وكنت على شفا النوم العميق، فتقلبت في فراشي متضجرًا، ثم استسلمت للنعاس. لكن الرنين عاد قويًا ومزعجًا. نفضت النوم عن رأسي، وقمت متثاقلا نحو الباب. فتحت فلم أجد أحدًا. رميت بصري على امتداد الردهة الطويلة فلم ألمح شيئًا. أغلقت الباب، ومشيت أتماطأ إلى سريري. قبل أن أرمي جسدي إليه من جديد، عاد الرنين، فجريت إلى الباب. فتحت ولم يكن هناك أحد. قلت في نفسي: من هذا الذي يلهو معي في الهزيع الأخير من الليل. سرت نحو المصعد فتحته فلم أجد أحدًا مختبئا به. قلت ربما يتوارى الضيف الثقيل في انحناء السلم الرخامي، نظرت إلى الأسفل فقابلت صمتًا وخواء. مشيت على أطراف أصابعي يسبقني وجل وتحسُّب حتى وجدت نفسي فوق سطح البيت. كانت السماء ملبدة بغيوم كثيفة والقمر يجاهد ليثقبها عند منطقة ضعيفة رقيقة، فيهدي أشعة واهنة إلى رأسي الذي تضربه نسائم طرية. نظرت في عمق الليل فرأيتها هناك تجلس فوق سحابة مستوية، وفستانها الأبيض يختلط بالندف القطنية الراحلة إلى بلاد بعيدة. ناديتها فلم ترد، لكن ابتسمت فاهتزت السحابة وسقط مطر خفيف فوق رأسي. صرخت بكل ما أوتيت من قوة، لكن السحابة كانت تمضي بها.

          لم أدر إلا وأنا أجري إلى حافة البناية، لأقف عليها وأصرخ من جديد، لكن لا مجيب. رفعت ذراعي وفتحت كفي ولوحت لها وكأني أودعها، لكن ضحكتها اختفت وانقبض وجهها الذي أشرق في خيط شعاع يقاوم غبش السحب الثقيلة. وجدت نفسي أمد ذراعيَّ، وأرفرف بكل أصابعي، ثم قفزت طائرًا إليها.

          ( 3 )
جلست على شرفة المساء، ومددت يدي لأهش قطع الليل الهاربة من أمامي. بعضها غافلتني وتسربت من مسام جلدي، ثم تراكمت في نفسي دخانا ينبعث من جمرات عشق مستيقظة في دمي من سنين. انتبهت لها فأوصدت أمامها كل ثغرة في جسدي المهيض. غافلت أنا الليل، وتسللت إلى شراييني، ورحت أجمع نثار الجمرات الموقدة التي لا تكف عن إشعال روحي.

          جمعتها ورصصتها حتى صارت كومة من الأزاهير الزرقاء والحمراء التي تتراقص في ريح المساء البارد المسافر إلى غربتي. انكمشت أمام اللهب وتهادى إلى أذني لحن من الزمان الأول، طالما سمعته بين رحيل يوم ومجيء آخر وقبل أن أغفو لأستقبلها في أحلامي.

          مددت يدي فشعرت بدفء ناعم كاد يسكرني. راق لعيني اختلاط الأزرق بالأحمر كامتزاج دمي بالسماء التي تحفظ وحدها سر العشق ولا تهبه لنا نحن المجذوبين بكل كياننا إلى المجهول. حملقت في كومة اللهب التي كانت تتصاعد وتبلع دخانها في بطنها المستعر، فرأيت يدين ناعمتين كأوهامي العابرة راحتا تلملمان النار من أطرافها، وتصيغانها على هيئة شيء لم أتبينه للوهلة الأولى، لكنها تجلت لعيني بعد قليل وردة حمراء سابحة على صفحة رائقة، راحت ترتفع رويدًا رويدًا، ثم رفرفت، فرفعت يدي ورفرفت معها، ثم مددت أصابعي لأقطفها لكنها تباعدت إلى الأمام وإلى أعلى، فجريت وراءها، وخليت كل شيء وراء ظهري وتبعتها وأنا لا أعرف أي شيء عن الذهاب والإياب.

          ( 4 )
          رأيت وجهها مطبوعا على صفحة الشمس الغاربة. كانا يجاهدان معا ليدفعا آخر دفقة ضوء في أوصال الدنيا، ثم أخذا ينزفان قطرات من الشفق في شراييني فاتسعت، وراح الدم يتدفق غزيرا في رحلة ذهاب وإياب لا يتوانى. ارتج قلبي وارتفع وجيبه حتى وصل إلى أذني موسيقى عذبة شجية، ترامت إلى مسامع العابرين. لكنهم لم يلتفتوا أبدا إلى عاشق يجلس وحيدا شاردا على عتبات المساء، ووجهه معلق عند سفح الأفق المجروح، ويداه ممدودتان تلملمان أوراق ورد راح يتهاوى على مهل في رماد أزرق قاتم لا يعرف أحد له بداية من نهاية.

          ( 5 )
          كأنها خاصمتني فرأيت ندف الثلج تتساقط غزيرة من قرص الشمس المتوهج، وردائي تعصف به الريح. هرعت إلى جدار سميك يحميني فوجدته مثقوبا كالغربال، يتراقص فيه الصقيع. غمست رأسي في أوسع كوة فلمحت يمامتين تتناجيان في صمت، ولا تعبآن بالعاصفة القارصة، ولا يهزهما شيء.

          كانا ذكراً وأنثى يتواعدان على أمر لا أعلمه، لكنني سرعان ما رأيت ما أجهله ماثلا أمامي. احتضان حميم ولهفة وهيام وانقطاع تام عن الدنيا بأسرها. وبعد أن فرغا مما عزلهما قليلا عن كل ما حولهما، طارا وحطا على رأس الجدار. رفعت هامتي إليهما وأنا أتدثر بشوقي إلى لقاء، فسمعتهما يقولان في صوت واحد: يزول الدفء في قسوة الهجران.

          ( 6 )
          رأيت قمرا يطل من أخدود غائر في تلة بيضاء من الياسمين. أمعنت النظر فوجدتها جالسة بفستان العرس في عينيها وجع. كنت أنا أنتظر واقفا على باب بيت وسيع، صالته تفوح منها رائحة طيبة، وتنسكب من نوافذها الشمس وتحط على وجنتيها فيمتزج النور بالنار.

          تلفت حولي ورحت أمرر كفي على ثيابي البيضاء، وألملم حبات الشوق التي تتناثر على كتفي، وأبتسم للنسوة اللاتي يتحلقن حولها تطمر رؤوسهن نشوة وافتتان فيرقصن ويصفقن ويصدحن بأغنيات لم أسمعها من قبل.

          رفعت هامتي متطلعا إليها فرمت ومضة من سحرها الأخاذ نحوي، فهممت تجاهها متقدما على بساط من حرير أخضر. وحين لم يبق بين يدي ويدها سوى قبضة نسيم واحدة، انتفضت النسوة وشبكن أيديهن، وتلاحمت أجسادهن لتصنع جدارا سميكا فحجبوها عني. فجأة أخذن يدفعنني بقسوة وأنا أجاهد لألقي نظرة أخيرة عليها من دون جدوى حتى سقطت على ظهري وانغلق الباب.

          نظرت حولي فلم أجد سوى ريح تزعق وأرض بور. انكسرت رأسي على صدري وانهمرت دموعي. كل قطرة كانت تثقب قطعة من ثيابي فانكشف بعض لحمي وكل حزني.

          قمت ورحت أضرب الباب بقوة فوجدته صار حجرا مسنونا، وانبجس الدم تحت خطواتي التي أخذتني بعيدًا. سرت في طريق راح يضيق وينزلق إلى أسفل حتى وصلت إلى حفرة عميقة نبتت على جنباتها أزهار يتساقط من بتلاتها ملح وينبعث من بين أعوادها لحن شجي.

          صمت اللحن فسمعت أنينا. دققت النظر فوجدتها واقفة وقد تهدل شعرها ونام على الزهر، وذهب عن وجهها الشمس والقمر، وحلت ظلمة داكنة. فلما رأتني صرخت بكل ما أوتيت من قوة:

          ـ خذني.

          مددت يدي ورفعتها وعلى رأسها ثلاث زهرات وقطعة ملح وفي فمها بقايا لحن. فلما صارت أمامي احتضنتها بشوق جارف، والتقطت النغمات الساكنة على شفتيها، ثم أخذت يدها وهممت سائرا فوجدت أن الطريق قد انقطع، وبان أمامي وكأنه جسر ناقص معلق في الهواء.

          درنا وقلنا نعود نحو البيت الكبير الموصد، فوجدنا النسوة قادمات وقد فككن شعورهن، وعلى وجوههن غيظ ورغبة في الانتقام، وفي أيديهن حبال غليظة ومجامر تطلق دخانها فتضيع الرؤية ويموت الطريق.

          حين كان بيننا وبينهن ذراع واحدة احتضنتها من جديد، ثم قفزت بها إلى أعلى متسلقا شعاع الشمس التي غمرت المكان، دون أن يدري كلانا إلى أين نذهب؟ وكيف نعود؟

          ( 7 )
          الوردة الحمراء التي قطفها فجرا ليهديها إليها كانت بالأمس مخدعا ناعما لملكة النحل وذكرها القوي الجموح. مد يده فابتلت بالندى ووخزتها شوكتان. رفعها إلى أنفه وشهق برحيق فواح، ثم تنهد ومضى صامتا.

          في طريقه رأى نحلة هائلة رائق منظرها تحوم في فرح بينما داست قدماه ذكر نحل صريعا، كان قبل ساعات قليلة منتشيا ببهجة اللقاء الحميم.

          ( 8 )
          جلس بين النور والظلام يتابع رحيل الشمس إلى بيتها الآخر الذي بنته في النصف الثاني من المجرة. حين انجرح القرص الذهبي، وتدفق الدم إلى أطرافه، انقبض قلبه بشدة، واكتسى وجهه بزرقة تحترق، لكنه كان يستمتع بالشجن العذب الذي يهديه إليه المغيب.

          هذه كانت سلوته منذ أن وقع الفراق الأليم. يرفرف حين تميل الشمس نحو الغروب، ويأتي إلى هذه الربوة التي تطل على بساط أخضر ممتد إلى البعيد، ليتابع تدحرج دائرة الضوء والدفء إلى نهايتها المؤقتة.

          حين تسقط الشمس في صندوق الليل وينغلق عليها، تخمد رفرفته، وتسح دموعه فتلسع وجنتيه، وتسكنه الغربة والألم، ويجد نفسه مشغولا بسؤال واحد:

          كيف يمكن أن يتأخر المغيب، وتبقى الشمس معلقة بدمها ساعات طويلة تنظر إليه، وتمد لعينيه وجعها وسكونها وارتعاشها الأخير؟

          لكن الأيام تمضي بلا إجابة. لا الشمس تتمهل ولو قليلا، ولا هو يغادر الربوة. ذات مرة، وبينما اليأس يأكل نفسه، وتحترق جوانحه بين الزرقة والحمرة ولا تبللها السحب المتزاحمة على مساحات الصفار التي تتآكل تدريجيا، ظهرت هي عند الأفق. كانت تبتسم فيشرق وجهها بنور عجيب راح يفيض بغزارة على قرص الشمس فيزدهي، ويبقى معلقا على أهداب المغيب كل الوقت الذي تمناه الجالس فوق الربوة يستمهل النهار.

          ( 9 )
          كان فتى يهش الدنيا بأسرها من طريقه ويمضي غير عابئ بشيء. لم يكن يكسره سوى هذا النبض المتلاحق الذي يرتجف له كيانه حين يراها، ولا يتلاشى إلا بعد أن يرسم على صفحة قلبه جروحا صغيرة، راحت تتزايد وتنحفر مع لوعة الفراق فتوجعه، لكنه يستعذبها، ويستعيدها.

          ها هو يستحضر جرحه أمام عينيه بينما القمر يحط على صفحة النيل، والدنيا سكون، والنسائم اللطيفة يهفهف لها شعره فيتناثر كروحه التي خطفتها منه في لحظة آسرة فتاة لا تشعر كثيرا بالنار التي تكوي كل جوارحه وجوانحه. اتكأ على الرمل الناعم الذي يرقد تحته في سلام، ثم بدأ يرسم عليه صورتها بهدوء، فلما اكتملت ملامحها رفع رأسه وتنهد طويلا ثم مد بصره إلى البعيد ليتابع القمر، فوجده اختفى، لكن الماء كان لايزال يتراقص ناثرا دوائر ذهبية صغيرة.

          قام من مكانه مندهشا، وقال لنفسه:

          ــ كيف يلمع الماء بينما سُرقت الدائرة الكبيرة المنيرة التي كانت تمشي الهوينى قبل قليل في زرقة داكنة مكللة بالنجوم؟

          وسمع هاتفا يقول له: استحى منها فغاب.

          تحير ولم يفهم شيئا، فطأطأ رأسه حزينا، لكن بصره انخطف فجأة حتى كاد يذهب، ثم ارتد إليه بعد برهة، وسمح له بأن يرى ما جرى. كان الوجه الذي رسمه على الرمل يشع نورا دريا لم ير له مثيلاً من قبل، وراح يرسل شعاعه عبر النسيم ليداعب الماء المسافر إلى حيث تعيش هي في مدينة تبعد عن مكانه مئات الأميال.

          ( 10 )
          كلما ذهبت إلى الصيد يرتسم وجهها الساحر أمامي على صفحة الماء، فألملم شصي وأعود بلا زاد.
-------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

عمار علي حسن*