عشر أساطير للهوى (قصة قصيرة)
عشر أساطير للهوى (قصة قصيرة)
( 1 ) ورميت بصري فلم أجد الشبحين المتعانقين. مشيت متمهلا إلى مكانهما فوجدت ورقة صفراء ربما سقطت من كتاب قديم أثناء قيامي على عتبة المساء بترتيب مكتبتي العامرة بألوان شتى من المعارف. فتحت الورقة، فلما بانت حروفها وجدت نفسي أصرخ: ياااااه. وكان هذا أقل ما يمكن أن يفعله عاشق مكسور جلس وحيدا قبل ربع قرن ليكتب ما تخيله من حوار مع فتاة يقف أمامها ليعترف لها بحبه الجارف، لكنه مضى دون كلمة، وبقيت هذه الورقة التي تغالب الزمن شاهدة على جرحه الذي لا يندمل أبدًا. ( 2 ) لم أدر إلا وأنا أجري إلى حافة البناية، لأقف عليها وأصرخ من جديد، لكن لا مجيب. رفعت ذراعي وفتحت كفي ولوحت لها وكأني أودعها، لكن ضحكتها اختفت وانقبض وجهها الذي أشرق في خيط شعاع يقاوم غبش السحب الثقيلة. وجدت نفسي أمد ذراعيَّ، وأرفرف بكل أصابعي، ثم قفزت طائرًا إليها. ( 3 ) جمعتها ورصصتها حتى صارت كومة من الأزاهير الزرقاء والحمراء التي تتراقص في ريح المساء البارد المسافر إلى غربتي. انكمشت أمام اللهب وتهادى إلى أذني لحن من الزمان الأول، طالما سمعته بين رحيل يوم ومجيء آخر وقبل أن أغفو لأستقبلها في أحلامي. مددت يدي فشعرت بدفء ناعم كاد يسكرني. راق لعيني اختلاط الأزرق بالأحمر كامتزاج دمي بالسماء التي تحفظ وحدها سر العشق ولا تهبه لنا نحن المجذوبين بكل كياننا إلى المجهول. حملقت في كومة اللهب التي كانت تتصاعد وتبلع دخانها في بطنها المستعر، فرأيت يدين ناعمتين كأوهامي العابرة راحتا تلملمان النار من أطرافها، وتصيغانها على هيئة شيء لم أتبينه للوهلة الأولى، لكنها تجلت لعيني بعد قليل وردة حمراء سابحة على صفحة رائقة، راحت ترتفع رويدًا رويدًا، ثم رفرفت، فرفعت يدي ورفرفت معها، ثم مددت أصابعي لأقطفها لكنها تباعدت إلى الأمام وإلى أعلى، فجريت وراءها، وخليت كل شيء وراء ظهري وتبعتها وأنا لا أعرف أي شيء عن الذهاب والإياب. ( 4 ) ( 5 ) كانا ذكراً وأنثى يتواعدان على أمر لا أعلمه، لكنني سرعان ما رأيت ما أجهله ماثلا أمامي. احتضان حميم ولهفة وهيام وانقطاع تام عن الدنيا بأسرها. وبعد أن فرغا مما عزلهما قليلا عن كل ما حولهما، طارا وحطا على رأس الجدار. رفعت هامتي إليهما وأنا أتدثر بشوقي إلى لقاء، فسمعتهما يقولان في صوت واحد: يزول الدفء في قسوة الهجران. ( 6 ) تلفت حولي ورحت أمرر كفي على ثيابي البيضاء، وألملم حبات الشوق التي تتناثر على كتفي، وأبتسم للنسوة اللاتي يتحلقن حولها تطمر رؤوسهن نشوة وافتتان فيرقصن ويصفقن ويصدحن بأغنيات لم أسمعها من قبل. رفعت هامتي متطلعا إليها فرمت ومضة من سحرها الأخاذ نحوي، فهممت تجاهها متقدما على بساط من حرير أخضر. وحين لم يبق بين يدي ويدها سوى قبضة نسيم واحدة، انتفضت النسوة وشبكن أيديهن، وتلاحمت أجسادهن لتصنع جدارا سميكا فحجبوها عني. فجأة أخذن يدفعنني بقسوة وأنا أجاهد لألقي نظرة أخيرة عليها من دون جدوى حتى سقطت على ظهري وانغلق الباب. نظرت حولي فلم أجد سوى ريح تزعق وأرض بور. انكسرت رأسي على صدري وانهمرت دموعي. كل قطرة كانت تثقب قطعة من ثيابي فانكشف بعض لحمي وكل حزني. قمت ورحت أضرب الباب بقوة فوجدته صار حجرا مسنونا، وانبجس الدم تحت خطواتي التي أخذتني بعيدًا. سرت في طريق راح يضيق وينزلق إلى أسفل حتى وصلت إلى حفرة عميقة نبتت على جنباتها أزهار يتساقط من بتلاتها ملح وينبعث من بين أعوادها لحن شجي. صمت اللحن فسمعت أنينا. دققت النظر فوجدتها واقفة وقد تهدل شعرها ونام على الزهر، وذهب عن وجهها الشمس والقمر، وحلت ظلمة داكنة. فلما رأتني صرخت بكل ما أوتيت من قوة: ـ خذني. مددت يدي ورفعتها وعلى رأسها ثلاث زهرات وقطعة ملح وفي فمها بقايا لحن. فلما صارت أمامي احتضنتها بشوق جارف، والتقطت النغمات الساكنة على شفتيها، ثم أخذت يدها وهممت سائرا فوجدت أن الطريق قد انقطع، وبان أمامي وكأنه جسر ناقص معلق في الهواء. درنا وقلنا نعود نحو البيت الكبير الموصد، فوجدنا النسوة قادمات وقد فككن شعورهن، وعلى وجوههن غيظ ورغبة في الانتقام، وفي أيديهن حبال غليظة ومجامر تطلق دخانها فتضيع الرؤية ويموت الطريق. حين كان بيننا وبينهن ذراع واحدة احتضنتها من جديد، ثم قفزت بها إلى أعلى متسلقا شعاع الشمس التي غمرت المكان، دون أن يدري كلانا إلى أين نذهب؟ وكيف نعود؟ ( 7 ) في طريقه رأى نحلة هائلة رائق منظرها تحوم في فرح بينما داست قدماه ذكر نحل صريعا، كان قبل ساعات قليلة منتشيا ببهجة اللقاء الحميم. ( 8 ) هذه كانت سلوته منذ أن وقع الفراق الأليم. يرفرف حين تميل الشمس نحو الغروب، ويأتي إلى هذه الربوة التي تطل على بساط أخضر ممتد إلى البعيد، ليتابع تدحرج دائرة الضوء والدفء إلى نهايتها المؤقتة. حين تسقط الشمس في صندوق الليل وينغلق عليها، تخمد رفرفته، وتسح دموعه فتلسع وجنتيه، وتسكنه الغربة والألم، ويجد نفسه مشغولا بسؤال واحد: كيف يمكن أن يتأخر المغيب، وتبقى الشمس معلقة بدمها ساعات طويلة تنظر إليه، وتمد لعينيه وجعها وسكونها وارتعاشها الأخير؟ لكن الأيام تمضي بلا إجابة. لا الشمس تتمهل ولو قليلا، ولا هو يغادر الربوة. ذات مرة، وبينما اليأس يأكل نفسه، وتحترق جوانحه بين الزرقة والحمرة ولا تبللها السحب المتزاحمة على مساحات الصفار التي تتآكل تدريجيا، ظهرت هي عند الأفق. كانت تبتسم فيشرق وجهها بنور عجيب راح يفيض بغزارة على قرص الشمس فيزدهي، ويبقى معلقا على أهداب المغيب كل الوقت الذي تمناه الجالس فوق الربوة يستمهل النهار. ( 9 ) ها هو يستحضر جرحه أمام عينيه بينما القمر يحط على صفحة النيل، والدنيا سكون، والنسائم اللطيفة يهفهف لها شعره فيتناثر كروحه التي خطفتها منه في لحظة آسرة فتاة لا تشعر كثيرا بالنار التي تكوي كل جوارحه وجوانحه. اتكأ على الرمل الناعم الذي يرقد تحته في سلام، ثم بدأ يرسم عليه صورتها بهدوء، فلما اكتملت ملامحها رفع رأسه وتنهد طويلا ثم مد بصره إلى البعيد ليتابع القمر، فوجده اختفى، لكن الماء كان لايزال يتراقص ناثرا دوائر ذهبية صغيرة. قام من مكانه مندهشا، وقال لنفسه: ــ كيف يلمع الماء بينما سُرقت الدائرة الكبيرة المنيرة التي كانت تمشي الهوينى قبل قليل في زرقة داكنة مكللة بالنجوم؟ وسمع هاتفا يقول له: استحى منها فغاب. تحير ولم يفهم شيئا، فطأطأ رأسه حزينا، لكن بصره انخطف فجأة حتى كاد يذهب، ثم ارتد إليه بعد برهة، وسمح له بأن يرى ما جرى. كان الوجه الذي رسمه على الرمل يشع نورا دريا لم ير له مثيلاً من قبل، وراح يرسل شعاعه عبر النسيم ليداعب الماء المسافر إلى حيث تعيش هي في مدينة تبعد عن مكانه مئات الأميال. ( 10 )
|