قصص على الهواء

 قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

-------------------------------------------

  • «ح الصول» شوكت المصري - مصر

          تتميز بقدرة الكاتب على استخدام أسلوب مثير للعرض، مع وصف دقيق للشخصية الرئيسة، سواء المظهر الخارجي أو التقلبات النفسية، والمعرفة بإجراءات التوقيف والسجن، استطاع الكاتب التعبير عنها بحذاقة، مع الاحتفاظ بالتشويق اللازم من خلال توتر صاعد يختتم بمفاجأة تعكس التوقعات، فالصول حامي القانون، ينتهك القانون.

  • «العجوزان» أيمن عبد السميع حسن حسين - مصر

          تتمحور القصة حول الساعات الأخيرة لعلاقة حب جمعت بين زوجين ودامت طوال حياتهما المشتركة، من خلال مشهدين: الغروب والليل. هل الشعور بالنهاية هو الذي حضهما على استعادة الأيام الخوالي عندما كانا يهنآن بحبات البطاطا الساخنة، أم في ملاحظة الزوجة ندرة السيارات في الشارع أيام زمان، إشارة إلى أن الزمان لم يعد زمانهما، وما ينتزعانه من سرور لن يدوم، متنبئة أن كثرة السيارات ستكون سبب موتهما؟ ومهما يكن، فقد أحال الكاتب نهايتهما المأساوية متشابكي الأيدي إلى لحظة عشق أبدية.

  • «طيف في الذاكرة» ألحان الجردي لبنان

          كان في ما تخفيه هذه القصة وما تكشفت عنه خاتمتها براعة تحسب للكاتبة، من خلال التعبير عن فكرة تؤرقنا، ترى ما الذي يفعله الزمن فينا؟ القصة مواجهة مع الذات وما يصيب أرواحنا من تشويه، حتى أصبحنا نجهل أنفسنا، وبحاجة للتعرف إليها. فعل الزمن لم يفلت الجسد من قسوة تداعياته. ولم يُبقِ مما كنا عليه، إلا طيفًا في الذاكرة.

  • «ولد من جديد» محمد المشعل - العراق

          يقتبس الكاتب من المرويات الشعبية توبة، أفاق من لصوص الليل، يؤنبه ضميره، فيتمنى لو يسلك طريق الصلاح، تتهيأ له فرصة فيغتنمها، يعطف على امرأة منكودة الحظ، فيساعدها، ويعيد إليها احترام الزوج والمجتمع الذي تعيش فيه. حياتها تتجدد، وحياته تبدأ من جديد. لا شك في أن العبرة جميلة في القصة: عندما تنقذ الآخرين أو تساعدهم، فأنت تنقذ نفسك وتساعدها.

  • «عندما كُفنت حيًا» شوقي صلاح أحمد - السودان

          لا تستمد هذه القصة تميزها من طرافة الفكرة فقط، بل من واقعيتها أيضًا. فغرابتها في أنها حدثت حقيقة، فكانت مضحكة رغم ما تشيعه من كآبة. يذهب الراوي إلى الصلاة في المسجد، يستلفت انتباهه شيخ إمام يريد أن يعلم المصلين تكفين الميت، وكأنها حادثة قد تضطر الظروف أي شخص للقيام بها، المثير أن حظ الراوي سيكون الحي الذي سيجري تكفينه.

----------------------------
ح الصول
شوكت المصري - مصر

          لا شيء يجذب انتباهك في هذا الوجه المتجهِّم العابس أكثر من الشارب الأصفر المعقوف من طرفيه للأعلى، ولا شيء يمنعك فورَ رؤيته صباحًا - وهو يفتح باب الزنزانة للنداء على المطلوبين للعرض - من تذكّر صورةٍ ممسوخةٍ مقلّدةٍ لعشماوي المرسوم في ذهنك حتى ولو لم تره مطلقًا. وجهٌ عابسٌ تملأه التجاعيد، لا يكف صاحبه عن مناوشة المارين في حوش المركز من الضباط والأمناء والأفراد بل وحتى الزوار والمتهمين، وكلما ناوش أحدَهم بثقل ظلٍ لا يُحسد عليه؛ تشقق وجهه المتجهم عن ضحكةٍ مفزعة ينفتح معها فمُه الواسع لتتبدى أسنانه المتخالفة المصبوغة بالقطران، التي تلمع فوقها قنطرةٌ نحاسية استبدلها بقواطعه الأمامية العلوية، بعد أن سقطت بفعل التسوس والتقدم في العمر، ضحكةٌ كلما انفجرت تمنيت عبوس صاحبها الدائم حتى لا تراها فتفزعك مرات أخرى.

          إنه «ح الصول فرحات» أحد أقدم أفراد الأمن في المركز، قامةٌ فارعة وانحناءةٌ يغالبها كبرٌ وغطرسةٌ شاخت، ملابس مهندمة أوهنها الكيُّ بعنايةٍ لسنواتٍ وسنوات، كأنه أركان حرب أخطأتْهُ الظروف واستثناه القدر من كشوف محظوظيه، فحاول مغالبته متشبثًا بما أراد أن يكون.. لكنه لا يستطيع.

          حينما رأيته لأول مرةٍ وهو يقطع «حوش» المركز صارخًا بصوته الأجش في الجميع، ظننته مندوبًا عن إحدى الجهات الرقابية التابعة لوزارة الداخلية التي تضطلع بالتفتيش الدوري على جهاز الشرطة، لكنه جاء بعد دقائق حاملًا «الكلبشات» ليضعها في إحدى يديَّ قائلًا: «أنا الحراسة اللي معاك للنيابة».

          صعدنا عربة الترحيلات، ولم يَكُف «ح الصول فرحات» لحظةً عن الحديث مع المتّهمين شارحًا آراءه القانونية التي يظنها سديدة - عن المحاضر وأذون الضبط والأحراز وشروط الحبس الاحتياطي وقرارات النيابة والمعارضات وطبيعة القضاة وقُدرات المحامين والثغرات القانونية المختلفة.. خبيرٌ متفرِّد وحُجَّةٌ قانونية اكتفى من التعليم بفك الخط والتوقيع المضني بالقلم، لكن «إحنا بنفهم أجدعها من أجدع محامي نقض يابيه.. بس الحظ بقه»، هكذا قال لي وهو يحاول تفسير دهشتي وأنا أنظر إلى وجهه بتمعنٍ واستغراب.

          تكررت رحلاتي بين ديوان المركز وسراي النيابة، ويبدو أن "ح الصول فرحات" كان قَدَري الذي يلازمني وأحلم بالتخلص منه أكثر مما أحلم بالبراءة، لكنه كان على النقيض مستمتعًا بمرافقتي وإصغائي الدائم له وتحريك رأسي الذي ظنّه إعجابًا بكل رأي يصدره أو أي فتوى ينطق بها، ويبدو أن إحساسه بأن شخصًا متعلمًا مثلي يرافقه بدلًا من معتادي الإجرام وأصحاب السوابق قد أرضى غروره، إلى درجة أنه كان يدعو لي دائمًا من وراء قلبه - بالبراءة والخلاص.

          ومع الوقت بدأ «عم فرحات» يوقن في لا جدوى دعائه لي، ويوقن أكثر في عدم إمكان هروبي منه، ليس لأنني أثق في العدالة، وإنما لأنني «مش وش بهدلة» على حد تعبيره، وبالتالي فإن «عم فرحات» لم يعد يشدِّد الحراسة علي بطريقةٍ لافتة للنظر، بل إنني لاحظت مع الوقت تعمده الدائم إغرائي بمحاولة الهروب عبر إشارات يظنها لسذاجته غير مباشرة، تعمُّدٌ جعل الشك والريبة من تصرفاته يتسللان إلى قلبي، واستنتجت مع الوقت أن هذه التصرفات ربما كان وراءها خطةٌ مدروسة رتَّبها ضابط المباحث بعناية مع «ح الصول فرحات»، حتى إذا سوّلت لي نفسي أمرًا نجح «فرحات» في الإمساك بي وحصل كلاهما على صيدٍ ثمين، ففرحات سيحصل على علاوة وربما ترقية، وضابط المباحث سيحصل على توريطي في قضية لا سبيل للفكاك منها، والانتقام مني جراء شكاواي التي اتهمته فيها بالتورط في وقائع فساد ورشوة وعلاقات مشبوهة بتجار مخدرات وسلاح. لكنني خيّبت أملهما مرّاتٍ ومرّات، خاصةً "عم فرحات" الذي قارب على سن المعاش، وما زال صدر بدلته الرسمية الواهنة خاليًا من أي أوسمةٍ أو نياشين من تلك التي كان يحلم بها دائمًا.

          فَقَد «عم فرحات» الأمل فيّ وفي هروبي كليّةً، وبدأت لا أراه مرافقًا لي لأسابيع متتالية، وفي صبيحة يومٍ من الأيام، رأيت طاقم حراسةٍ يخرج من سجن التحفظ (الخاص باحتجاز رجل الأمن)، وبينهم رجلٌ مقيَّدٌ يرتدي جلبابًا أزرق اللون يخفي وجهه عن الجميع في انحناءةٍ مخزية، وحينما اقترب وجدتُهُ «عم فرحات» وجهٌ شديد الشحوب وشاربٌ متهدّل الأطراف ورأسٌ حاسرٌ يتوسّطه صلعٌ كان «الباريه الميري» يخفيه، سألت الصول المكلّف بحراستي عما يحدث؛ فهمس في أذني: «عمك فرحات مقبوض عليه في قضية قتل.. الكِبْر وِحِش»، أصابتني الدهشة والسكون للحظات، وعرفت فيما بعد أن «فرحات» قتلَ شقيقَهُ خطأً حينما كانا يتعاركان مع جيرانهما على أسبقية استخدام ماكينة الري المشتركة بينهم.. صعدت عربة الترحيلات، وألقيت السلام على من فيها من العساكر والمتهمين، ردوا عليّ جميعًا السلام، ما عدا «ح الصول فرحات» الذي ظل مطرقًا إلى الأرض في مرارةٍ ووجوم.

----------------------------
العجوزان
أيمن عبد السميع حسن حسين - مصر

          حين زحف الغروب بغشه الذي تتداخل فيه الأشياء ..

          كان قرص الشمس الأرجواني يحتضر .. يميل إلي الذبول.. يلامس حافة الأفق البعيد .. السماء كانت حُبلي بقطع السحب المتناثرة.. نلمح السيدة(ش) تجلس وحدها في الردهة الجميلة الواسعة.. هي خمسينية العمر.. بشرتها هادئة السمرة تشبه لون الليل الهادئ.. تجلس علي (الانترية ) القطيفة .. يتعلق بصرها برفيق عمرها السيد (س) .. كان يرتدي (البالطو الكاكي) في الغرفة المواجهة لها.. عيناها العجوزتان مشدودين إليه , تحدقان فيه.. .جلده غامق مشدود , وشعر رأسه اشتعل الشيب فيه.. كان السيد (س) يعيش حياته بالطول والعرض.. متفتح الحواس.. طيب السريرة.. مرهف الحس.. يحمد الله وكفي.. تتجسد في نظراته الصلابة والحنو في آن واحد.. إنها حكمة السميع العليم وإرادته أن يعيش بدون (خلفة). وقف السيد (س) أمام المرآة يرجّل شعره, وبصره الضعيف يري وطنه عبر النافذة الزجاجية المتسخة.. ..

          لا زال المكان يحمل عبق التاريخ.. هي حارة سد طويلة ذات منحني حاد.. تزخر بباعة الخضار وعربات اليد .. الأصوات عالية.. ويتضاءل فيها عواء السيارات، تحت نداءات الباعة الجائلين وفي الخن الصغير من الحارة، تقف متأملا ً .. تتهافت العيون في شبق بهفهفات كهرمان السبح المعلقة علي واجهات المحلات الصغيرة.. من آن لآخر تحتويك الزحمة الخانقة بين حناياها.. ويتفصد منك العرق.. أخذت وقدة الشمس تنكسر رويداً, وتهب نسمة طرية .. يتمايل علي أثرها (شواشي) شجر(البنسيانا) المبعثر في الخلاء من الناحية الخلفية لبنايات الحارة المتلاصقة..

          اقترب السيد(س)) من زوجته الجالسة وابتسم , فتورد وجهها, فنهضت وتحركت يدها- المعروقة -؛ لتتحسس فوديه .. تمسح علي خديه بحنو العاشقين. تمتم السيد (س) بكلمات مرتعشة .. ضمها بذراعيه ..

          ولثم جبينها:

          ** هيا يا رفيقة العمر.. فالعمر يجري..

          فتمادت في ابتسامتها ونهضت, ورفعت شعرها المرسل إلي الخلف ؛ ليكشف استطالة وجمال رقبتها رغم التجاعيد.. وانشغل الزوج باختيار المفردات المناسبة .. وجد أن الفرصة مواتية ليمتدح جمالها, وليطلب منها أن تفعل ذلك كل يوم.. بدأ نزيف أصوات الباعة الجائلين يتباطأ شيئاً فشيئاً, عندما وقف الشيخ (رمضان) مشرئباً برقبته الطويلة ينادي بأذان المغرب.. يتردد صوته الشجي .. يملأ أركان الحارة.. راح (السيد (س) يهفو إلي السيدة (ش) .. كانت الابتسامة لا تفارق سحنته التي شاخت..

          وقال مبتسماً:

          ** أين تريدين الذهاب الليلة يا (ش) ؟

          ** يكفيني الجلوس معك يا(س) علي حافة النهر.. نتسلى بحبات البطاطا الساخنة , كما كنا أيامنا الخوالي..

          تناول السيد (س)عكازه (الأبنوسي) المعلق بجوار صورة لطفل يبتسم.. وخرج خلف زوجته.. يتغزل في مشيتها علي درج السلم..

          (2)

          المشهد / ليل/ خارجي/

          لقطة كبيرة عن قرب لرأسين ملتصقتين كأنهما قباب صغيرة..

          شعاع النور الصادر من أعمدة الكورنيش .. والإسفلت في الشارع يتلألأ تحت أضواء لمبات الصوديوم الضخمــة .. يرتفع عواء السيارات .. سرعتها رهيبة .. وكأنها هاربة من مطاردة مرعبة.. قالت السيدة (ش) بفم سقطت أركانه وهي تقبض علي حبات البطاطا الساخنة المملّحة تلتهم بعضها :

          ** أتتذكر يا (ش).. عندما كنا في الماضي.. تتهافت أبصارنا في هذا الشارع- بالذات- لرؤية سيارة فين و فين.. . !! ..

          أخذ الزوج نفساً عميقاً وصمت.. وهز رأسه..

          وبعد ما يقرب من ساعة..

          راح السيد/س والسيدة / ش .. يتمشيان ببطء.. وأخذ يعبران الشارع يستند كل منها علي الآخر .. يقبضان علي كفي بعضهما بحنو زائد .. ((وكأنهما يتشبثان بالحياة))!!

 

          (3)

          المشهد / ليل خارجي/ الكادر فارغ تماماً.. .. .

          اقتحم الليل سكون الشارع.. لقد زاد المطر علي فجأة .. واخذ يمزح علي سطوح البيوت الآيلة للسقوط.. وقتها كان زجاج الحياة مغبراً.. . تقف بجوار كابينة تليفون (مينا تل) سيارة (الأسعاف الطائر البرتقالية) يصدر عنها صوت (سارينة) متقطعة.. وهبط منها شابين في ذي المسعفين .. وراحت أيديهم المقفرة تجمع أشلاء(السيد/س والسيدة / ش) في أكياس حمراء ..

          وقف أحد الشابين .. وتعملقت الحرارة في جسده.. واجتاحته قشعريرة ورعشة في داخله.. سقط فكه وتجمد.. و راح يبكي بحرقة.. حتى تدلى مخاط أنف.. فقد لمح - من ضمن الأشلاء المتناثرة علي صفحة الأسفلت - كفين عجوزين .. يقبضان علي بعض في

          حنوِ زائد ((وكأنهما يتشبثان لما بعد الحياة))!!

----------------------------
طيف في الذاكرة
ألحان الجردي لبنان

شعرتُ برغبة ملحّة لرؤيتها، وكأنّ شوقاً في داخلي بلغ مرحلة الغليان، تساءلتُ للحظات لماذا انقطعتُ عن رؤيتها طوال تلك الفترة؟

          لم يتبلور في ذهني جواباً واضحاً رغم مرور شريط طويلٍ من الذكرياتٍ في بالي، شريط مزدحم بأمورٍ لا تعدّ ولا تُحصى بدايةً من الزواج والدراسة ثمّ العمل والمنزل وصولاً إلى الأطفال وتربيتهم، إلا أنني لم أجد سبباً حقيقياً ليكون حاجزاً بيني وبين رؤيتها والنظر إليها، سوى انغماسي الشديد بجميع تلك الأمور.

          سَرَت رعشة بداخلي عندما فكّرت بالوقت الذي انقضى دون أن ألمحَ طيفها.

          مشيتُ نحوها بتباطؤ، لم أستطعْ فهمَ الخوف الذي تملّكني، وقفتُ قُبالتها فتسارعت خفقات قلبي حتى صرتُ أسمعها كما لو كانت قرع طبول مُرعبة.

          قلتُ بعدَ دقائق من الصمت:" أحقاً هذهِ أنتِ؟"

          لم أسمع منها جواباً بل حدّقَت إليّ بعينين زائغتين كأنها لا تعرفني.

          تكلّمتُ بانفعال:" كيف تغيرتِ إلى هذا الحد؟"

          قابلتني مرةً ثانية بصمتها الثقيل، ولاح الرعبُ من نظراتها.

          هتفتُ بتعجّب:"هل فقدتِ ذاكرتكِ فلم تتعرّفي عليّ؟"

          نظرتُ إلى شفتيها المُطبقتين، وبانت لي عيناها تلمعان ببريق الحيرة، عندئذٍ صرختُ بوجهها وقد تملّكني الغضب:" كيف أمكنكِ أن تنسيني؟ لم أغبْ عنكِ دهراً، إنها سبع سنوات، وماذا حدثَ لكِ؟"

          تمعّنتُ بتفاصيل وجهها وقلتُ دون كلام:" أين اختفت بشرتها الصافية وحُمرة خدّيها؟ ومن أين أتت هذه الخطوط التي عكّرت صفاء وجهها النضر؟ وكيف تحوّل اللون الورديّ إلى شحوب؟"

          كنتُ أميل برأسي عنها لأنظر نحو النافذة عندما لمحتُ شعيرات بيضاء غَزَت عتمة شعرها الحالك، صرختُ من غير أن يهتزّ الصمتُ المُهيمن على جلستِنا:" يالهول ما حلّ بها، لا أصدّق أنّ سبع سنوات تكفّلت بإزالة جمالها المُبهر وأنزلتها عن عرش الفتنة لتصبح إمرأة عاديّة"

          لاحظتُ مُذ وقعت عيناي عليها أنّها فقدَت رشاقة جسدها الذي عهدتهُ ساحراً وكأنهُ تمثال منحوت على يدِ نحّاتٍ ماهر.

          شعرتُ في تلك اللحظة أنّه عليّ رؤيتها عارية، يجب أن أرى مدى التغيير الذي حلّ بالجسد المثاليّ الذي أذكره جيداً، ولكن كيف لي الجرأة لأفعل ذلك؟

          باتت غريبة عنّي لم تعد المرأة التي حفظتها عن ظهر قلب، رغبتُ لو أنها تقول لي أنها مازالت الشخص ذاته وأنّ الصلة العميقة التي تربطنا لا يمكن للزمن أن يؤثّر بها، ليتها تطلب مني عدم السماح لاختلاف مظهرها أن يُشعرني بالغرابة، تمنّيتُ أن تأمرني بالإقتراب وإزالة الحواجز.

          رحتُ أسترجع في مخيّلتي العلاقة الحلوة التي جمعت بيننا وكم كانت مُريحة ومليئة بالرضا فيما مضى، لم يكن من الممكن لأيّ شيء في العالم أن يخلق حاجزاً بيني وبينها ويجعلني أخاف مواجهتها، كنتُ كلّما نظرتُ إليها شعرتُ براحةٍ لا مثيل لها، وملأ قلبي السلام والهدوء.

          أحسستُ أنّ ساقيّ ترتجفان، جلستُ على مقعدٍ قريب، وعدتُ بعد دقائق لألتفتَ نحوها فرأيتها جالسةً وكأنّه توجّب عليها أن تفعل مثلما فعلت.

          مرّت ساعتان من المناورات والصّمت والكلام، علمتُ أنّه يجب علينا أن نتخطّى الحاجز الذي لم نحسب لهُ حساباً، ورغم شعوري بالخوف إلا أنني أدركتُ أهمية إعادة التواصل الجميل الذي جَمَعَنا.

          بدأتُ أزيلُ ثيابها بسرعة وكأنني أودّ الإنتهاء من تلك المهمّة كي أرى الحقائق بوضوح.

          عَلِقت نظراتي بذلك الجسد الغريب الخالي من الفتنة.

          فجأة بدأت الرؤيا تصبح مظلمة، لم أشعر سوى أنني أمسكت بقطعة ثقيلة من المعدن وُضعت على المنضدة ورميت بها نحو المرآة التي تناثرت على الأرض، ورحتُ أصرخ :" لا، هذه ليست أنا".

----------------------------
ولد من جديد
محمد المشعل - العراق

          أما آن لكَ الأوان كي تتوب عن أفعالك؟

          (ولك حرام).. .

          تعساً لك فأن مصيرك إلى الخسران .. يُحدث نفسه وهو على صهوة جواده .. .

          يجوب القفار يبحث عن طريدة يعود بها من حيث أتى، أو يبقى على حاله هذه حتى يرخي الليل بعتمته فيسدل أبواب الجفون بطيات نعاسه الا هو فجفناه لا يغمضان،عندها والناس نيام يثبُ عليها فيحصد غلتهُ كما يفعل كل ليلة .. .

          يعود بغنيمته التي يتأملها أياً كان شكلها ؛ فتخنقه غصة سلبها من أهلها .. .

          يخور كما الثور، يضرب على صدره براحة يده، يَعضُ على أصابعه ندماً لفعلته، لكنه في اليوم التالي يعود ليفعل ما فعل في أمسه.. .

          تدور به فرسه ويدور في رأسه الم الندم، تساوره رغبة التوبة ويجدُ به الحنين لبيت يهجع فيه مع زوجة تنضج له الخبز يقاسمها وسادته، وعيال يدورون حوله تعلو ضحكاتهم تُبَلسِمُ أي جراح.. ..

          على مشارف إحدى القرى.. .

          البيوت متباعدة عن بعضها .. .

          بدأت قطعان الأغنام ورعاتها بالرواح من المراعي .. .

          أي البيوت يختاره ليسطو عليه هذه الليلة ؟.. .

          رسم خطته بعد أن كمن عن قرب لبيت يقع أقصى القرية في الجهة الشرقية حيث الطريق يعود به إلى المراعي فلا يستطيع أحدٌ إقتفاء أثره.. .

          تسللَ بعد إنتصافِ الليل وأخذ يقترب من البيت، يقترب أكثر مازال هناك صوت فالنوم لم يزر ساكنيه بعد .. !

          أقترب أكثر فسمع صوت كأنه (الحداء) أقترب فتحقق من الصوت.. امرأة تندب الأولاد والإخوان والأهل والعشيرة .. .

(يهود كل كّـلب لو جلجل الليل
                              وكّـلب الوالده ماهود ونام
وياغربة الخوان تهد الجبال
                              غربة مرة وخواني نيام)

          إشتد به الحزن والحنين وإغرورقت عيناه بالدموع فتدرجت دون إذن منه على خده تحفر ما تبقى بعد أربعينياته التي تصرمتْ في التيه والضلال ..

          قبض بعشره على بعضها وعزم أن ينتهي بأمره ها هنا فليس في العمر بقية وهاهي بشارة التوبة عن فعل الحرام ؛ صوتها يشبه صوت أمه ؛ كان يحبها كثيرا، يوم ارتحلتْ إلى رحمة ربها كاد أن يلحق بها من فرط حزنه عليها..

          عاد من حيث أتى، ثم وقف يحمل بيده بندقيته، ينادي أهل البيت الذي كمنه وكأنه ضيف ؛ فقد لج في خاطره معرفة قصة هذه النائحة التي سددت التوفيق له بأبياتها الحزينة..

          نادى ( يا أهل البيت) خرجت له امرأة : من هذا؟

          - أنا ضيف .

          - أهلا وسهلا تفضل يخوي.. .

          دخل البيت وإستقر حيث الضيوف فأسرعت إليه بلوازم الضيافة ؛ فعلم أنها في البيت وحدها فعزم على الرحيل فقال:

          أنا على سفر يا بنت الحلال وقد كنت مارا من هنا وسمعت صوت امرأة تندب أهلها وولدها فقررت النزول علني أستطيع تقديم المساعدة.. .

          تنهدت وهي تقول: يا وجه الخير تزوجت من أهل هذه القرية وأهلي كانوا معي وقد رحلوا بعد زواجي بأيام ولا أعرف لهم أي مكان فقد مضى على رحيلهم الآن عشرون عاما وكان لي فيهم أخ شقيق عمره عشرون عاما، وأم وأب كبار لا أعلم أن كانوا على قيد الحياة أو فارقاها، وأني لا ندبهم صباح مساء.. ..

          زوجي قد تزوج عليّ وقد ولدت منه بنات زوجهن جميعا.. ومن يومها هو لا يقيم لي وزنا لأني بلا أهل أو عشيرة، يقيم ليالٍ عند زوجته الأخرى وواحدة عندي .. ..

          - وهل يعرف زوجك وقريتك أخوك؟

          - لا يعرفونهم فقد مضى وقت طويل على رحيلهم.. .

          قال لها والدمع يدور في عينيه كما الماء في الساقية أنا أخوك وغداً سوف أطل عليك عندما ترفع الشمس .. .

          ودعها بعد أن عرف أسمها وأسم أخيها، وتفاصيل حياتهم..

          أشرقت الشمس ومعها أشرق الأمل بنفسها وهي ترقب الطريق بين فرحة وحزن، فرحة بعزها العائد مع زوجها وحزن بغياب أخوها وأهلها .. .

          إرتفع النهار وقد أقبل الفارس على جواده يطلق النار من بندقيته في الهواء.. .

          فزع أهل القرية على صوت الرصاص وأخذوا يهرعون صوبه .. خرج صاحب البيت وخرجت تقف إلى جانبه ؛ لقد صدق الرجل في وعده .. .

          اقترب وصوت الرصاص معه يقترب والناس إليه ينظرون .. .اقترب فأنكس بندقيته وأخذ يردد أبياتاً من الشعر تحاكي الأبيات التي سمعها ليلة البارحة :

          (أرجع ليا بيت لوجلجل الليل ياخيتي لو جلجل الليل لوجلجل الليل) ..

          سمعته فاختلط نشيجها بزغرودتها فأقبلت إليه تنادي أخي أخي وارتمت على مركب جواده تقبلها .. .

          نزل قبَلَ جبينها وقبَلَتْ يديه وصاحب البيت مذهولٌ متسمرٌ في مكانه يلتفت إلى من حوله ليقول لهم أنه أخوها أخوها.. ..

          بقي عندهم ثلاثة أيامٍ معززاً مكرماً، أسترجع لها حقوقها وضمن لها مكانتها، وأوصى بها زوجها وكبير العشيرة .. ..

          عند الرحيل ... قدمتْ إليه جواده فأنهمرَ الدمع من عينيه عند رؤية دمعها وهي تشكرهُ على معروفه فمسح بيده دمعها وكفكف بالأخرى دموعه وقال لها:

          لا تشكريني لأني أعدتُ إليك ما كان مسلوبا منك بل أنت من تستحقين الشكر ؛ لأنكِ أحييتني من جديد.. .

----------------------------
عندما كُفنت حيًا
شوقي صلاح أحمد - السودان

          صباح رمضان، الجو بارد ليس كعادته الغمام يملىء السماء، سحابتان تتجهان لبعضهما استعدادا للحرب والصواعد والرعد، ربما ستمطر بعد قليل، تذكرت انى اريد ان اذهب الى المكتبة اليوم، فهذا الجو المريح يجب ان يغتنم فيما يفيد فى الطريق اليها - جنتى فى الارض اعنى المكتبة كانت تتناوشنى العديد من الافكار، اى كتاب ساقرأ، متى ساكمل القصة القصيرة التى بدأتها، كيف ستكون حالة الجو بعد فترة ؟؟؟ و العديد من الاسئلة من هذا القبيل، كل ما توقعته هو أن تاتى الامطار بعد حروب طاحنة بين السحب، فى حقيقة الامر ما دار بخلدى ماذا ساجد فى انتظارى.

          ترجلت من الحافلة عند المركز التجارى الكبير (مول ) فقد تغيرت درجت الحرارة فجاءة ربما عقدت اتفاقية سلام بين السحب، درجة حرارة قاربت (40) درجة مئوية يا سبحان مغير الاحوال من حال الى حال فهذا شىء طبيعى فى شهر اغسطس من فى فصل الخريف، سماء الخرطوم لعوب كثيرة الدلال وغدارة، ترسل المطر علينا مدرارا ثم تحرقنا الى هذه الدرجة، لو كنت اعلم ما خرجت الى المكتبة، ولكنت اكملت قصتى القصيرة فى البيت.

          المسافة الى المكتبة غير قريبة من المركز التجارى، لكن لاباس يجب تقديم بعض التضحيات، فرمضان شهر التضحيات.

          السلام عليكم يا استاذ : هذا ما قاله امين المكتبة

          عليكم السلام ورحمة الله،كيف الحال مع هذا اليوم المتقلب، اوله رحمة واخرة لهيب من النار : هذا ما قلته لامين المكتبة .

          لا بأس يغفر الله لنا فى هذا الشهر، المكتبة باردة ومكيفة، لا نحس بشىء من امطار الخارج او حر الشمس، فالمكتبة جنة الله فى الارض : هذا ما قاله امين المكتبة .

          يا سيدى انت دائما فى الجنة، تتحاور مع السابقين كيفما شئت، ولا تقدم الكثير من التضحيات من اجل القراءة : هذا ماقلته فى نفسى .

          دخلت اليها وكانت كما توقعت جنة فى الارض كأنك دخلت عالم غير الذى كان، بارد ايما برودة، حتى انى توقفت عند مدخل المكتبة لبرهه من الوقت استمتاعا بهذا اللحظة الرائعة و أحاول ان اوقف الزمن فى هذه اللحظة، ربما لان الجو بارد او ربما لانى قابلت محبوباتى الكتب او ربما للسببين معا .

          بداء صراع بين مكوناتى، اى كتاب سأقرأ، اى كتاب سأقرأ، اى كتاب سأقرأ، اههههه لم استطع التحديد، واصلت المسير حتى قادتنى قدماى الى المكتبة الالكترونية، فوقع بصرى على جهاز حاسوب مفتوح، به صورة قارب فارغ به مجدافين، كأن صاحبه يستعد الى الرحيل لمكان ما، اللون الازرق فى كل مكان، حسمت امرى واوقفت الجدال فورا، لن اقرأ اى كتاب سوف اتجه الى معرفة ما وراء تلك اللوحة، نعم انها لوحة وليست صورة : هذا ما اكدته لى عيناى .

          ربما احدهم كان هنا يتصفح فى( الانترنت ) لابأس اذا جاء سوف اغير مكانى عندما يعود، لوحة جميلة، بدأت أقرأ ما كان يقرأ، ياربى، ما هذه القسوة، ربما تتسائلون ماذا وجدت، لن اخبركم .

          ربما يجب ان اخبركم، لا بأس سأخبركم : العشرات من الجثث مرمية فى قرية ما، قد انتحروا جميعا فى وقت واحد، هذه قصة حقيقية، هذا ماقيل فى هذه الصفحة الالكترونية، جماعة كانت تسمى ( معبد الشعوب) واميرهم (جيسى جونز)، تعرفون بقية القصة، فى (الانترنت) موجودة.

          المئات من الاسئلة تدور بخلدى حول الموت، حول هؤلاء الجامعة الميتين، او الميتون فاعل فهم من انتحروا، اوقفت هذا الجدال، ميتين ام ميتون، الموت ليس النهاية بل بداية البداية، هذا كل شىء.

          يا أستاذ حان موعد الصلاة الظهر، لديك فقط خمس دقائق: تعرفون من قال هذا، لا داعى ان اخبركم، نعم انه هو.

          خرجت وجهزت نفسى وذهب الى المسجد، انه قريب، فى الطريق كـأن الجو قطعة من جهنم،درجة حرارة عالية، قلت فى نفسى : ان حرب السحاب فى الصباح يفيد زوار المكتبة عند الظهر .

          عندما أكملنا الصلاة، قام رجل يخطب فى الناس، كالعادة فى كل المساجد، تذكرة أيمانية .

          اكملت تسبيحى وقمت اصلى ركعتين نافلة، فى الحقيقة انى هممت بالانصراف لكن .

          التذكرة الايمانية فيها ما بشد الانتباة، جلست مع القوم الذين يستمعون .

          (الحى بدور، والميت بدور) : هذا ما قله الخطيب باللغة الدارجة السودانية، يعنى كما ان للحى احتياجات، الميت ايضا له احتياجات .

          فتابعت باهتمام، فقد اخرج جنازة من حقيبته، يمكن ان نقول عنها جنازة لا اعلم، فهى دمية من قماش يطبق عليها كيفية غسل الجنازة، نعم تذكرة عن غسل الجنازة برنامج عملى .

          تحلق الناس حوله باهتمام وهو يعدد الخطوات الميت منذ ان يموت والى جنته الاخرى القبر او الى ناره الاخرى .

          تابعت باهتمام، لكن فجاءة قال الواعظ : (داير زول يطوع علشان نكفنوا )، يريد شخص ما ان يتطوع لأن يكون جنازة حية لزوم الدرس التطبيق العملى، الاطباء يفعلون ذلك، نعم يشرحون جثث ميته ويعلمون الاطباء الجدد فى جثث حيه، ربما هذا التعبير قوى جدا، لكنها هى الحقيقية .

          أشار لى الواعظ : ( انت يا أستاذ قوم تعال، اوع تكون بتخاف من الموت ) لقد اختارنى لان اكون الجنازة الحية، ترددت لبره، لكنى وجدت أعين الجميع تقول لى اقبل فانت المختار.

          فرش قطعة كبيرة، ثم قطعة اصغر منها، ثم قطعة ثالثة اصغر من صاحبتها السابقة، خطوت بثبات الى كفنى المؤقت، تابع الشرح، مسح عبنى بيديه وقال ( ياجماعة كدا تعمل لو حضرت الميت، شايفين )، عندما اغمض عينى حسبت انى مت بالفعل، مر شريط حياتى امامى كلها فى لحظات، عندما دخلت الى المدرسة، عندما تخرجت من الجامعة، يوم زواجى، عندما دخلت الى المكتبة، صورة القارب، نعم لقد ركبت القارب وبدأت التجديف والتجديف والتجديف، لا أعرف إلى أين.

          ربط راسى برباط وقال ( شوفوا الميت بربطوا كدا، عشان ما يكون خشمو مفتوح، شايفين يا ناس )، وربط راسى من تحت الحنك الى اعلى الراس، ثم ربط اصابع رجلى برباط قوى، لفنى بالقطعة الاولى، ثم الثانية ثم الثالثة، والناس حولى ينظرون .

          قلت فى نفسى : هكذا يكون الامر اذن، سبحان الله، انه فقط قماش ليس سوى قماش، يعطيك هذا الاحساس، فقط قماش، يجعل الناس يتكبرون على بعض الناس، فقط قماس، يستر هذا الجسد، لم احاول المقاومة، عشت هذه اللحظة، فانا محظوظ قل ما يجد هذه اللحظة العديد من الناس، قل من يعطى فرصة ثانية، فقد حفر هذا اليوم فى ذاكرتى (يوم كفنت حيا).
--------------------------------
* كاتب من سورية.

 

 

فواز حداد*