المحاكاة في فضاء الإنترنت تمثل للواقع أم سباق مع الزمن؟

 المحاكاة في فضاء الإنترنت تمثل للواقع أم سباق مع الزمن؟
        

          للوهلة الأولى تبدو فكرة عالم الإنترنت كمحاولة لمحاكاة العالم الواقعي، والأمثلة كثيرة، ففضاء الإنترنت يحاول تمثل الكثير مما يجري حولنا ليقدمه في الفضاء الافتراضي، وهناك امثلة مباشرة مثل برنامج «الحياة الثانية» Second life، الذي يحاول ان يقدم للمستخدمين حياة موازية لحياتهم الواقعية لكن يختار فيها الشخص هوية مختلفة باسم مختلف وعملاً آخر وهوايات أخرى، ربما تمثل كل ما كان يتمنى أن يفعله في الحياة ولم يتمكن. لكن المحاكاة تاخذ أبعادًا أخرى كثيرة على الشبكة الافتراضية للدرجة التي بدأت فيها بعض الأفكار تردد أن العكس صحيح وهو أن العالم الذي نحياه هو الذي يماثل برامج الكمبيوتر، فهل بالفعل هناك ما يمكن ان يثبت صحة هذا الفرض؟ بمعنى آخر من يحاكي من؟ الواقع  يقلد الحاسب الآلي أم ان الحاسب الآلي هو الذي يحاكي الواقع؟

          بداية يمكن تعريف المحاكاة Simulation، بأنها عملية تقليد لأداة حقيقية أو لعملية فيزيائية أو حيوية، تحاول ان تمثل وتقدم الصفات المميزة لسلوك نظام مجرد أو فيزيائي بوساطة سلوك نظام آخر يحاكي الأول. وهي محاولة إعادة عمليه ما في ظروف اصطناعية مشابهة إلى حد ما الظروف الطبيعية. أو كما تعرفها أفانز أند ساذرلاند بأنها نموذج تشغيل حقيقي أو نظام مقترح لعملية بيئية، تستخدم فيها شبكات الاتصالات الحديثة للوصول إلى هذا العالم الافتراضي.

          تهدف المحاكاة إلى دراسة وبناء نماذج و/أو برمجيات لتقليد نظام حقيقي قائم أو مزمع إنشاؤه، بهدف دراسة النتائج المتوقعة.ويتصل علم أو فن المحاكاة اتصالاً شديدًا بالرياضيات خاصة الرياضيات الرقمية والفيزياء وعلم المعلومات.

          هناك أمثلة للمحاكاة من مثل قيام بعض الجهات المختصة في صناعة الأسلحة، أو الجهات العسكرية بعمل نماذج افتراضية من تلك الاسلحة لاختبار قوتها في الواقع عن طريق اختبارها أولا في الفضاء الافتراضي، والأمر ينطبق هنا أيضًا على الاستراتيجيات العسكرية حيث يتم برمجة خطط مناورات عسكرية افتراضيًا قبل اختبارها في الواقع.

اختبارات المحاكاة

          كما نجد لها أمثلة قوية من مثل الاختبارات الافتراضية التي اجريت على عربة «كيروسيتي» الفضائية التي انتقلت أخيرًا إلى المريخ كروبوت آلي مهمته تصوير واكتشاف الواقع على الكوكب الأحمر. فقد بدأت عمليات دراسة تصميم العربة وفقًا لوضعها افتراضيًا في بيئة تشبه بيئة المريخ حتى تم تصميم العربة بشكل يتواءم مع الظروف الواقعية هناك.

          تشيع أنظمة المحاكاة (بالإنجليزية: Simulator) في الطيران المدني والحربي حيث يتمرن الطيارون الجدد على أجهزة محاكاة تكون صورة طبق الأصل مما قد يجري على الطبيعة. ممّا يمكّن الطيارين من التحكم في الأحوال الحرجة مثل العواصف أو عطل أحد المحركات، حيث تجعلهم وكأنهم يقودون طائرة حقيقية مع فرق بسيط هو أنه أثناء المحاكاة مسموح لهم بالخطأ الشيء الذي قد يكون مميتا إذا حدث في الواقع.

          وسنجد العديد من هذه النماذج التي تستخدم المحاكاة في برامج افتراضية تدخل في مجالات التصميم الصناعي والهندسي وغيرهما. وهي هنا تبدو عملية محاكاة تتكئ على مفاهيم التنبؤ والتوقع المستقبلي.

          وهناك أيضًا برامج أخرى افتراضية تقوم بالمحاكاة عبر تقليد خبرات حياتية واقعية وتوفيرها على الساحة الافتراضية ومثالها الأبرز مثلا برامج الألعاب الإلكترونية التي تحاكي ألعابا رياضية مثل كرة القدم، كما في برامج لعبة «البلاي ستيشن» التي تنسخ تقريبا الأجواء العامة لمنافسات الكرة العالمية بكل نجوم كرة القدم المعروفين، أو حتى استنساخ نماذج من الحروب مثل حرب الخليج، أو حتى عملية اعتقال واغتيال بن لادن على يد القوات الخاصة الأمريكية.

بين الواقع والافتراضي

          وهذه اللعبة بشكل خاص أثارت انتباه الإدارة العسكرية الأمريكية التي وجدت في اللعبة تسريبا لمخططات العملية كما حدثت مما أدى إلى التحقيق مع عدد ممن ساهموا في هذه العملية من أفراد العمليات الخاصة الأمريكية بدعوى تسريبهم لأسرار عسكرية.

          وإذا كانت النماذج الأولى تتعلق بالمستقبل ومحاولة التنبؤ به، فإن النماذج الخاصة بالألعاب الإلكترونية تحقق لونًا من استعادة الواقع، أو تعديل مساراته، إضافة إلى ما تغذيه من ألوان إشباع أحلام اليقظة لدى مستخدمي مثل تلك الألعاب والبرامج.

          وهناك مستوى ثالث من البرامج الافتراضية التي تتداخل فيها العلاقة بين الواقعي والافتراضي من مثل برامج الحياة الموازية افتراضيا مثل برنامج «الحياة الثانية» Second Life، وما يشبهه، وهي برامج تقوم على فكرة أن يستخدم الفرد هوية مختلفة عن هويته الواقعية، يختار فيها اسما مغايرا، وشكلا ووظيفة وسلوكيات يعيش بها في عالم افتراضي يختار تفاصيله، ويتعامل فيها أيضا مع شخصيات أو هويات افتراضية أخرى. وكنا أشرنا إليها هنا بالتفصيل في بداية ظهور زاوية «ثقافة إلكترونية».

          وتبدو هذه الفكرة في جوهرها محاولة للهروب من الواقع، والبحث عن واقع آخر يحلم الشخص أن يعيشه ولا يتمكن من ذلك في الحياة الواقعية. لكن المستوى الافتراضي الذي تقوم عليه هذه الفكرة كثيرًا ما يشتبك بالواقع الحقيقي حين تلتقي شخصيتان في هذا الوسيط الافتراضي وتقرران أن تلتقي كل منهما الأخرى في العالم الواقعي.

          على سبيل المثال نشرت صحيفة «الديلي ميل» قبل فترة وجيزة موضوعًا عن امرأة شابة قررت أن تدخل إلى العالم الافتراضي عبر برنامج من هذه البرامج، إثر إحباطها من تعدد فشل علاقاتها العاطفية، وقدمت نفسها بوصفها شابة نحيفة رشيقة، وتعرفت على شخصية لرجل قدم هويته الافتراضية Avatar بوصفه قائد شاحنة رياضي مفتول العضلات. وبمرور الوقت انجذب كل منهما للآخر وأحسّ كل منهما أنه وقع في غرام الآخر. وكانت المشكلة حين قررا أن يتبادلا صورهما الحقيقية، فلم تكن الفتاة نحيفة بل على العكس كانت بدينة، ونفس الأمر بالنسبة للشاب الذي لم يكن صاحب عضلات، وأحسا بالخوف، لكنهما بعد تبادل الصور واكتشاف كل منهما أن الصورة الافتراضية تختلف تماما عن الصورة الواقعية أدركا أنهما يتبادلان الحب ولم تؤثر هذه الحقيقة في انتقال علاقتهما من مستواها الافتراضي إلى مستواها الواقعي.

الماتريكس!

          مثل هذه التجارب في الحقيقة تقود إلى سؤال آخر حول فكرة الواقع الذي نعيشه ومدى كونه واقعا حقيقيا وأصيلا؟ السؤال الذي سأله بوديارد في كتابه والذي يقول فيه: مرحبا بكم في صحراء الواقع، وهي أيضًا جملة افتتاحية في فيلم «المصفوفة» أو The Matrix، الذي يقودنا إلى الفيلم الأمريكي الشهير «ماتريكس» الذي يفترض ان الواقع الذي يعيشه بطل الفيلم أو أبطاله جميعا هو واقع افتراضي يولده وينسقه كومبيوتر عملاق يرتبط به الجميع، يصحو بطل الفيلم ليرى منظرا موحشا تتناثر فيه خرائب محترقة هي ما بقي من شيكاغو بعد حرب كونية، فيرحب به زعيم المقاومة مورفيوس ساخرًا: «مرحبًا في صحراء الواقع».

          هذه الفكرة تمثل همًا فلسفيًا وفكريًا لعبت فيه الفيزياء دورًا كبيرًا منذ التوصل لقوانين النسبية، وإيجاد المعادلات الرياضية التي كشفت عن تصور مختلف للزمن كما نعرفه واكتشاف أن الزمن أكثر تعقيدًا مما نعرفه.

          تقوم فكرة المصفوفة أو الماتريكس على افتراض ان العقل البشري بإمكاناته المحدودة بدأ بابتكار أجهزة قادرة على القيام بعمليات كانت مقصورة على البشر مثل الحساب في بادئ الأمر ثم تطورت البرمجة إلى قدرات جديدة انتجت العديد من التقنيات الحديثة ممثلة في تعقد أداء الحواسب الآلية أولا، ثم في منتجات هذه الآلات من حيث البرمجة التي تستطيع اليوم قيادة طائرة آليًا، أو توجيه قذائف، وصولا لتحريك عربات وأجهزة في الفضاء عبر وسائل اتصال من الأرض.

ما بعد الإنسان

          بالتالي فإذا افترضنا استمرار تطور عمليات البرمجة وتطويرها في المستقبل وما سيسفر عنها من خلق جيل من الروبوت الآلي، فإنه في مرحلة لاحقة أكثر تطورًا سيكون بإمكان هذه الوحدات الآلية أن تؤدي أداء مقاربًا للأداء البشري على المستوى الحركي وربما على مستوى الوعي. وبالقياس على هذا الفرض تقول احتمالات دراسية مختلفة إن الوعي البشري قد يكون وفقًا لهذه الطروحات هو نتاج عمليات برمجة شبيهة لفكرة البرمجة الآلية كما نعرفها اليوم في عالم الحاسوب على سبيل المثال.

          وهذا الافتراض يقول أيضًا إننا اذا افترضنا صحته جدلا، فإن الجيل الحالي من البشر في الواقع قد يكونون مرحلة وسيطة بين مرحلتين تبتغي المرحلة الأحدث منها الوصول إلى ما يعرف بالإنسان السوبر أو ما بعد الإنسان وهو الفرد ذو القدرات الأعلى من حيث إمكاناته في الحركة والتفكير والوعي.

          وقد انتقلت هذه الأفكار من مجال الخيال العلمي، إلى غرف التجارب العلمية، وعلوم المستقبليات، عبر علوم البرمجة والرياضيات وعبر افتراض معادلات رياضية علمية تمامًا لمحاولة التأكد من إمكان تحقق مثل هذه الإمكانات في المستقبل.

          وهذه الفرضية تبدأ من الجانب الفكري والأدبي ثم تنتقل إلى الجانب الرياضي والفيزيائي، ثم تضع فكرة المحاكاة نفسها تحت مشرط العلم، وتنتقل في مرحلة لاحقة لبحث المتاح الراهن من قوانين الحوسبة وتصميم البرامج على الحاسب الآلي حتى تصل إلى توقع الآفاق المستقبلية المحتملة لاحتمالات تطور هذه البرامج وبالتالي الوصول لمدى إمكانية تحقق فكرة أن يصبح الافتراضي هو الواقع الحقيقي في المستقبل!

          فكرة تبدو اليوم مجنونة، تمامًا كما تبدو فكرة فيلم «ماتريكس»، لكن العلماء المختصين في المجال يقولون بأن أغلب أفكار الخيال العلمي التي كانت مجرد أفكار خيالية مستحيلة مثل السفر للفضاء، تحققت وأصبحت واقعًا، وبالتالي فلا يستبعدون تحقق مثل هذا الفرض المستقبلي إذا تمت دراسته وتطوير هذه الدراسة وفقا لمفاهيم وقوانين علمية بحتة.

          وجانب من التحقق من مدى إمكانية تحول هذا الفرض إلى واقع دراسة قوة الذكاء البشري الراهن، وقياس معدلات الذكاء الاصطناعي التي تم تحقيقها اليوم في العديد من المجالات باستخدام تطبيقات الحاسب اللآلي، وبحث العلاقة بين قوة الذكاء في الحالتين للتحقق من مدى تحقق هذا الفرض. كما تواجه هذه الفرضية أن الإنسان الراهن يحصل على الطاقة الذهنية التي تمكنه من التفكير، ويحصل على العديد من وسائل الطاقة التي يمكنه بها أن يحقق فكرة إيجاد أجيال مبرمجة من الإنسان الآلي، ولكن ماذا عن سبل توفر هذه الطاقة في المستقبل؟

          الفرض النهائي يقول إن تحقيق هذه المحاكاة في شكلها النموذجي والتي سوف تسفر عن حضارة جديدة تكاد تكون افتراضية يعيش فيها جيل جديد من «مابعد الإنسان» لا يمكن أن نتوقع أن تصل إليها ذرياتنا المقبلة إذا لم يكن لدى هذه الذرية اليقين من أن ما سوف يعيشونه بدأ على مبدأ المحاكاة.

          إنه موضوع معقد وربما يحتاج إلى وقفات أخرى أكثر اقترابًا من هذه النظرية والاطلاع على ما قامت به الفرق البحثية في هذا المجال بشكل اكثر دقة وبالتدليل عليه عبر نماذج أكثر تفصيلاً.

 

 

 

إبراهيم فرغلي




 





فيلم «ماتريكس» قدم فكرة احتمالية أن يكون الواقع مجرد حياة افتراضية بصورة شديدة الابتكار





الحياة داخل مصفوفة معادلات رياضية وفق ما تقدمه «ماتريكس»





برامج محاكاة الواقع تعددت ألوانها وأفكارها كثيراً في الوسائط الافتراضية