غذاء ودواء من البحر

 غذاء ودواء من البحر
        

بعد أن عرفنا أن مياه البحر يمكن أن تروي حقولاً للأرز والقمح، ها هو مقال يحدثنا عن مخزن هائل للغذاء والدواء في هذه المياه.

          من المفارقات اللافتة للنظر، أن يثور جدل كبير حول احتمالات وجود الماء في القمر "يوروبا"، التابع للمشتري، ونسمع عن خطط لإرسال سفن فضائية، تحمل روبوتات تثقب سطح الجلد المغطى لذلك القمر النائي، لعلها تصل - كما يتصور العلماء - إلى محيط قمري يصل عمقه إلى أربعين كيلومترا، بينما محيط كوكبنا الأم "الأرض"، لا يزال - إلى حد كبير - غير مكتشف ، حتى في الأعماق التي يرتادها الغواصون بسهولة من السطح حتى عمق خمسين متراً. إن هذا المحيط الأرضي يعول، وفي نطاق 60 سم فقط من السواحل، 60% من سكان العالم "3.6 بليون إنسان"، وسوف يرتفع هذا الرقم إلى 6.4 بليون "75%" خلال العقود الثلاثة القادمة.

          ويختزن هذا المحيط الداخلي قرابة 80% من التنوع الأحيائي في العالم، وثمة تقديرات تشير إلى مساحات هائلة من أعماق المحيط التي لم يصل إليها أحد بعد، يعيش بها عشرة ملايين نوع من الكائنات الحية، لا نعرف عنها شيئا. وبالرغم من هذا الإهمال، أو الاهتمام المتواضع، بالأنظمة البيئية البحرية، فإن فريقاً من الباحثين، من معهد اقتصاديات البيئة بجامعة ماريلاند الأمريكية، قد تمكن من تقدير قيمة المنافع الاقتصادية، المنظورة وغير المنظورة، التي يقدمها "المحيط الداخلي" للبشر، بحوالي 21 تريليون دولار، بينما بلغ قيمة منافع الأنظمة البيئية على اليابسة بحوالي 33 تريليون دولار فلماذا نذهب "إلى بعيد"؟

          إن النوايا إن صدقت، وتكاتفت الجهود، وتحقق الالتزام بخطط وبرامج صون صحة البحار والمحيطات وإدارة ثرواتها الطبيعية، فإن هذه المسطحات الشاسعة من المياه المالحة، التي تغطي ثلاثة أرباع مساحة سطح الأرض، سوف تقدم لنا قائمة طعام متنوعة، تكفل لكل فم حظه من الطعام، ليتراجع شبح الجوع. وستشمل هذه القائمة على الأنواع التي خبرها الناس كالطعام تقليدي، من أسماك وقشريات كبيرة ورخويات، كما ستتيح للبشر أن يجربوا أنواعاً جديدة من المأكولات البحرية، أو على الأقل، أنواعاً كانت خبرة الناس بها محدودة، مثل الطحالب البحرية، التي تحتوي على 60 عنصراً معدنياً وعنصراً شحيحاً، وهو عدد لا يتوفر للنباتات الأرضية كما نتوقع أن ترتفع أسهم بعض اللا فقاريات البحرية، وتنتشر كطعام مقبول في عدد أكبر من بلدان العالم. يدفعنا إلى هذا التوقع ما لاحظناه من ارتفاع إنتاجية العالم من الحيوان الرخوي المعروف باسم "بلح البحر"، فقد كان إنتاجه في حدود 1.5 مليون طن في عام 1988 قفز إلى 3.2 مليون طن في عام 1998 م.

          رواج مماثل تشهده صناعة وتجارة "خيار البحر"، بدأ في جنوب آسيا، وأخذ في الامتداد إلى شرق إفريقيا، وأوربا. وخيار البحر حيوان بحري قاعي، ينتمي لطائفة الحيوانات البحرية المعروفة بالجلدشكويات، والتي تضم نجم البحر وقنافذه!. وتعد الصين أهم سوق استهلاكية لهذه السلعة البحرية المتميزة التي يزداد إقبال العالم عليها.

          ومن التقنيات البحرية المستحدثة والتي نأمل أن نتابع خطى التطور والانتشار في المناطق الدافئة من بحار العالم ومحيطاته، الشعاب الاصطناعية. إن مساحة الشعاب المرجانية الطبيعية لا تزيد على 0.17% من مساحة القاع لبحار ومحيطات العالم، وبالرغم من ذلك فهي الموطن لما يقرب من ربع أنواع الكائنات البحرية الحية، وتحمل آمالا عظيمة في مجالي إنتاج الغذاء البروتيني والدواء. إن خطاً طوله كيلومتراً واحداً من الشعاب المرجانية المزدهرة يمكن أن يفي باحتياجات مائة إنسان من البروتين الحيواني، فإن تدهورت أحواله، عجز عن إعالة عشرة، وقد تدهورت أحوال الشعاب المرجانية في 93 دولة، وأصبحت عرضة للهلاك خلال الخمسين سنة القادمة. من هنا، تبرز أهمية "بناء" شعاب اصطناعية كتقنية جديدة تعوض، مع إجراءات أخرى، التدهور الواقع بهذا النظام البيئي الفريد. وتعمل على زيادة إنتاجية البحار والمحيطات.

          وقد بدأت 40 دولة في 6 قارات من العالم، في بناء شعاب اصطناعية، ينتظر أن تعطي زيادة في المنتجات البحرية المختلفة تتراوح بين 20 إلى 4000 بالمائة!

          إن الانقلاب القائم الآن في مجال العقاقير المأخوذة من أصل طبيعي بحري، قد اعتمد في الأساس على تقنية علمية مستحدثة تسمى بالغربلة الجزيئية. وتحتوي المختبرات العصرية المتقدمة على أجهزة فائقة الدقة والسرعة، يمكنها "غربلة" آلاف من المركبات الكيماوية في المستخلصات المأخوذة من أجسام وهياكل عشرات من الكائنات البحرية، في اليوم الواحد، فيصبح من اليسير على الكيميائي أن ينتقي المركب المناسب، ثم تأتي مراحل عزله من المستخلص، وتوصيفه، ومحاولة تخليقه بالمختبر، وتجربته على الحيوانات.

          وقد أتاحت هذه التقنية لبعض الباحثين في شركتين للصناعات الدوائية بولاية كاليفورنيا، أن يتوصلوا إلى مركبين مضادين للسرطان، مأخوذين من نسيج الإسفنج، الأول هو "باستادين"، الذي يؤثر بالسلب على نمو خلايا سرطان الدم، وأورام المبيض، أما الثاني، فيسمى "جاسبلا كينولايد" ويفسد أسلوب انقسام خلايا سرطان الكلى وسرطان البروستاتا. وقد أظهر المركب الأول درجة عالية من الأمان عند تجربته في المختبر. أما الثاني، فهو شديد السمية، ويعمل الكيميائيون الآن على تغيير ملامح جزئ هذا المركب للتخفيف من سميته، فلا يتعرض إلا للخلايا السرطانية.

          أما أستاذة الميكرو بيولوجيا، الأمريكية ديبورا شتينبرج، فقد اختارت أن تبحث عن الدواء في الكائنات البحرية الدنيا: البكتريا البحرية، وهي تعتقد أن الميكروبات التي تعيش في مياه البحار وعلى أجسام بعض الكائنات البحرية ستكون دليلنا في المستقبل القريب، إلى عقاقير غير تقليدية، تحيل الأمراض الخطيرة إلى أخرى قابلة للعلاج، يشفى منها الناس. وكان أول ما تحصلت عليه الدكتورة ديبورا مركبا مضادا للبكتريا، أسمته "بيوكسالومايسين"، عثرت عليه في بكتريا تعيش في المياه الشاطئية.

          ويبدو أن ثقة الدكتورة ديبورا بالبكتريا البحرية في محلها، فقد اكتشف العلماء اليابانيون بجامعة طوكيو أن مركب النترودوتوكسين، وهو سم نقال يكمن في أجسام الأسماك المعروفة بالفهقة، لا تنتجه السمكة نفسها، وإنما نوع من البكتريا البحرية يعيش في أحشاء السمكة. كما اكتشف هؤلاء العلماء أن بعض الكائنات البحرية الصغيرة، وبيضها، يستمد قدرته على مقاومة الأمراض من أنواع بكتيرية بحرية تغطيه، فإذا زال عنه هذا الغطاء البكتيري، هلك. ومن هذه البكتريا الحارسة للحياة في البحار، توصل الكيميائيون إلى مركب شديد الفعالية ضد الفطريات، هو "إستاتين"، وجاء من بكتريا تحمي بيض الجمبري، ومركبين من مضادات الحيوية، هما "ساليناميد- أ" و "ساليناميد - ب" من بكتريا متعايشة مع نوع من قناديل البحر.

          المشكلة التي تواجه هذه الجهود المشكورة تتمثل في عدم القدرة على الوفاء بالاحتياجات من العقاقير الجديدة، فالموارد الطبيعية محدودة، والضغط عليها قد يؤدي إلى أضرار بيئية تسيء، أول ما تسيء إلى صناعة العقار نفسه، إذ إن كميات كبيرة من الكائنات البحرية تهلك في مقابل كمية ضئيلة من المركب الصيدلاني المطلوب، فالدورة البحرية المسماة بالبلوطية، يستهلك منها 450 كجم من أجل مللي جرام واحد من مركب مضاد للسرطان، ويحتاج العلماء إلى 1600 كجم من أرنب البحر لاستخراج 10 مللي جرامات من مركب ببتيدي، هو "دولا ستاتين 13"، المضاد للأورام، أما ثعبان السمك "المواري" فإن 847 كجم من أكباده يشتق منها أقل من نصف مللي جرام من مركب دوائي مهم، هو "سيجواتوكسين" فكم وزن الثعابين التي تعطي هذه الكمية من أكبادها؟

          وعلى أي حال، فإن قائمة العقاقير الجديدة، المستمدة من أصول بحرية، تبدو مشجعة، وتجعلنا نأمل في مستقبل مشرق لهذا التوجه. ومن أطرف الاكتشافات الدوائية البحرية، مركب مضاد للسرطان من أسماك القرش، فقد لوحظ أن سمكة القرش لا تصاب بالسرطان، وبالبحث، وجد العلماء أن ثمة مادة في غضاريف القرش أثرت بشكل واضح في تثبيط النشاط السرطاني لورم في عين أرنب بالمختبر.

          ولا تزال المادة المجهولة، ولكن العلماء توصلوا إلى أسلوبها في مقاومة السرطان، فهي تحرم الورم السرطاني من الدم. والعجيب أن نفس هذه المادة موجودة في غضاريف عجول الماشية، غير أن نسبة الغضاريف في العجل لا تزيد على 0.6% من وزن جسم القرش، فإذا أضفنا إلى ذلك أن كتلة القرش الكبير قد تصل إلى عشرة أمثال وزن العجل، كانت سمكة القرش هي الأفضل لاستخلاص هذا العقار المنتظر. وفي المختبر، وجد العلماء أنهم يحتاجون إلى نصف كيلو جرام من غضاريف العجل للحصول على مللي جرام واحد من مستخلص المادة الفعالة، بينما لا يحتاجون إلى أكثر من نصف جرام من غضروف القرش لاستخلاص نفس الكمية. ومن الرؤى المستقبلية الطريفة التي تجمع بين الغذاء والدواء البحريين، ما يتوقعه فريق من العلماء، في المستقبل القريب، من ظهور مستودعات غذائية ومطاعم، تنافس الصيدليات، إذ سيزداد وعي الناس بأهمية الغذاء كأسلوب علاجي، وستقدم لهم هذه الأماكن أطعمة جديدة، تجمع بين القيمتين: الغذائية والدوائية، فلقد تحققنا الآن من أن الغذاء الفقير عامل رئيسي في الإصابة بأمراض القلب، وقد يكون هو المسئول عن 30% من حالات السرطان. العجيب في الأمر، كما يتوقع المهتمون بالمستقبليات، أن التوجه العام سيكون نحو الاستعانة بالثقافات التقليدية للشعوب في إعداد هذه الوجبات العلاجية، وأن الاعتماد الأساسي لبائعي الأطعمة المداوية سيكون على المصادر الطبيعية البحرية، فانتظر دعوة من ابنك، أو حفيدك، لتناول الطعام في مطعم لا يقدم إلا حساء الطحالب، وعصارة قنفذ البحر، ولحم السلحفاة البحرية المطبوخ بالخل والثوم وأوراق نبات الرند والخردل، وربما احتاج الأمر من بيض السلاحف أو مناسل التماسيح!

          ويقدم لنا الدكتور جوزيف هيبيلين، من مستشفى روكنيل بولاية مالايلاند الأمريكية، دعماً علمياً لهذه الرؤية المستقبلية، إقام بدراسة مقارنة لإحصاءات المرضى بالاكتئاب ومرض القلب، وفي كل من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، فوجد أن المجموعة الأول تمثل 5% بين الأمريكيين، بينما لا تزيد نسبتها على 0.1% باليابان، ولم تخرج النسبة عن هذه الحدود بين مرضى القلب في الدولتين. وقام الطبيب بتقصي الأسباب، ففحص عدداً كبيراً من الحالات، وتوصل إلى أن السبب في تدني نسب المرضى اليابانيين هو ارتفاع مستويات أحد الأحماض الدهنية في أنسجتهم ودمائهم، هو حامض "دوكساهيكسانويك"، ويرمز إليه بالحروف (DHA) ، ويتوفر في الأسماك. كما لاحظ الدكتور هيبيلن ارتباط انخفاض مستوى هذا الحامض في الدم بانخفاض مستوى هذا الحامض في الدم بانخفاض مستويات المادة الكيميائية المسئولة عن استقرار أحوال المخ، وهي السيروتونين. والمعروف أن انخفاض مستوى هذه المادة بالمخ يؤدي إلى الاكتئاب وبعض الاضطرابات العقلية الأخرى. لذلك، يوصي هيبيلين مرضى الاكتئاب، ومعهم مرضى القلب، وكذلك المعرضون للإصابة بهذه الأمراض، بأن يقبلوا على أكل الأسماك، فقد تغنيهم عن الأدوية.

 

رجب سعد السيد