«مقهى الحاج داوود»

  «مقهى الحاج داوود»
        

          أذكر عندما وُلدت، أي منذ مئة وخمسين عامًا، أنني كنت لطيف المعشر مع العائلة، مع أمي خصوصًا ومع أبي أيضًا الذي ما إن رآني أخرج من بطن أمّي حتى أخذني إلى مقهى على شاطئ بحر بيروت، حيث مازلت أذهب إليه واسمه مقهى «الحاج داوود» هو مقهى ومطعم. أذكر أن أوّل طبخة أكلتها كانت «خضارًا مشكلة» باذنجان، كوسا، بندورة، بصل، ثوم، لوبيا، بازيلا، جزر وغير ذلك، ولحم طبعًا. كلها مطبوخة..
ويا الله ما أطيبها.. مع صحن من الرز المفلفل.

          أنا لا أذكر أو أتذكر هذه الطبخة فقط، فلي ذكريات كبيرة كالبحر وكثيرة كمائه، أبي كان يحب القراءة، قبل الغذاء وبعده، يفتح كتابه ويقرأ وأنا أتطلّع إلى البحر جالسًا على كرسي على شرفة المقهى المطعم، وبيدي «كازوزة جلّول»، التي كنت أتلذّذ بطعمها بعد أكل اليخنة الطيبة، كنت في ذاك العمر لا أبقى جالسًا، إن جلست قليلاً فإني لا ألبث أن أقف أو أمشي على رجلي بصعوبة أو على رجليّ ويديّ، وما إن يراني أبي هكذا حتى ينهرني لكي أقف فقط على رجليّ، الآن بعد مضي سنوات وسنوات، ولكثرة ما استعملت رجليّ للسير، أشعر بأنهما تعبتا، فأقول لنفسي دائمًا ليتني أمشي على أربع، وأتساءل لمَ الحصان والقط والثعلب والكلب والحمار وغيرها، تمشي على أربع وأنا لم أمشِ على أربع سوى وقت قصير، وقت الطفولة؟ ليتني بقيت طفلاً!

          أنا لا أتذكّر رجليّ فقط، هناك أشياء كثيرة، لكنها مختلطة في رأسي الآن، لكن لابد أن تظهر بعد قليل، كيف لا وأنا بشوق لتلك الأيام الخوالي، كيف مرّت وانقضت، ليتها بقيت ولم تنقض.

          ها.. ها.. أذكر.. ماذا؟ أذكر كيف تقترب الشمس من البحر، وتخترق الغيوم، وأبقى أنظر إليها حتى أني أرى ألوانًا كثيرة، من الأزرق والأصفر والأخضر والبرتقالي والأحمر، ألوان تأتي أو تظهر لي وأنا معلّق نظري بدائرة الشمس الحاملة كل الألوان التي صبغت بها أمواج البحر، حتى أنها التصقت بزجاج المقهى الذي أصبح مضيئًا بألف لون ولون، أذكر هذا وأكثر، ما إن تغطس الشمس في البحر حتى تتبدّل الألوان والسماء كأنها لبست ثوبًا ورديًا وليلكيًا وبعض المساحات من الأزرق الغامق، تلك الألوان التي بقيت في ذاكرتي ودخلت في إحساسي منذ مائة وخمسين عامًا. أذكر هذا وأكثر، مثلا عندما نخرج من عند «الحاج داوود» نمر بحي «الزيتونة» الذي يكون قد تهيأ لاستقبال زبائن الليل، ثم نكمّل سيرنا نحو المعرض، ثم ندخل إلى سوق النوريّة لشراء بعض الفاكهة والخضار، ونسير إلى «البرج» الغاص بالناس، إذ إنه كان ملتقى لكل لبنان، وأنا مأخوذ بصور الممثلين والممثلات على أبواب دور السينما العديدة: روكسي، دنيا، ماجستيك، امبير، ريفولي، أوبرا، غومون - بالاس - كريستال.

          وغيرها.. وأبي كان ينهرني بأن أنظر أمامي لئلا أقع، وبعد قليل يصل الترامواي آتيًا من المنارة ومارًا بمحطات عدة، محطة الديك، محطة جنبلاط، محطة باب إدريس ومحطة البرج ويتابع إلى آخر الخط.. إلى فرن الشباك، أما نحن فإننا ننزل في محطة الناصرة، وندخل في شارع الحوت ومنه ندخل في زاروب قرنفل وهناك كان بيتنا. أمّا ماذا كان يحصل عند وصولنا إلى البيت، فهذه قصة مختلفة. استقبال الوالدة، وتسلُّم ما اشتريناه من «سوق النورية» وحوار الوالدين، وقبل العشاء دخول الحمام والاغتسال، وماذا أيضًا، بعد العشاء أشياء كثيرة تحدث «لا.. لن أذكرها» هناك أشياء تخص العائلة.. لها حرمتها.. ما كل ما يحدث في العائلة.. أي عائلة، ينشر ويُحكى للغير..لا..
---------------------------
* فنان تشكيلي من لبنان.

 

 

أمين الباشا*