في مسرحية «ودار الفلك» يغوص المخرج الكويتي سليمان البسام في واقع عربي بمنظور افتراضي

في مسرحية «ودار الفلك» يغوص المخرج الكويتي سليمان البسام في واقع عربي بمنظور افتراضي
        

          سليمان البسام المخرج المسرحي الكويتي الذي جمع في مسرحه بين البيئة والمناخ الشكسبيريين والرؤية الفكرية العربية. قدم شكسبيراته «مؤتمر هاملت» و«ريتشارد الثالث» على الخشبة المسرحية الغربية والعربية وبالأخص الكويتية، كما غاص في التراث ليستل منه ثيمة مسرحية من وحي «كليلة ودمنة»، وكذلك «ابن المقفع» الذي أراد من خلاله أن يجسد رؤية نقدية للسلطة الممارسة على المثقف، وكيف تخاف السلطة من هذا المثقف، التغييري، فتقطع يده لتكف عن إمساك القلم، وليصمت الكلام.

          يسوق البسام مسرحه في إطار تجربة مسرحية، تتشابه وتجربة مسرحية قامت بها نضال الأشقر المخرجة المسرحية اللبنانية والطيب الصديقي من المغرب، وغيرهما من ممثلين من أغلب البلاد العربية، وقدموا عرضًا مسرحيًا نوعيًا بعنوان «ألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ»، وتتشابه تجربته أيضًا مع تجربة المسرحي العالمي بيتر بروك الذي أراد لمسرحه أن يضم عددا من الممثلين من العالمين العربي والغربي. وكان الغرض منها الإفادة من الطاقة الأدائية الممزوجة بالثقافة التي تتمتع بها كل جنسية. وفي تجربة البسام تلاقحت الثقافات العربية اللبنانية والسورية والأردنية والكويتية، وجسدت كل واحدة منها ثقافتها وعلاقتها بأداء الدور في العرض المسرحي «ودار الفلك».

ثيمة تحمل في دلالتها تشظي الواقع العربي

          في مسار رؤيوي نقدي للواقع العربي وللسلطات القمعية، يتابع البسام مسيرته المسرحية التي انجلت بوضوح في هذا العرض المسرحي.

          من هذا المناخ الشكسبيري السلطوي، الذي تتنازعه شهوة السلطة، يسوقه مستهلا مضمون فعله من تسمية العرض، أي مما يصنف سيميولوجيا بالعتبة، أو المعبر الذي تشي دلالته بخذلان السلطة عندما يدور الفلك.

          «ودار الفلك» عرض الواقع العربي المتشظي حاملاً للرؤية الافتراضية المحتملة بعد الحراك العربي التغييري في مصر وتونس وليبيا، إضافة إلى إثارته لقضية مهمة جدا هي العلاقة مع الغرب، التي يبدو فيها العرب في موقع دوني تجاه الغرب، والتي شكلت مجموعة هواجس وقلقا لدى المخرج (الممثل) الذي يدعي الحضارة ويتماهى بشروطها وفق ما وضعته السياقات الغربية، فهو يؤدي دور المثقف الفنان الذي يحاول أن يظهر بمظهر المتمدن المتحضر المتجاوز لكل مظاهر التخلف الفكري والرقابي، والذي يدعي التمتع بديمقراطية من أهم تجلياتها حرية التعبير والحراك الثوري ورفض الواقع والتمرد عليه.

          بمعنى آخر، تجسد هذه الفكرة دور من يتجملون أو يثيرون قضايا تستأثر باهتمام الغرب وتؤكد نظرته لهذا العالم العربي وهو في الواقع، وفق التصنيف الغربي له: العربي العنيف وغير المثقف وغير العارف والمقموع، لأنه ينوء بثقل قضية جوهرية هي قضية الرقابة، فالنظام القمعي لا تقتصر تأثيراته وفعاليته فقط في القمع السياسي، بل يطول الحريات والديمقراطية ولاسيما حرية التعبير التي تحتاج إليها الفنون والدراما التلفزيونية. وقد أشار إليها العرض عندما قدم مشهدًا على الشاشة يكشف فيه عن تعرض الدراما التلفزيونية الكويتية للتقطيع والحذف بقرار من الرقابة، وأبرزها البسام في نصه من خلال محاولته «توضيب» الشريط.

          وشكلت هذه القضية (الرقابة) الذريعة الدرامية ليؤسس عليها البسام رؤيته الفكرية في نص «ودار الفلك» للكشف عن طبيعة الأنظمة في البلاد العربية.

          ثم عالج البسام ثيمات متنوعة يجمع بينها خيط درامي واحد هو خيط الغوص على الواقع الافتراضي الذي سينجلي في العام 1215 والذي ترتسم ملامحه في هذا الزمن، زمن الحراك السياسي والتمرد والثورة. وقد أوحى الحوار ببعض تلميحات عن الثورة «تحررت الشعوب من مستبديها، لكنك بليد» «نعلم لغة العصر أنت الآن حر» «ولتبدأ الحرية بكسر العبودية وكسر سلطة الملا»، الذي يرمز إلى السلطة الدينية وامتدادها في العالم العربي.

          ولعل هذا النص الذي كتب قبل حدوث الثورات العربية وسقوط الأنظمة قد اعتمد على الحدث اللامتوقع، هو تسلُّم السلطة الدينية للحكم واستعادة الخلايا النائمة لأنفاسها ونشاطاتها السياسية والدينية، فأمسك بالواقع العربي من كل جوانبه، وتحول مسار معطيات مرحلة الستينيات إلى مسارات تنطبق على الواقع الحالي وتحرض لمستقبل افتراضي.

          لقد طرح البسام رؤيته من خلال هذه التوليفة الثيماتية التي تناولت الواقع الثقافي والفني والسياسي والرقابي المتمثل في السلطتين السياسية والدينية (الملا) «أنفي التهم سأجتث شرعيتك يا شعبي»، وساد هذا المناخ السلطوي في زمن امتد إلى ستينيات القرن العشرين وصولا إلى مرحلة استباقية.. وقد تنوعت الموضوعات التي تناولها مثل قضية المرأة والعلاقة بين السلطة الذكورية «الشعب خدعونا النساء» وقضية الدخلاء الذين عرفوا كيف يتسيدون ويمسكون أدوات اللعبة السياسية في العالم العربي.

البحث عن نهاية جديدة

          ولكن النهايات لم تعد نهايات العرض فقط، فالمخرج هو السيد، وهو الذي يدير العملية على الخشبة «أنا نصكم ومخرجكم في النهار أنا خشبتكم.. وداعا أنا مشهدالحلم».

بنية العرض وتقنياته

          أراد البسام أن يصوغ نصه من خلال بناء درامي يستعين من مفهوم «المتيامسرح» بصيغ الارتجال والوصف والشرح والتناص على مستوى الشكل، ومن هذه الصيغ يتكئ العرض على تقنية «المسرح داخل المسرح»، بحيث يتداخل دور المخرج مع دور الممثل والمرتجل والراوي والحكواتي والممثل.

          لكن تقطيع الزمن بين مرحلة الستينيات والمرحلة الحالية وصولا إلى المرحلة الافتراضية التي بشرت بها ثورات تونس ومصر، صيغ بقالب خلط بين التراجيديا والكوميديا المستوحاة من أجواء شكسبيرية تخللتها مناخات مسرحية الليلة الثانية عشرة وأجواء ريتشارد الثالث، فقرر البسام أن يستحوذ نصه على هذه البيئة، ليضع لنا القالب العربي السلطوي في مساره السياسي على المحك..

          كما أثار قضية إثارة الالتزام بالنص وهي النمط الذي كان سائدا في تلك المرحلة، أي مرحلة الستينيات، عندما كان النص يولي الأهمية الكبيرة التي تتجاوز أهمية الممثل والإخراج والسينوغرافيا (أي ما صنف خطأ بالديكور في مرحلة الستينيات، لأن هذا المفهوم - أي السينوغرافيا - شاع استخدامه في المسرح العربي في مرحلة الثمانينيات) ولم ينج النقد من سلطة النص، إذ كان التركيز في المقالة النقدية ينصب على النص وبنيته والفكرة، أي الأيديولوجيا التي كان يعبر عنها أو ينتمي إليها النص، ولكن مرحلة نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة صارت تركز على الممثل والمشهدية البصرية، وهذا ما يشكل أساسا لبنية هذا العرض.

رؤية إخراجية بين المتخيل والواقع

          قولب المخرج البسام أحداث نصه ورؤيته في صياغة إخراجية اعتمدت على السينوغرافيا وعلى مستويات متعددة من الخشبة لتجسد هذه الكثافة من الأفكار التي تناولها العرض، بحيث أتقن البسام صياغتها بصريا، إذ إنه شكل من سينوغرافيا العرض عناصر متنوعة احتلت حيز الخشبة المتفرعة الواحدة من الأخرى، إلى جانب أنه أكثر من استخدام الأدوات السينوغرافية، بحيث إنه انزاح عما يصنف بالمسرح الفقير، فقد امتلأ الفضاء المسرحي بهذه الأدوات والمعدات.

          وكان لكل منها وظيفته الدرامية، التي دارت فيها أحداث النص المتنوعة وغير المتزامنة. فبعض الأحداث عادت إلى الزمن الماضي، وعرضت على الشاشة /السينمائية، في الكويت وفي بيروت، لتكون شاهدة على أحداث الزمن الجميل وفق ما قالته الممثلة اللبنانية حنان الحاج علي، والبعض الآخر عرض على الشاشة ليؤرخ لأحداث حصلت في الستينيات، حيث تمت الرقابة على الفنون وأخفيت بعض الإبداعات الفنية. كما وظف البسام تقنية عرض خيال الظل على الخشبة المسرحية بما يتواءم والسياق العام للعرض. كما شغل ستديو للاختبار والتجريب لإعادة ترميم الشريط دوره ووظيفته البصرية في العرض التي كشفت لنا عن مسارات عن العلاقة مع الفنون في تلك المرحلة، أي العصر، وهو العصر الذهبي.

          في هذا الحيز نرى الحديقة والقصر والبحر وأمكنة طبيعية وجغرافية متعددة. وفيها يتلو الممثلون خطابهم، ويتلو المخرج والكاتب والممثل خطابه الراوي، حيث يستعرض ويعلق على الحدث على خلفية التغريب البريشتي، وقد شارك الممثلون في هذه التلوينة البريشتية من خلال تبادل الأدوار، ومن خلال دور البسام الذي حكمته الرواية والسرد في إطاره الدرامي، ودور نقولا دانيال الممثل اللبناني الذي كان من أوائل المسرحيين العرب في السبعينيات، الذي عمل ضمن المنهج البريشتي في فرقة مسرح الحكواتي اللبنانية مع المخرج المسرحي اللبناني روجيه عساف.

          كما أتقن الممثل السوري ذو الحفريات العميقة في المسرح، الذي يجيد إتقان الانتقال من شخصية إلى أخرى في هذا العرض، سرعة التعبير عن الشخصية التي ينتقل إليها بإتقان سلاسة. الأمر الذي يدل على قدرته على خلق هذه العلاقة التفاعلية مع الشخصية ومع الشخصيات والممثلين الآخرين. وبرز ذلك بتأديته لدور الملا. لقد حافظ فايز قزق على قدرته التمثيلية مطورًا أداءه وموظفا هذه الإمكانات على الخشبة المسرحية.

          ومن التلوينات والأداء المتقن بربط الدور والشخصية بليونة حركة الجسد، وبسلاسة الحركة والحضور بشقيه المأساوي والكوميدي، نجح المخرج والممثل الكويتي فيصل العميري في أداء دوره، ولاسيما في أدائه لدور الأعمى، واللافت في تأديته لهذا الدور أنه لم يغرقنا في مأساة الحالة.

          ولم تكن قدرات الممثلين الكويتيين فهد عبدالمحسن ونصار النصار أقل شأنا من الممثلين المذكورين، فقد أجاد عبدالمحسن في أداء حضوره، كما أن الأداء وحده لا يكفي، بل تمكن من التعبير من خلال حضور لافت على الخشبة، وهنا تبرز قدرة الممثل على الأداء، بأن يكون لحضوره نكهة وميزة خاصة.

          وقد أدى المخرج الممثل الكويتي نصار النصار دوره بتلوينات حركة الجسد ومرونة الحراك على الخشبة، ما يكشف عن قدرات أدائية يختزنها هذا الممثل في طيات الجسد.

          واكتملت صورة الأداء ومشهدية الحركة مع الممثلتين الأردنية أمل عمران واللبنانية كارول عبود، حيث حرصت الممثلة أمل عمران على دقة الأداء وبراعته عندما أدت دورا رجاليا، وأطلقت العنان للجسد بالتعبير، فلم تقيده بل استجابت بليونتها وبعلاقتها المعمقة بالدور لمتطلبات الشخصية ووظيفتها الأدائية والدرامية. كما اتكأت كارول عبود على حضور المرأة وعلى إبراز الأنوثة النسوية، من دون أن تتجاوز متطلبات الدور المطلوب، لقد أبرزت هذه الأنوثة بما يتناسب مع الشخصية.

          إن كان للممثلين الذين أفلح المخرج البسام في اختيارهم دور في النجاح، فلقد كان لوجوده كممثل على الخشبة المسرحية ضرورة أدائية. كان الممثل /المخرج ضمن دائرة التمسرح الميتامسرحي، أي كان لحضوره الشارح والمتناص مع سيرورة العرض تأثير جلي، لقد كان الواصل الرابط بين الشخصيات، بأداء مميز ومتفاعل على الخشبة.

          في هذا الحيز المسرحي وعلى المنصات التي تقاسمت الخشبة في مستويات عدة، تحرك هؤلاء الممثلون المتمكنون من قدراتهم الأدائية، سليمان البسام ونقولا دانيال وفايز قزق وفيصل العميري وفهد عبدالمحسن ونصار النصار وأمل عمران وكارول عبود، وكانت المنصة الأمامية مركزاً لحراك هؤلاء الممثلين الذين أدوا أدوارا متنوعة، والذين ملأوا فضاء الخشبة.

          وكذلك وظف البسام الموسيقى في سياق درامي عبر عن رؤيته للعرض وأضفى بيئة متنوعة أحال بعض ملامحها إلى زمن الستينيات، وإن كان قد افتقر إلى التعبير عن المرحلة الافتراضية، وهي المرحلة التي يصعب تحديد سماتها لأنها مرحلة التغيير بما تحمله رياحه من سمات ومن محمولات افتراضية للحرية وللديمقراطية.

          شكلت كل العناصر البصرية من الشاشة وخيال الظل والسينوغرافيا والعناصر السمعية الموسيقية بيئة متلائمة ومنسجمة مع مشاهد العرض، ما يدل على إتقان المخرج في استخدام أدواته الإخراجية، وهي على الرغم من تنوعها وتعددها، فإنها خلقت مشاهد مسرحية متناغمة مع فكرة النص ومع حراك الممثلين على الخشبة.
---------------------------------
* أستاذة بالمعهد العالي للفنون المسرحية - الكويت

 

 

وطفاء حمادي*    




 





 





عرض دار الفلك عرض الواقع العربي برؤية فنية جديدة





الرقيب العربي كما ظهر في العرض المسرحي





روجيه عساف في اول مشاهد المسرحية





تباري ابطال العمل في أداء تمثيلي محترف





 





نجح البسام في ايهام المتلقي بوجود نص داخل نص على خشبة المسرح





أمل عمران وكارول عبود في مشهد من العمل