على خطى أحمد بن فضلان في بُلغار الفولجا: أشرف أبواليزيد

على خطى أحمد بن فضلان في بُلغار الفولجا: أشرف أبواليزيد
        

عدسة: أشرف أبواليزيد

          أمام المسجد الأبيض، في قرية بلغار على نهر الفولجا، كانت الفتيات التتاريات حاضرات بأزياء من ألوان السماء ينتظرن قافلتنا، وهن يؤدين - وفق إيقاع مرسوم - لوحات حركية تقليدية. الثياب التاريخية، الفضاء الشاسع، البرد القارس، الوجوه المختلفة، أعادتني أكثر من ألف عام. وكأنها احتفالات تاريخية، فهنا وصلت خطوات أحمد بن فضلان، رسولا من الخليفة العباسي، ليفقه أهل تلك البلاد، ويزيدهم علمًا بدين الإسلام، حتى اتخذ أحفادهم من تاريخ قدوم ذلك العربي ميلادا للدين الحنيف في وطن التتار.
بين يدي الرحلة التي حققها وعلق عليها وقدم لها د. سامي الدهان، ونشرها المجمع العلمي العربي بدمشق، بعنوان «رسالة ابن فضلان - أحمد بن العباس ابن راشد بن حماد في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة، سنة 309 هـ - 921م».

          الثابت أن أحمد بن فضلان قد انطلق في رحلته من بغداد، وإذا كان عليه أن يصل إلى موقع (بلغار) على نهر الفولجا، حيث تقع اليوم القرية التاريخية في تتارستان، إحدى الجمهوريات الإسلامية في روسيا الاتحادية، فقد كان لزاما أن يكون اتجاهه شمالا، لمسافة تربو على ألفين وخمسمائة كيلومتر. لذلك كان السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني، وحاولت أن أجد إجابة له، هو، لماذا ضاعفت قافلته المسافة، حيث اتجه بها ابن فضلان إلى الشرق، قبل أن يعود إلى الغرب الشمالي؟

          كان ذلك أحد أسئلة كثيرة تلح على الذهن حين نتأمل البداية، بل ونتساءل، كيف تسنى لذلك الملك القاطن الشمال النائي، أن يعرف بأمر الخليفة العباسي، وأن يسترشده في أمور دنياه ودينه، فيطلب منه العون المادي لبناء حصن ضد أعدائه، ويرجوه أن يرسل من يفقّه شعبه في دين الإسلام؟

بغداد الخليفة

          في العام 295 للهجرة، بويع للخلافة العباسية في بغداد الخليفة المقتدر بالله أبو الفضل جعفر ابن الخليفة المعتضد. كان فتى في الثالثة عشرة من عمره، ولذلك عرفت بطانته أن تجعل يده سخية حد الإسراف، حتى كان له في داره أحد عشر ألف خادم خصيّ من الروم والسودان، كما امتلأت خزائنه بالحلي والجواهر النفيسة، حتى أشيع عنه أن دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم، بل إن بعض المؤرخين، قال إنه أنفق سبعين مليون دينار ضياعًا وتبذيرًا، ماعدا نفقات الدولة، فقد اضطر في استرضاء الجند والغلمان أن يبيع ضياعه وفرشه وآنية الذهب، وقد خلع وأعيد ثم قُتل، ومكثت جثته مرمية على قارعة الطريق سنة 320 للهجرة، كما يرد في تحقيق الدهان للرحلة.

          فإذا كانت تلك الحال، كما تبدو، سلبي الصورة، فكيف كانت الصورة الإعلامية في الخارج تبدو مخالفة، ومضيئة؟ - يسرد ابن مسكويه في كتابه «تجارب الأمم» ما يصور حال بغداد وخلافتها سنة 305 للهجرة، أي قبل أربع سنوات من سفر ابن فضلان:

          «ودخلت سنة خمس وثلاثمائة: وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام، على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة، يلتمسان الهدية. وكان دخولهما يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر المحرم، فأُنزلا في دار صاعد بن مخلد. وتقدم أبو الحسن بن الفرات (أحد وزراء الخليفة) بأن يفرش لهما ويعدّ فيه كلّ ما يحتاجان إليه من الآلات والأواني وجميع الأصناف، وأن يقام لهما ولمن معهما الأنزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة، حتى يتسع بذلك كلّ من معهما... - والتمسا (الضيفان) الوصول إلى المقتدر بالله ليبلغاه الرسالة التي معهما فأُعلما أن ذلك متعذّر صعب، لا يجوز إلا بعد لقاء وزيره ومخاطبته في ما قصدا إليه، وتقرير الأمر معه، والرغبة إليه في تسهيل الإذن على الخليفة، والمشورة عليه بالإجابة إلى ما التمسا. فسأل أبو عمر عديّ بن عبدالباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن ابن الفرات الإذن لهما في الوصول إليه، فوعده بذلك في يوم ذكره له.

          ويكمل ابن مسكويه وصفه لدراما الوصول إلى الخليفة من قبل السفيرين فيقول:

          «وتقدّم الوزير بأن يكون الجيش مصطفًا في دار صاعد إلى الدار التي أقطعها بالمخرّم، وأن يكون غلمانه وجنده وخلفاء الحجاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه، وبسط له في مجلس عظيم مذهّب السقوف في دار منها، يعرف بدار البستان، بالفرش الفاخر العجيب، وعلّقت الستور التي تشبه الفرش، واستزاد في الفرش والبسط والستور، ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار، ولم يبق شيء تُجمل به الدار، ويُفخم به الأمر، إلا فعل. وجعل على مصلّى عظيم من ورائه مسندًا عاليًا، والخدم بين يديه، وخلفه، وعن يمينه، وشماله، والقواد والأولياء قد ملأوا الصحن، ودخل إليه الرسولان فشاهدا في طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما».

          بعد ذلك الوصف لما شاهد الرسولان، وما لمحاه في الرواق، ومن التقياه في الدار، وما نظرا إليه في المجلس، وما استمعا له من ترجمان الوزير، الذي يعدهما بالتماس المقابلة مع الخليفة، ويأتي اليوم، فيصطفّ الجنُد من دار صاعد إلى دار السلطان في الزي الحسن، ويمرر الرسولان عبر رحاب الدار والدهاليز والممرات التي تعج بالرجال والسلاح، من ممر يفضي إلى صحن، ومنه إلى ممر فصحن، يخرقان الصحون والممرات حتى كلا من المشي وانبهرا، لكثرة الرجال والسلاح، ثم أدخلا على الخليفة المقتدر، الجالس على سرير ملكه، وحوله الأولياء وقوف على مراتبهم، فلما دخلا قبّلا الأرض ووقفا حيث استوقفهما الحاجب، فأديا الرسالة، فأجابهما عنه الوزير وانتهت المقابلة، وأتبعها ذلك بعطاء آلاف الدنانير، فحُمل إلى كل واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صلة لهما، وخرجا مع المترجم من حدود البلاد.

          فهل نتساءل بعد ذلك - وتلك الصورة تعبر حكايات تتناقلها الألسن عبر طريق الحرير، عما كان في ذهن ملك الشمال حين أرسل إلى الخليفة ما أرسل؟ وكما كانت تلك الصورة عن بغداد فاعلة في تشكيل ذهنية ملك الشمال، فقد كانت مدعاة لابن فضلان، القادم من عاصمة الترف والحضارة، أن يقلل من شأن ما يراه، ويستثير التعجب من حياة «الصقالبة» سكان الشمال في أوربا، على أطراف نهر الفولجا، الذين تقع عاصمتهم على مقربة من «قازان»، اليوم.

الخروج من قازان

          المطر يشتد حينا فيهطل أو يخفت أحيانًا، فيتحول إلى رذاذ يداعب واجهة الحافلة التي تحركت في الصباح الباكر من قازان، عاصمة جمهورية تتارستان، باتجاه قرية البلغار التاريخية. ليس الفولجا وحده النهر الذي يصادفنا ويصاحبنا، فهناك نهر تركناه هو كازانكاه، ولو لم تكن رحلتنا برية لوصلنا عبر نهر كاما، الذي يتسع أحيانا فتخاله بحرًا.

          ها نحن نتجه إلى البلغار، وتتناوب الأذن على سماع أدلة الرحلة، السيدة رئيسة جاريفا التي تعشق المنطقة التاريخية، الدكتورة نورية كراييفا التي تحكي عن رحلة ابن فضلان، المترجمة روشانيه عفيفا التي تزور المنطقة - مثلي - للمرة الأولى.

          أكاد أعرف الآن السبب في خط رحلة ابن فضلان المتعرج، لقد انطلق الرجل وقافلته عبر طريق الحرير، فالموقع الإستراتيجي لمدينة قازان أهَّلها للدخول في طريق القوافل التجارية، ومع السجاد الذي حمله التجار بين القرنين السابع والثامن الميلاديين، شهد حوض نهر الفولجا تواصلا مع الشرق والتعرف - على عاداته ودينه - شاملا الممالك العربية الإسلامية - بما سمح لملك بلغار الفولجا ألمش بن يلطوار بتشكيل أول مملكة إسلامية شمال شرق أوربا، وأن يطلب إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله أن يرسل إليه بعثة من قبله، تفقّهه في الدّين وتعرّفه في شرائع الإسلام، وتبني له مسجدًا، وتنصب له منبرًا يقيم عليه الدعوة للخليفة في جميع مملكته وسأله إلى ذلك أن يبني له حصنًا يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له، ورغم ثراء الملك البلغاري - كما يصف ابن فضلان - فإنه تعلل بأن مال خليفة المسلمين هو للتبرك اعتزازا منه بدولتهم. ويعرف الرحالة بأن ملوك الخزر - وهم من اليهود - هم أعداء الملك الذين اعتادوا البغي بل وفرض الضرائب على أهل البلاد بتحصيل جلد حيوان السمور عن كل بيت في المملكة، ويتمادى ابن ملك الخزر فيخطب من يريد من بنات ملك الصقالبة ويتزوجها غصبًا، رغم أن الخزري يهودي، وابنة الصقلبي مسلمة!

          قبيل الدخول إلى متحف ابن فضلان، الذي يشمل فضاء خارجيا ومباني داخلية، يمتد البصر إلى عمليات التنقيب، عن إنشاءات قديمة، بعضها يتضح أنه حديث يعود لمائة عام وحسب، وليس يمتد كما يأمل المنقبون إلى ألف سنة خلتْ.

          هربنا تحت المظلات من المطر الذي اشتد، وأخذت الرياح تطيح بنا، يا لها من قسوة ونحن لانزال في الخريف، قيل لي إن الشتاء يشهد وصول درجة البرودة إلى 40 تحت الصفر! تساءلت بدهشة - وقد عبرت بوابة المتحف إلى داخله - هل وصل ابن فضلان شتاء أم صيفا؟

وفدُ ابن فضلان

          الواقع أن الوفد رحل صيفا، وحل قبيل الصيف، فقد غادر بغداد يوم الخميس 11 صفر 309هـ (الموافق 21 يونيو 921م) وظل يصعد شرقًا وشمالاً مارًا بإقليم الجبال، فهمذان فمدينة الري (بالقرب من العاصمة الإيرانية طهران حاليا، وعبر نهر جيحون، فبلغ إلى بخارى، ثم آب غربا عبر الغابات والصحارى حتى وصل إلى الفولجا، عند ملك الصقالبة، يوم الأحد 12 المحرم 310هـ (الموافق 11 مايو 922م) في رحلة استغرقت أحد عشر شهرًا.

          لكنه لم ينجُ من الشتاء القارس، حيث فاجأه في الجرجانية على نهر جيحون، حتى لتتجمد لحيته بين الخروج من الحمّام والدخول إلى البيت لتصبح قطعة من الثلج، وفي بيت داخل بيت، يتدثّر بالأكسية والفراء، لكن ذلك لا يمنع من التصاق خدّه بالوسادة لشدّة البرد!

          الآن فقط - وأنا أقرأ عن شدة البرد - فسرت كل شيء. فقد دعتني قبل الرحلة السيدة زيليا فاليفا، نائبة رئيس الوزراء، والمشرفة على متاحف الكرملين في قازان، إلى زيارة معرض الثقافة التقليدية للتتار. ولاحظت أن الأزياء الكثيرة كلها للشتاء، وكأن الصيف لم يكن له موعد مع مصممي الأزياء هنا!

          شمل وفد الخليفة أربعة، أحمد بن فضلان، الذي أوكلت إليه مهمة التفقيه، وسوسن الرسّى مولى نذير الخرمي، وتكين التركي، وبارس الصقلابي، وقد بدأوا رحلتهم مع رسول ملك الصقالبة إلى بغداد، عبدالله بن باشتو الخزري. ومما أدهشني أن ملك الصقالبة أرسل رجلاً خزري الأصل، يستنجد بالخليفة العباسي ضد الخزر! ويبرر د.الدهان اختياره لمعرفته اللغة العربية، أو لثقتهم به وبحسن إسلامه. مثلما يبدو أن اثنين من أعضاء وفد بغداد يعرفان الروسية، فالأول (سوسن) يبدو في نسبته من بلاد الروس قد استجلب كرقيق ثم تعلّم العربية وحسن إسلامه، والثاني بارس الصقلابي واسمه ونسبته دليلان على أصله. وأما الثالث فهو تركي الأصل يجيد لغات الأتراك التي يمر ببلادها الوفد في طريقه إلى الفولجا، وقد كان حدادًا في خوارزم.

          ولعل ألسن أعضاء الوفد تعوض جهل أحمد بن فضلان باللغات الأجنبية، فهل كان كفؤا لما اختير له؟ الشريعة الإسلامية، والقارئ للرحلة يعرف أنه الآمر الناهي خلالها، لكن الوفد سيضم مع تلك الشخصيات الأربعة الرئيسة غلمانا ومساعدين ومعلمين. وتجدر الإشارة إلى أن الوفد - بجانب المال - حمل أدوية طلبها ملك الصقالبة، وهو ما يضيف إلى أبهة بغداد نباهة علمائها وأطبائها.

          ها نحن نقف أمام الخريطة التي تمثل المكان الذي وصله ابن فضلان. عند تلك الحدود خرج الملوك الأربعة الذين يحكمهم ملك الصقالبة، مع إخوته وأولاده لاستقبال الوفد بالطعام - كما استقبلتنا الفتيات التتاريات - بحلوى الشكشك والخبز الساخن. ثم يسير الجميع إلى الملك، فيلقونه يخرّ ساجدًا شكرًا لله عزّ وجلّ، وينثر ما كان في كمّه من دراهم على القادمين، وينصب لهم خياما يقيمون بها.

          نزور المتحف وجنباته فنتعجب من امتزاج الجديد بالقديم، بعض اللوحات الليثوجراف التي شاهدتها في متحف الكرملين مطبوعة ومعلقة هنا، هناك كذلك مخطوطات باللغة العربية، وأخرى باللغة التترية ذات الحروف العربية. حين هدأ المطر كانت إشارة للانطلاق نحو البيت التتري القديم، وفي مكان المأدبة التاريخية التي استقبلت ابن فضلان، دخلنا ذلك البيت الخشبي، فإذا بالدفء كله يعم المكان، وبدأت الأغاني التقليدية على مسرح صغير أمام المائدة العملاقة التي تمثل مأدبة تاريخية بحق.

          ما أدهشني هو وجود لحم الخيل على المأدبة. نحن لا نأكل الخيول، وما قيل عن ذبح جواد من أجل ضيف كرما هو بمنزلة نادرة عربية، حين حدثتهم دهشوا، وهم يتناولون شرائح الخيل التي تشبه دوائر رقيقة لخبز أسمر، وازدادت دهشتهم حين قلت لهم إننا نأكل في بلادنا الحمام، فهم لا يأكلونه! وهكذا كانت الغرائب البسيطة التي لاقيناها شواهد على عجائب كبيرة قابلت ابن فضلان قبل ألف عام.

          أمام الجدارية الكبيرة للملك يستقبل ابن فضلان وهو يقرأ رسالة الخليفة تأملت بدايات نص ابن فضلان: «وبدأت فقرأت صدْر الكتاب. فلمّا بلغت منه: «سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو». قلت: رُدّ على أمير المؤمنين السلام» فردّ، وردّوا جميعًا بأسرهم، ولم يزل الترجمان يترجم لنا حرفًا حرفًا. فلما استتممنا قراءته كبّروا تكبيرة ارتجت لها الأرض. ثم قرأت كتاب الوزير «حامد بن العباس»، وهو قائم، ثم أمرته بالجلوس، فجلس عند قراءة كتاب «نذير الحرمي» فلما استتممته نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة. ثم أخرجت الهدايا من الطيب والثياب واللؤلؤ له، ولامرأته. فلمْ أزل أعرض عليه وعليها شيئًا شيئًا حتى فرغنا من ذلك. ثم خلعتُ على امرأته بحضرة الناس، وكانت جالسة إلى جنبه، وهذه سنّتهم وزيّهم، فلما خلعت عليها نثر النساء عليها الدراهم، وانصرفنا.

غرائب وعجائب

          كنت في رحلة سابقة قد ذكرت كيف أنني حين وصلت بقلب الليل إلى تتارستان فاجأتني السحب المضيئة، وهي ما فاجأت بن فضلان، كذلك:

          «ورأيت النهار عندهم طويلا جدا وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار. فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة (الخيمة) وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إلا عددا يسيرا ظننت أنه نحو الخمسة عشر كوكبًا متفرقة. وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتة. وإذا الليل قليل الظلمة». وعدا ما في السماء، يتعجب ابن فضلان لما تنبته الأرض:

          «نزلنا مع الملك منزلاً، فدخلت أنا وأصحابي تكين، وسوسن، وبارس، ومعنا رجل من أصحاب الملك بين الشجر فرأينا عودًا صغيرا أخضر كرقّة المغزل وأطول، فيه عرق أخضر، على رأس العرق ورقة عيضة مبسوطة على الأرض، مفروش عليها مثل النابت، فيها حب لا يشك من يأكله أنه رمان أمليسي، فأكلنا منه فإذا به من اللذة أمر عظيم، فمازلنا نتبعه ونأكله. ورأيت لهم تفاحًا أخضر شديد الخضرة وأشد حموضة من خل الخمر، تأكله الجواري فيسمن عليه. ولم أر في بلدهم أكثر من شجر البندق، لقد رأيت منه غياضا تكون الغيضة أربعين فرسخًا في مثلها. ورأيت لهم شجرًا لا أدري ما هو، مفرط الطول وساقه أجرد من الورق، ورءوسه كرءوس النخل له خوص دقاق، إلا أنه مجتمع، يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه، فيثقبونه، ويجعلون تحته إناء فيجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل».

          وقد تتبعت آثار قصص ابن فضلان عن غرائب المخلوقات التي صادفها - أو سمع عنها - في كتب علوم الحيوان، خاصة حين ذكر أنه «بالقرب من مملكة الصقالبة صحراء واسعة بها حيوان دون الجمل في الكبر، وفوق الثور، رأسه رأس جمل، وذنبه ذنب ثور وبدنه بدن بغل، وحوافره مثل أظلاف الثور، له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير، كلما ارتفع دق حتى يصير مثل سنان الرمح، فمنه ما يكون طوله خمسة أذرع إلى ثلاثة أذرع إلى أكثر وأقل، يرتعي ورق الشجر، جيد الخضرة. إذا رأى الفارس قصده، فإن كان تحته جواد أمن منه بجهد، وإن لحقه أخذه من ظهر دابته بقرنه، ثم زج به في الهواء، واستقبله بقرنه، فلايزال كذلك حتى يقتله. ولا يعرض للدابة وبوجه ولا سبب، وهم يطلبونه في الصحراء والغياض حتى يقتلونه. وذلك أنهم يصعدون الشجر العالية التي يكون بينها. ويجتمع لذلك عدد من الرماة بالسهام المسمومة فإذا توسطهم رموه حتى يثخنونه ويقتلونه. ولقد رأيت عند الملك ثلاث طيفوريات كبار تشبه الجزع اليماني عرَّفني أنها معمولة من أصل قرن هذا الحيوان. وذكر بعض أهل البلد أنه الكركدن».

          إن هذا الوصف الذي يأتي في ثنايا الرحلة لينطبق على حيوان وحيد القرن ذي الصوف الغزير، الذي انقرض في العصر الجليدي وكان يعيش في أوربا وآسيا، وقد اختفى فيها بسبب تقلبات الطقس وصيد البشر له، فلم تبق منه سوى أعداد ضئيلة، وكان يمكن أن يلقى مصير الماموث، ويمكن أن يكون ذلك الحيوان هو ثور المسك، الذي وجد منذ 30 ألف عام.

          تعالى صوت الغناء التتري التقليدي، وكأننا نسمع السيوف التي كانت تجلجل - احتفالا بقدوم ابن فضلان. ظلت المملكة الإسلامية تكبر وتتوسع، حتى أصبحت قازان عاصمتها، وحين نقارن بين دخول الإسلام إليها في عباءة السلام، نجزع حين نشهد في المتحف الوطني لوحة تمثل غزو إيفان الرهيب لتلك المملكة الإسلامية بعد ستة قرون من العيش الآمن، - في القرن السادس عشر، يفجر أسوارها، ويذبح جنودها. لكنه التاريخ، صفحات مندّاة بدموع الفرح، وأخرى مثقلة بدماء الحزن.

          خرجتُ إلى النهر، كان المطر لايزال يهطل، عبرنا إلى مسجد يضم أكبر مصحف في العالم، وفقًا لموسوعة جينيس للأرقام القياسية. التتاريون يريدون أن يؤكدوا انتماءهم للإسلام، بأكثر من شكل، إنهم يتمسكون بتقاليده، ويضيفون إليه لمساتهم، التي تؤكد ولاءهم للدين، واهتمامهم بالدنيا، لإعمارها للأجيال القادمة.

 

 

أشرف أبواليزيد




صورة الغلاف





التتاريات حاضرات بأزياء من ألوان السماء ينتظرننا في قرية بلغار على نهر الُُفولجا وهن يؤدين لوحات حركية تقليدية





 





استقبلتنا الفتيات بحلوى الشكشك والخبز الساخن. لا شك أن ملك الصقالبة قد أولم لأحمد بن فضلان حين خرج الملوك الأربعة الذين يحكمهم ، مع إخوته وأولاده لاستقبال الوفد بالطعام عند بلغار الفولجا





خريطة تتارستان، من الأطلس الجغرافي الذي أعده جيرارد ميركاتور وجودكوس هوندوس، أمستردام، 1607م





خريطة نادرة تنشر لأول مرة التقطت صورتها من لوحة في متحف ابن فضلان. كانت مدن الخلافة الإسلامية في بغداد وحولها تسمى عربستان، وفيها يبدو اتجاه القافلة إلى الشرق في بخارى (أوزبكستان حاليا) قبل أن تعاود رحلتها إلى الشمال الغربي





أحمد بن فضلان يقرأ كتاب الخليفة العباسي، المقتدر، على ملك الصقالبة في بلغار الفولجا ألمش بن يلطوار، والرايات ترفع لفظ الجلالة والشهادتين. المتحف امتلأ بلوحات تمثل رحلة ابن فضلان، وعصره، وما بعده





أحمد بن فضلان يقرأ كتاب الخليفة العباسي، المقتدر، على ملك الصقالبة في بلغار الفولجا ألمش بن يلطوار، والرايات ترفع لفظ الجلالة والشهادتين. المتحف امتلأ بلوحات تمثل رحلة ابن فضلان، وعصره، وما بعده





المتحف مقام على شكل قبة مستقلة البناء، وهذا الشكل مستوحى من عمارة قديمة موثقة الشكل، ومستلهمة في أعمال فنية تشكيلية وليثوغراف. إنه إعادة إحياء لأول عمارة بقيت آثارها شاهدة. ويبدو أن القباب (الوبرية أو الخشبية وتلك الحجرية) كانت معروفة، يقول ابن فضلان في رحلته: فلما رآنا نزل فخرّ ساجدًا شكرًا لله، جلّ وعزّ، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قباباً فنزلناها





المتحف مقام على شكل قبة مستقلة البناء، وهذا الشكل مستوحى من عمارة قديمة موثقة الشكل، ومستلهمة في أعمال فنية تشكيلية وليثوغراف. إنه إعادة إحياء لأول عمارة بقيت آثارها شاهدة. ويبدو أن القباب (الوبرية أو الخشبية وتلك الحجرية) كانت معروفة، يقول ابن فضلان في رحلته: فلما رآنا نزل فخرّ ساجدًا شكرًا لله، جلّ وعزّ، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قباباً فنزلناها





المتحف مقام على شكل قبة مستقلة البناء، وهذا الشكل مستوحى من عمارة قديمة موثقة الشكل، ومستلهمة في أعمال فنية تشكيلية وليثوغراف. إنه إعادة إحياء لأول عمارة بقيت آثارها شاهدة. ويبدو أن القباب (الوبرية أو الخشبية وتلك الحجرية) كانت معروفة، يقول ابن فضلان في رحلته: فلما رآنا نزل فخرّ ساجدًا شكرًا لله، جلّ وعزّ، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قباباً فنزلناها





المتحف مقام على شكل قبة مستقلة البناء، وهذا الشكل مستوحى من عمارة قديمة موثقة الشكل، ومستلهمة في أعمال فنية تشكيلية وليثوغراف. إنه إعادة إحياء لأول عمارة بقيت آثارها شاهدة. ويبدو أن القباب (الوبرية أو الخشبية وتلك الحجرية) كانت معروفة، يقول ابن فضلان في رحلته: فلما رآنا نزل فخرّ ساجدًا شكرًا لله، جلّ وعزّ، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قباباً فنزلناها





السماحة عنوان العلاقة بين الديانتين؛ الإسلام والمسيحية، وسترى في مدينة كهذه تحتفل بميلاد الإسلام، كنيسة، وهو يعني أيضا احتضان الإسلام لأتباع الديانات الأخرى واحترامه لحق المؤمنين بها في ممارسة شعائرهم





من مقتنيات المتحف مخطوطات وكتب نادرة طبعت في القرن التاسع عشر، ومنها هذا الكتاب الذي يحمل عنوان (كتاب مستفاد الأخبار في أحوال قزان وبلغار)





شهادة من (موسوعة جينيس للأرقام القياسية) ممنوحة لأكبر نسخة مطبوعة من (القرآن الكريم)





زوار المتحف يلتقطون صور المصحف النادر والعملاق بطول المترين، وعرض 152سم، وسمك 6.96 بوصات، وقد طبع النسخة السلوفينيان ندجان براتاسيفيتش، وأندريه سيرناتيتش، والإيطالي ماورو لوسي، وقدم إلى المؤسسة الجمهورية لإحياء الآثار التاريخية والثقافية في جمهورية تتارستان، روسيا الاتحادية، وإلى مسجد قول شريف في قازان، في 17 نوفمبر 2011





في مدينة بلغار واحتفالا بالذكرى 1123 لاعتناق المدينة الإسلام، افتتح «أك ميتشيت» أي المسجد الأبيض، وتمت إقامته في المكان الذي اعتنق فيه بلغار الفولجا في العام 922 الإسلام، وحسب الرئيس التتاري السابق منتيمير شايمييف، فإن المسجد مستوحى من عمارة المسجد النبوي في المدينة المنورة





تقع مدينة بلغار على الضفة اليسرى لنهر الفولجا وهي المركز الإداري لمنطقة سباسك وأصغر مدنها. تبعد المدينة عن العاصمة قازان مسافة 140 كيلومترا، ومساحتها تعادل 116 كيلومترا مربعا وتعداد سكانها أكثر من 9 آلاف نسمة. تقع على مرأى البصر أنقاض مدينة بلغار التاريخية القديمة عاصمة دولة بلغار الفولجا. أما مدينة بلغار الحالية فتأسست عام 1781 وكانت تسمى آنذاك بلدة «سباسك» ومنذ عام 1935 وحتى عام 1991 كان يطلق عليها اسم كويبيشيف. اليوم ومع استعادة الهوية الإسلامية أصبحت بلغار مثل العاصمة التاريخية التي أنشئت في القرن العاشر حيث جاء ذكرها في المدونات التاريخية التي كتبها البلحي الرحالة والجغرافي العربي عام 920م، وفي عام 922 ميلادية وصلتها من بغداد قافلة ابن فضلان





بعض من رسوم تعود لأواخر القرن التاسع عشر تبين أزياء التتريين، إلى اليمين شيخ وزوجته (1862م) وأدناه حلي وأزياء تترية، تعود للتاريخ نفسه





 





طبع بواسطة يوهان جورج، من رسم للفنان يلميان كورنييف، 1810م، يمثل أميرة ناجاوية





امرأة تترية من قازان، طبع إيجور شوتنيكوف، من رسم للفنان يلميان كورنييف، 1809م





امرأة تترية من قازان، طبع إيجور شوتنيكوف، من رسم للفنان يلميان كورنييف، 1809م





لوحة تمثل غزو مدينة قازان، ويبدو في خلفية الصورة سور الحصن الحجري الذي بناه في القرن الثاني عشر البناة البلغار في مكان القلعة الخشبية. في عام 1552م اقتحمت قوات القيصر إيفان (الرهيب) قازان وجرى ضم إمارة خان قازان إلى روسيا





مجموعة من الأساتذة في المدرسة المحمدية بمدينة قازان، عاصمة تتارستان، الصورة التقطت في بواكير القرن العشرين





ترام تجره الخيول، صورة فوتوغرافية التقطت أواخر القرن التاسع عشر بمدينة قازان





أنجب التتار أعلاما أفذاذا وكان الاحتفال بهم مهيبا، يجسد نبوغهم، ويرمز للاحتفاء بعلومهم. الصورة من افتتاح النصب التذكاري لنيكولاي إيفانوفيتش في قازان، 1896م، ( ولد في نوفمبر 1792 ورحل في 12 فبراير 1856)، وهو عالم رياضيات لقب بكوبرنيكوس الهندسة بسبب الطابع الثوري في عمله. استبدل نيكولاي مسلمات إقليدس الرياضية الهندسية وقد ألهمت جرأة تحديه ونتائجه الناجحة الرياضيين والعلماء بشكل عام على تحدي "البديهيات"





 





قلادة تترية يرجح تاريخها بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، من المعدن والحجر الكريم، نقلت من متحف الاتحاد السوفياتي الشعبي (سابقا)، سنة 1948





في متحف الكرملين، أقيم عرض لحلي وأزياء التتار، ومقتنياتهم المستخدمة في الحياة اليومية، أعلاه علبة لحفظ القرآن الكريم، مصنوعة من المعدن المنقوش (والجلد، والورق، وقد أهداها للمتحف عبد الرشيدوف في سنة 1914م





مجموعة الوضوء، لصب المياه وتجميع الغسول، المصنوعة من النحاس المنقوش، من تتار القرم، اقتناها إينوسترانتسيف 1905م