أبوبكر العيادي ومصطفى عبدالله

أبوبكر العيادي ومصطفى عبدالله
        

نحن مقبلون على صراع من أجل الوجود

  • مع الأسف.. ثوار الساعة الخامسة والعشرين هم الذين اقتسموا الكعكة!
  • إنهم عازمون على تحويل «الخضراء» إلى «تونستان» .. أو «تونس آباد»
  • كتبت الرواية مقلدًا.. وغامرت في القصة باندفاع

          «اختار الروائيّ التونسيّ أبو بكر العيّادي، المقيم بفرنسا منذ سنوات طويلة، أن يركّز اهتمامَه السرديَّ على تشريح البُنى الاجتماعيّة والسياسيّة والذوقيّة التي تَحكم الواقعَ التونسيَّ بلغة لا تقف عند توصيف الظواهر بل تبلغ منها قلبَها. وإذْ يتوسّلُ هذا الكاتبُ سبيلَ التفاصيل لنظمِ معاني محكيّاتِه، نُلفيه يُغذّي فيها توقَها إلى التحرُّرِ من مواتِها الواقعيِّ، ويساعدها على هجرتِها السريّةِ من فقرِ الحالِ إلى غَناءِ الخيالِ, مانِحًا إيّاها حريّةَ التشكّلِ في إهابِ وطنٍ روائيٍّ يحرِسُ عرشَه شعبٌ من الرموزِ ويُديرُ دواليبَه جنودُ القِيَمِ الكونيّة. فإذا برواياته، مثل «آخر الرعيّة» و«لابس الليل» و«زمن الدنّوس»، تفارِقُ وظيفةَ الإخبارِ عن مجرياتِ الواقع إلى اختبارِ صدقيّةِ أنساقِه الفاعلةِ فيه، وإذا بشخوصِه الورقيّةِ تمشي في الشوارعِ وتزرع على حوافِّها نَبْتَ الحريّةِ دون ادّعاءِ الثورةِ أو السعيِ إلى رُكوبِها».

          ربما لا أجد أصدق من هذه الكلمات التي أبدعها قلم صديقي الناقد التونسي عبدالدائم السلامي تعبيرًا عن قيمة الإبداع السردي للقاص والروائي التونسي أبو بكر العيادي، الذي لم تنجح السنون الطوال التي أمضاها في فرنسا في إبعاده عن عشقه للغته العربية وإبداعه من خلالها.

          ففي مقاله الموجز الذي نشره السلامي على صفحات عدد 16 فبراير من جريدة «العرب» اللندنية يقول: «لعلّ العيّادي واحدٌ من المبدعين التونسيّين الحقيقييّن الذين عادتهم بقساوةٍ مؤسّساتُ الثقافةِ زمن الدكتاتوريّة، فصبروا ولم يفرِّطوا في انتمائهم الوطنيّ على ما فيه من مرارةٍ، وحين أُهملت إبداعاتُهم في تونس عادوا يستلهمون منها مزيدًا من الإتقانِ فيها. وهم الآن يعيشون زمنَ الثورةِ بمرارةٍ أمرَّ من الأولى نظرا لتواصل إهمالِ المؤسّساتِ الثقافيّة الرسميّة لكتاباتهم وعدم تثمينها لمجهوداتهم، إضافة إلى تغاضي مؤسّسات النقدِ عن نصوصِهم على كثرةِ ما فيها من ماءٍ زُلال».

          وربما توضح هذه الكلمات قيمة الروائي والقاص التونسي أبو بكر العيادي حفيد كل هؤلاء المبدعين والمصلحين: ابن خلدون وابن رشيق وابن عرفة والقابسي وابن منظور وابن الجزار والعزيزة عثمانة وخير الدين وابن أبي الضّيّاف وحسن حسني عبد الوهاب والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور والشابي والمسعدي.

          يلتقيه في تونس الكاتب الصحفي المصري مصطفى عبد الله، رئيس تحرير (أخبار الأدب) الأسبق.

  • هل ترى أن المثقفين التونسيين كان لهم دور في إشعال فتيل الثورة أم أنها ثورة شعبية تلقائية لا تملك قيادة ولا منظرين؟

          - في مقال له عن علاقة المثقف بالسلطة، ذهب الأكاديمي عز الدين عناية، أستاذ الأدب المقارن بجامعة روما، إلى القول إن ثورة 14 يناير لم تنشأ من فراغ، بل جاءت وليدة إرهاصات حملها على مر السنين مثقفون وسياسيون وفنانون وحقوقيون من مشارب مختلفة، وذكرني من بين أعلام كان لجهودهم وأعمالهم دور في شحذ الهمم لإسقاط النظام أو تغييره... وهو رأي قابل للنقاش. صحيح أن ثمة من السياسيين والحقوقيين والنقابيين من تصدى إلى بن علي بكل قوة طوال أعوام حكمه، ولكنها قلة قليلة جدا أمكن للطاغية إسكاتها أو تدجينها أو سجنها أو نفيها. أما الكتاب والشعراء فلا أحسب أن فيهم من يملك جماهير ضخمة أو قاعدة قراء عريضة استطاع أن يستنهض همتها لمطاولة الطاغية وخلعه، هذا إذا سلمنا بأنهم كانوا جميعا في خندق واحد ضد الجور والطغيان، فالواقع، مع الأسف الشديد، كان عكس ذلك، برغم الادعاءات والمزايدات التي نشهدها اليوم.

          وفي رأيي أن الدافع للثورة هو احتقان عام وغضب مستفحل تجاه عصابة من الجهلة الفاسقين أوجدها على سدة الحكم خطأ من تلك الأخطاء التي يحفل بها تاريخ العرب. عصابة تخطت كل الخطوط الحمر، واتخذت من الفساد شرعة تستبيح بواسطتها كل شيء، السلطة والجاه والنفوذ والمال العام والخاص... بشكل فاضح، في تحدّ صارخ لملايين الشعب المحرومة التي تسمع وترى. وتراكم الغضب الذي بلغ مداه في أحداث الحوض المنجمي في يناير عام 2008، وهي الأحداث التي استعمل فيها بن علي كل وسائل القمع دون أن يفلح في إخماد الانتفاضة، حيث واصل الناس التظاهر والاعتصام ورفع الشعارات المنددة بالظلم والفساد. فلما اندلعت أحداث 17 ديسمبر 2010، كانت النفوس تجيش بغضب فائر، سرعان ما سرى في البلاد سريان النار في الهشيم.

  • وكيف تتأمل كل هذه الثورات العربية؟

          - في غياب حرية التعبير، تعيش مجتمعاتنا على ما ينقل همسا في المجالس عن خفايا الأمور، وما ينشر في الصحف تحت ركن «سرّي جدا»، أو «سرّي للغاية» وحتى «سرّي وليس للنشر !!!» عن المسائل المشبوهة، كالصفقات والمخططات والمؤامرات... وهي في عمومها أخبار زائفة تتغذى من الإشاعة لتحويل أنظار الناس إلى وجهة أخرى. وفي رأيي أن هذا ناتج عن مصادرة الحريات حيث جرت العادة عندنا أن يستوي الخبر ونقضيه لدى المتلقي لدفعه إلى الاستمرار في إساءة ظنّه بكل شيء، حتى الحقائق التي لا تقبل الدحض. ويزيد الحاكم العربي في تعميق الهوة بالإيحاء بأن لا شيء يحدث صدفة، وأنّ ما يحدث ناتج عن نوايا أو إرادات خفية، وألا شيء في الواقع مثلما يبدو في ظاهره، وأن كل شيء متصل بعضه ببعض ولكن بشكل خاف. وهي الأركان الأربعة لـ «نظرية المؤامرة» كما حدّدها بيار أندري تاغييف.

          من هنا رأى البعض في الثورات العربية مؤامرة أجنبية (أمريكية تدار من غرفة عمليات بتل أبيب على رأي علي عبد الله صالح) لمجرد أنها توالت كوقع قــــــطع الدوميــــــنو مـــن قُطر إلى آخر. والمؤامرة هنا يصحّ فيها قول تشومسكي بأنها «كلام يقوله بعض الناس إذا كانوا لا يريدون لك أن تفكر في ما يجري في الواقع». وقد سمعناها من أفواه طغاة العرب المخلوعين مثلما قرأناها في تحاليل بعض المثقفين، وبخاصة سعدي يوسف الذي اعتبر أن خلع بن علي ثم مبارك تمّا بإيعاز من الأمريكان الذين كانوا يريدون وضع الجماهيرية العظمى بين فكّي كمّاشة، حتى يسهل الانقضاض عليها والاستيلاء على نفطها!!!

          إن المتطلع إلى الساحة العربية اليوم لا يستغرب كيف ثارت الشعوب في أغلب أنحائها، بل يتعجب كيف صبرت على القهر والظلم والفساد طوال هذه السنين ولم تنفض عنها نير الاستبداد إلا الآن. لا جدال إذن في كونها ثورة شعبية عارمة، كان اندلاعها معلقا في قدحة، فاستشرى اللهب في الجسد/ الوطن كلّه. الأسباب نفسها في كل قُطر أدت (أو ستؤدي) حتما إلى النتائج ذاتها.

  • وبعد عام على اندلاعها.. ما تقييمك للثورة التونسية؟

          - الثورة في تونس (وكذا في مصر) كان الشعب دافعها والشباب وقودها، فلما سقط الطاغية، استُبعد الطرفان وحلّ محلهما الانتهازيون، ثوّار الساعة الخامسة والعشرين لاقتسام الكعكة. وهو مصداق لقول نابليون بونابرت: «في الثورات توجد فئتان من الناس: الذين يقومون بها، والذين يستفيدون منها». ما جرى أن من أشعلوا الثورة وعرضوا صدورهم للرصاص لم يكن لهم من يمثلهم، فأضاعوا فرصة نادرة للقضاء على دولة الاستبداد وتطهير دواليبها ومحاسبة رموزها الفاسدة، مما فسح المجال لبقايا النظام البائد كي تلملم أشتاتها وتعيد ترتيب بيتها، تحت حكومة محمد الغنوشي، وخصوصا تحت حكومة الباجي قايد السبسي الذي لم يُعد أرجلَ التجمعيين إلى الرّكاب فحسب من خلال منحهم رخصا لتكوين أحزاب سياسية عوض تتبعهم قضائيا، بل حاد بالثورة عن مجراها، واستهان بالثوار وشهدائهم، وكمّم الإعلام، وأطلق يد القمع ضد المعتصمين والمتظاهرين تتعقبهم حتى في بيوت الله. ثم جاءت الانتخابات فصعد إلى سدّة الحكم إسلاميون لم يخوضوا الثورة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يملكون خبرة ولا كفاءة لتسيير شئون البلاد، فليس في سجلّهم غير تعرضهم للسجن والنفي أيام بن علي. والنتيجة أن تونس اليوم عرضة لصراع بين العلمانيين الذين ينادون بحرية التعبير والمعتقد والتمسك بحقوق المرأة - المكتسبة منذ الاستقلال - وبين الإسلاميين، السلفيين منهم بخاصة، الذين يريدون أن يعودوا بالمجتمع التونسي كافة إلى عيشة الأسلاف الغابرين (الزواج العرفي، النقاب، الاختلاط، إقامة الحدود، وحتى الأدب الحلال...) ونمط من العيش لا يستقيم في بلد يرتكز اقتصاده على السياحة بالدرجة الأولى.

          نحن الآن أمام المشهد التالي: حكومة ذات مرجعية دينية (تحاول الظهور بمظهر المعتدل باتحادها مع حزبين عديمي الوزن) يغيب النّضج عن أدائها السياسي، أحزاب تمارس دور المعارضة بشكل سيّئ، وجبهة منبثقة من حزب التجمع المنحل تعدّ العدّة من الآن بالتعاون مع ما سمّي «حكومة الظلّ» للعودة إلى السلطة. كل ذلك في ظل انفلات أمني وحالة غليان تجتاح شرائح المجتمع الفقيرة، فيما الذين يفترض فيهم قيادتها إلى برّ الأمان لا همّ لهم سوى الكراسيّ، وإيثار ذوي القربى بالمناصب.

          أمام وضع كهذا، لا يستبعد أن تشهد الثورة موجة ثانية تضع تونس على المسار الصحيح، مسار الحداثة والديمقراطية الحقّ، التي توفر الحرية لكل فئات المجتمع، وتمرّ عبر انتخابات نزيهة، لا تشترى فيها الذمم والأصوات بأموال أطراف أجنبية أيّا ما يكن مأتاها.

  • وهل بدأت تستلهم منها عملا روائيا؟

          - الثورة نفسها هي عمل روائيّ، يصوّر في درامية بارعة كيف استطاع مواطن بسيط أن يدكّ عروشا ويهزّ ممالك، ليس من خلال عمل بطولي كما في الملاحم والأساطير وسير العظماء، بل عن طريق التضحية بنفسه كتعبير عن سأمه القهر والظلم، ثم قضى نحبه وهو لا يدري أنه حين أضرم النار في جسده كان في الواقع قد أشعل فتيل ثورة سوف تجتاح المنطقة بأسرها، وتهزّ معاقل الطغيان لا في تونس وحدها بل في سائر الأقطار العربية وما وراءها.

          بقي أن نقول إن هذه الرواية، التي تلقفها الناس جميعا وآمنوا بما جاء فيها بتفاصيله المعروفة، ككل رواية، كان للخيال دور مهم في إعادة صياغتها على نحو أضفى على الشخصية المحورية بعدا أسطوريا، حتى أصبح رمزا اقترن اسمه بثورة الكرامة في كل مكان. ولو اكتفى الرواة بالواقع (كأن نقول إنه غادر تعلّمه دون أن يحصل على شهادة، وإنه لم يكن نقيّ السريرة، وإنه تطاول على الشرطية بما ينافي الحياء، وإنه كان يطفف في الميزان، وإنه أضرم النار في جسده خطأ...) لما كان لها الأثر ذاته في نفوس الناس. فالخيال إذن هو الذي يمنح الوقائع بعدا إنسانيا ولو بتحوير منطلقاتها، ومنحها دلالات عميقة. ولما كان الواقع اليوم يمور بالتفاصيل والمتغيرات المتسارعة، فلا بدّ من مسافة كي تتضح الصورة وتختمر الأحداث ثم تنضج بما فيه الكفاية، قبل أن تتحول إلى مادة لعمل فنّي محتمل.

          في انتظار عمل قد يأتي، كتبت رواية بعنوان «ورقات من دفتر الخوف»، ترصد بعض أطوار الثورة كما عاشها مثقف منفيّ، يحاول الوقوف على الأسباب التي جعلت الشعب بكل مكوناته يسكت عن الظلم والقهر ويرضى بحكم طاغية أمي فاسق طوال ما يقارب ربع قرن من الزمان.

          الاستجابة كانت أقرب في مجال القصة حيث أعددت أخيرًا مجموعة جديدة وسمتها بـ «جمر كانون»، تتلون مناخاتها بألوان الثورة، حاولت كالعادة ألا أكرّر فيها تجاربي السابقة.

  • ما سرّ دأبك على كتابة القصة بخلاف أغلب كتّاب جيلك الذين هجروها إلى الرواية بغير رجعة؟

          - الذين هجروها ربما فعلوا ذلك تشبّها بالغرب حيث الجنس الروائي مقدّم على كلّ الأجناس، حتى أننا وجدنا من النقاد من يعتبر هذا العصر هو «عصر الرواية»؛ وربّما لأنهم لم يبرعوا في القصة قدر براعتهم في إبداع نصوص روائية متميزة، فالمعلوم أن الفنّ القصصي أصعب مراسا من الفنّ الروائي، لأن القصة لها شروط صارمة، ويخطئ من يعتبرها مركبا سهلا لمجرد وجازتها وقلة شخوصها ومحدودية أحداثها.

          أنا بدأت كتابة الرواية مقلّدا، أمّا القصة فقد غامرت فيها باندفاع وجرّبت أغلب أشكال القصّ، لذلك بقيت على عهدها، أخصص لها من وقتي ومن جهدي قدر ما أخصص للرواية، ليس من باب الوفاء لحبيب أوّل فحسب، وإنّما أيضا لأن الفن القصصي، بما يتميز به من تكثيف وإيحاء وترميز أقدر من سواه على النفاذ إلى جوهر الأشياء والإمساك باللحظات الهاربة، والتقاط الجزئيّة التي تخطئها عيون الناس.

  • أنت تقيم في مجتمع غربي وتكتب باللغة العربية. كيف تعيش هذه المفارقة؟

          - المفارقة هي أن أخاطب قوما بلغة لا يفهمونها، أما في واقع الحال، فإني، في لحظة الكتابة، أكون متفردا بذاتي، أحاورها وأناجيها أو أعبّر عن همومها أو أصور موقفها من الحياة والنّفس في لغتي، لغة قومي التي ورثتها عن أجدادي الغابرين منذ العصر الجاهلي، وهذا لا يخصّ المجتمع الذي أعيش بين ظهرانيه في شيء.

          المفارقة أيضا أن أعيش في بلد لا أفقه لغته، ولا أستطيع أن أتنقل في أرجائه بغير دليل أو مترجم. وهذا أيضا لا ينطبق عليّ، لأني أتقن الفرنسية ممارسة وكتابة، ولي فيها مؤلفات للتعريف بوجه من أوجه ثقافتنا العربية، المدوّن منها والشفوي.

          أنا أؤمن بأن اللغة هوية، ومن لا هوية له، لا مستقبل له. وسواء أقمت في باريس أو في غيرها من المدن الأجنبية، فلن أبدع إلا بلغتي.

  • وفي رأيك ما هو دور الترجمة في تقليص الشقّة بين موقفنا من الغرب وموقف الغرب منا؟

          - يجب الإقرار أولا بأن ثمّة سوء معرفة بالآخر، من الجانبين معا. ثمّة صورة مشوّهة وغير واقعية عند العرب عن الغربيين، تقابلها صورة مشوّهة وغير واقعيّة عند الغربيين عن العرب، وقد ازداد البون اتّساعا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والضجّة التي أحدثها كتاب «صدام الحضارات» لصامويل هنتنجتن. فالتسمية اختزال، كما يقول علماء الاجتماع، وطمس للأبعاد والصّفات، لتثبيت صورة الفرد أو الجماعة. والاِختزال والطّمس يساعدان على التنميط، ويفرضانِ نوعًا من التجريد المؤدّي إلى العنصرية والعداء، ذلك أن صورة الآخر ليست هي الآخر، وإنّما هي بناء في المخيال وفي الخطاب، كما أنّ الصورة هي غير الواقع، وإن كان الصّراع حولها من رهانات الواقع.

          نحن نعرف أنّ كلّ ثقافة لها تاريخ عداوة، فالمحطات التاريخية لفكرة العدوّ في الثقافة الأوربية مثلًا، لا تقوم على هويّة أوربية بقدر ما تقوم على استعادة عداوات تقليدية (انظر مثلا موقف الأوربيين من انضمام تركيا إلى المجموعة الأوربية)، بينما تتغذّى عداوة العرب للغرب بالممارسات الوحشية التي أقدم عليها الاستعمار في سائر أقطار الوطن العربي، فهم يعتبرونها امتدادا للجرائم التي اقترفها الصليبيون من قبل. إنّ أهمّ ما ينبغي أن تطمح إليه الثقافات الإنسانية الفاعلة هو قبول الآخر، باعتباره مغايرا ومختلفا وشرطا للحوار، لكي لا يتحوّل هذا الحوار إلى مونولوج لا ينتهي. والترجمة هي عنصر من بين عناصر أخرى كثيرة في تذليل الخلافات وتقريب الشقة، فهي وسيلة للحوار بين الثقافات، مثلما هي عامل في الأخذ بأسباب الحضارة الإنسانية والاستفادة منها في الترقّي، فالآخَر ضروري بالنسبة إلى الطرفين، لما له من وظيفة في بلورة الهويّة وتنظيم الخصوصية.

          يقول ديكارت: «إن قراءة الكتب الجيدة هي أشبه بحوار مع شرفاء العصور المتقدمة الذين وضعوا تلك الكتب، بل هو حوار مدروس، لأنهم لا يطلعوننا إلا على خيرة أفكارهم." فالثقافة هي أفضل وسيلة للحوار بين الشرق والغرب كي يعرف أحدنا الآخر.

  • في «زمن الدّنّوس»، آخر رواية نشرت لك، عودة إلى البنية الكلاسيكية. كيف تفسّر ذلك؟

          - لي في هذا الاختيار أسباب ثلاثة، أولها أن الرواية هي جزء ثان من ثلاثية (وربما رباعية بعد أن سقط حاجز الخوف) بدأتها برواية «لابس الليل»، وقد أردتها محاولة لرصد التحولات التي شهدها المجتمع التونسي منذ الاستقلال، من خلال سيرة عائلة معوزة نزحت إلى العاصمة في مطلع الستينيات، وأقامت في حي بائس بحزام المدينة، يواجه أهله مجتمعا مدينيا رافضا. وثانيها، أن المادة في نظري هي التي تفرض شكل العمل ومعياره الفني، خصوصا في أثر ضخم ذي أجزاء متتالية تتنامى فيها الأحداث وتتطور. وثالث تلك الأسباب أن روايات غربية كثيرة لا تزال تستهدي ببنية كلاسيكية دون أن يرى أصحابها في ذلك نوعا من الردّة. يقول أحد النقاد الفرنسيين «إن الروايات التجريبية تشيخ بعد انطفاء بريق موضتها، فيما الروايات الكلاسيكية تبدو وكأنها صدرت هذا الصباح». كثيرا ما نسمع أو نقرأ آراء كتاب محدثين يدّعون الثورة على النمط البلزاكي والفلوبيري في الرواية، دون أن يتوصلوا إلى إبداع نصوص في قيمة آثار هذين العلمين الداثرين. في المقابل، كم من عمل قوبل بالاستهانة عند صدوره ثم صار مع الأيام أثرا من الآثار العالمية الخالدة (انظر مثلا كيف قابل بودلير وفلوبير ولامارتين رواية «البؤساء» التي يحتفل الفرنسيون هذا العام بمرور قرن ونصف القرن على صدورها، وكيف كان موقفهم من كاتبها فكتور هوجو الذي يعدّ اليوم خير من صوّر المجتمع الفرنسي إبّان القرن التاسع عشر).

  • هذه الرواية، وهي تتناول الاضطرابات التي شهدتها تونس أواخر سبعينيات القرن الماضي، تبدو وكأنها تعالج نهاية حكم بن علي. فهل يعدّ ذلك إسقاطا لتجنب الرقابة؟

          - ما تنقله الرواية جاء في خلفية احتقان عام بلغ ذروته يوم 26 يناير 1978 أو ما عرف في تونس بيوم الخميس الأسود، حيث أطلق الرصاص الحي لأول مرة على الشعب التونسي بأيد تونسية، بقيادة جنرال في الاستخبارات العسكرية يدعى زين العابدين بن علي، سوف يدعى في ما بعد بانتظام - كما يدعى المرء إلى مأدبة أو وليمة - لقتل الشعب في أحداث قفصة عام 1980، وفي ثورة الخبز عام 1984، وفي قمع الإسلاميين وسجنهم قبل أن ينقلب على رئيسه الحبيب بورقيبة ويستولي على الحكم في 7 نوفمبر 1987. وباستثناء عملية قفصة التي تمّت بإيعاز من المقبور معمر القذافي لزعزعة أمن تونس، فإن الأحداث الأخرى كانت انتفاضات شعبية خرج فيها الناس مطالبين بكرامة العيش والحرية، وقابلهم بن علي بالرصاص إما استجابة لأمر أسياده من حزب الدستور في ذلك الوقت، وإما استجابة لنزعة دموية متأصلة فيه.

          وما تتناوله الرواية من قضايا (تعاظم النزعة البوليسية للحزب الحاكم، اعتماده على ميليشيات وعصابات من البلطجية لخنق كل مطلب في المهد، تآكل القيم وظهور الرشوة والمحسوبية...) هي من بذور الجور والفساد والفسق ونهب المال العام التي سوف تبلغ مداها باقتران بن علي بليلى الطرابلسي، حيث يتجلى الفرد في خبثه ودناءته وشرهه وأنانيته وظلمه وقسوته وصلفه واستهتاره بكل القيم.

          تجدر الإشارة إلى أني أنهيت كتابتها في باريس، حيث أقيم، قبل أسبوع من اندلاع الثورة (يوم 10 ديسمبر 2010) ولم أكن أتخيل أن تشهد مدينة تونس وضواحيها الأحداث نفسها - تقريبا - التي صورتها في الرواية عن قمع ميليشيا الحزب الحاكم وبطش البوليس وانتفاضة شباب الأحياء الفقيرة، حزام العاصمة الأسود. فالشبه بين اليوم والبارحة كبير حدّ التماثل، وما الاختلاف إلا في دور الجيش الذي ساهم - بعزوفه عن قمع الشعب - في إنجاح الثورة ودحر الطاغية وفلوله.

  • ما هي مقاربتك للواقع؟

          - المعروف أن للواقع وجهين : الواقعي

          l- ré- l والحقيقي l- vrai، فأما الواقعي فهو كل ما يوجد في الكون، ولو أن العقل لا يدركه كما تدركه المعرفة الوضعية. وأما الحقيقي، فهو كل ما يصطفيه العقل من الواقعي ويتصور أنه موجود، أو مطابق لطبيعة الأشياء المحسوسة. وإذا كان الفن انتقاء من الواقعي في رأي البعض، فإن البعض الآخر يرفض أن ينساق وراء هذا الواقعي ويريد النفاذ إلى الحقيقي وما وراءه ليخلق عالما بديلا لا يدركه عامة الناس. فمن كان يؤمن بالواقعي، وجب عليه رسم الفرد وإبراز السمات التي تميزه، مع نبذ النظرة الذاتية والتعميم، ومن كان يؤمن بالحقيقي، جاز له أن يوضّب بعض المظاهر الخارجية للنفاذ إلى الجوهر. ومن ثمّ تباينت المدارس، واختلف الكتاب في رؤاهم وتصورهم للكيفية المثلى التي نقارب بها الواقع. وكل إناء بما فيه يرشح.

          أنا أحاول الإفادة من الاتجاهين، فلا أكتفي برسم الظاهر بل أحاول النفاذ إلى الجوهر أجلو منه حقيقة أحسب أنها كامنة فيه، كمون النار في الحجر، إذا قدحته أورى.

  • نعود إلى القصة. لو تحدثنا عن «الوجه والقفا» مجموعتك التي ستظهر قريبا في القاهرة.

          - هذه المجموعة تضمّ 14 قصة كتبتها ما بين مارس 1991 وديسمبر 2010، وهي الفترة الحالكة الّتي وضعت تونس على شفير الهاوية. وظلت كلها محظورة حتى اندلاع ثورة الحرية والكرامة التي كنست الطاغية وعصابته. مادّة تلك القصص ليست خيالا كلّها، بقدر ما هي صورة عن واقع أليم عاينت بعض مظاهره خلال زياراتي المتعاقبة إلى أرض الوطن طوال أعوام، ورصدت بعضها الآخر في الصّحف والمواقع المحظورة، مثلما هي صدى لمآسي فئات مجتمعيّة مضطهدة فاض بها القهر فاندفعت تقوّض كلّ قائم، في ثورة على غير مثال.

          قصص تصور بصدق ما كان يجري في عهد دولة الفساد، سواء في أعلى هرم السلطة أو في أسفله، في أجهزة الحكم أو في الفضاء العام، بعد أن خرّب الاستبداد كلّ شيء بانتهاج سياسة الاحتواء والتّدمير، حيث أفرغ المثقّف من طاقته على التّعبير عن وجدانه وضميره ومجتمعه بحرّيّة، ودمّر فيه ملكاته الفطريّة وقدراته المكتسبة لخلق شروط التطوّر. نصوص كتبتها للفضح والتنديد فقابلتها الصحف الخاضعة لسطوة الرقيب بالمصادرة، وكذا دور النشر، حتى خارج تونس.

  • ألا تخشى أن تزداد الرقابة حدّة بوصول الإسلاميين؟

          - المدّ الأصولي لا يهدّد حرية الإبداع وحدها بل يهدّد المجتمع برمّته، في نمط عيشه وفي طرائق تفكيره وحتى في حريته الفردية، فدعاته يروّجون لدين مستورد لا يعرفه التونسيون، وشعائر غريبة لا عهد لهم بها. هؤلاء قوم تبنّوا المذهب الوهابي، فجاءوا لتغيير ملامح الشخصية التونسية، وطمس طاقة التنوير فيها، وفرض فكر أحادي لا يقبل التعددية ولا يعترف بالرأي الآخر. وإذا كان زعماء النهضة يظهرون ما لا يبطنون، فإن أنصارهم من السلفيين يعلنون جهارا عزمهم على تحويل الخضراء إلى تونستان أو تونس آباد، بتغيير عاداتها وتقاليدها وطرق تفكيرها وحتى في لباس رجالها وذقونهم، ويتوسلون في ذلك بالاستفزاز والترهيب وتكفير من يخالفهم الرأي. وكلاهما، أي النهضة والسلف، لا يبحث عن عقد اجتماعي يلتقي حوله المواطنون بقدر ما يسعى إلى عقد إذعان، يحيل المواطن إلى رعية خانعة خاضعة تأتمر بأمر حاكم يستند إلى دين من وحيهم كي يعيد قاطرة التقدم إلى الخلف، ويعيد شعب تونس إلى عصور الانحطاط.

          إن تونس التي أنجبت ابن خلدون وابن رشيق وابن عرفة والقابسي وابن منظور وابن الجزار والعزيزة عثمانة وخير الدين وابن أبي الضّيّاف وحسن حسني عبدالوهاب والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور والشابي والمسعدي... ترفض الخضوع لجماعة تمارس ترهيب المبدعين وتكفير الفكر، جماعة تعيد إنتاج الجهل وتعتبر أن شرّ الأمور محدثاتها في عالم يبتكر في كل فجر طالع وسائل مذهلة، وأن كل بدعة ضلالة والحال أن أفرادها يستعملون مستحدثات الغرب «الكافر» في كل نشاط يقومون به، حتى التواصل في ما بينهم.

          نحن مقبلون على صراع من أجل الوجود، صراع بين التقدم والحداثة والتنوير، وبين التخلف والجهل والظلامية، من أجل مستقبل أبنائنا وبناتنا، ومستقبل تونس.    





أبوبكر العيادي و مصطفى عبدالله





أعمال العيادي.. العربية ونسخها المترجمة









نعوم تشومسكي





العيادي في لقاء تليفزيوني