ملف محمود درويش: لاعب النرد.. سيرة تتحدى السرد

  ملف محمود درويش: لاعب النرد.. سيرة تتحدى السرد
        

          هذه إحدى قصائد محمود درويش التي كتبها في أواخر أيامه، وما من شك في أنه كتبها وهو على وعي أن أجله قد بات وشيكًا، وأن ما تبقى لديه من وقت لمزيد من العطاء لم يعد كافيًا للتعبير عن الكثير مما يريد التعبير عنه ضمن مشروعه الذي نذر نفسه من أجله منذ أيام الصبا، كثيرًا ما يختار كبار المبدعين السطو على الزمن بفصل أو أكثر من سيرة حياتهم تكون أشبه بخبر المبتدأ، حتى لو كان ناقصًا.

          مبتدأ القصيدة يوحي بالكثير من خبرها: فقوله: «من أنا لأقول لكم/ما أقول لكم» فيه بداية إنكار للذات الشخصية التي يتحدث عنها الشعراء عادة، مرديين ما في نفوس القرّاء من أشكال الإعجاب بإبداع الذات الشاعرة، وكأن الحديث عن الذات الشخصية يأتي مكملاً أو مؤكدًا للذات المبدعة. من البداية إذن يوهمنا محمود درويش أو المتكلم في قصيدة «لاعب النرد» بأنه شاعر لا شأن له جماهيريًا على الأقل أنه إنسان عادي وربما أقل من العادي، وأن حياته كلها من أولها إلى آخرها هي صدفة، أو كما وصفها في حديث سابق عن القصيدة، رمية بغير رام، أشبه برمية نرد تأتيك بما لا تعرف. والقصيدة في ظاهرها تفاصيل تؤكد أن حياة المتكلم في مجملها مجموعة من الصدف تنأى عن العبقرية والإبداع والموهبة والمعرفة، وما إلى ذلك من صفات الشاعر العبقري!

          كأن بمحمود درويش يقول إنه ليس على سبيل المثال شاعرنا الكبير المتنبي الذي يقول

أنام ملء جفوني عن شواردها
                              ويسهر الخلق جراها ويختصم

          «بل أنا إنسان عادي جاء إلى هذه الدنيا بمحض الصدفة وعاش حياته صدفة، والقصيدة برمتها تجعلنا نستذكر بيت الشعر الذي يرد في أناشيد باوند، والذي يحفظه المعجبون بالشاعر، إذ يقول مخاطبًا نفسه والعالم أجمع: «اعمل معولك في غرورك». وربما أجد لزامًا نقل النص بالإنجليزية لمزيد من دقة التعبير: Pull down thy vanity.

          ويمكن قراءة القصيدة في سياق ما يعرف بالمونولج الداخلي الذي يمثله إليوت خير تمثيل، وخصوصًا أنه ارتقى به من الحالة التقليدية للمونولوج التي كانت تقوم على مجرد نقل أحاسيس الشخصية التي يتحدث عنها الشاعر، كما نجد عند براوننج في العصر الفكتوري بالقرن التاسع عشر. لم يكن الشاعر في المونولوج التقليدي أكثر من واسطة بين شخصية المونولوج والمتلقي، وكأن الشاعر في هذه الحالة يتجسس على مشاعر وأحاسيس الشخصية لينقلها إلى القارئ في غُفْل عن وعي الشخصية نفسها بالموضوع. فالنقلة النوعية التي حققها إليوت في هذا المضمار، التي أصبحت علامة مميزة في الشعر الحديث والحداثة بشكل عام، هي أنه جعل الشخصية ذاتها تعبّر لنا عن وعيها بمشاعرها وأحاسيسها من دون واسطة بينها وبين المستقبل، وهذا ما يسمى بمسرحة الحالة الداخلية للشخصية، وقد اكتسب إليوت هذه التقنية من الشعراء الفرنسيين أمثال مالارميه ورامبو، بهذا ارتقى إليوت بالشعر من الوصف التقليدي إلى التمثيل الدرامي الذي يهدف إلى جعلنا نرى بأنفسنا ما يعانيه المتحدث فعلاً لا قولاً (أو وصفًا)، وهو يمثل شعور المعاناة كما يعيشها ويتمثلها في وجدانه. هذا ما نراه في قصيدة «أغنية حب للعاشق بروفروك»، إذ يضعنا إليوت على اتصال مباشر مع الصراع الداخلي الذي يعيشه بروفروك من دون حاجة إلى تلك السلطة التقليدية التي كان الشاعر يمارسها في التعامل مع قصيدة المونولوج لوصف ما يعتمر بداخلها.

          وبالمثل يجعلنا نستقبل قصيدته «صورة سيدة» و«الفتاة الباكية»، إذ نشعر بأننا نواجه الشخصية من خلال مونولوج داخلي وكأنها تقف على المسرح ليس لتبوح إلينا بالمسكوت عنه، بل لتوضح لنا كيف تعيش تجارب الحياة المختلفة مختزلة المسافة التقليدية بيننا وبين النص من خلال إحلال هذه التجارب معاشة محل الوصف الكلامي (Verbal) الذي يُبقي على التجربة في حالة التجريد.

درويش وإليوت

          والمعروف أن محمود درويش كان من أكثر المعجبين بإليوت، وصرح في أكثر من مناسبة بأن إليوت من أشهر شعراء القرن العشرين، وبأنه ترك أثرًا بالغًا في الشعر الحديث. وإذا كان إليوت قد ساهم مساهمة جليلة في تقديم الحداثة في الشعر العالمي، فإن محمود درويش قد تبوأ الصدارة في مشهد الحداثة في الشعر العربي من خلال تحويله الحدث المعيش إلى تجربة معيشة تنطق بوجودها وهي ماثلة في وجدان صاحبها وممسرحة أمام مشاهدها ومستقبلها ليصبح الشاعر نفسه ليس مجرد مراقب أو راو للحدث، بل مساهم في خلق الحدث من جديد وكأنه يحصل فعلاً في زمن حاضر مستمر عبر الأزمنة المحدودة.

          فبدلاً من أن يقول محمود درويش «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا..» يقول أنا ابن قدر أعمى تولى مهمة وجودي في هذا الكون من دون أن يكون لي نصيب فعلاً في صنيع ما صنع. هل كان عنوان مسرحية بيرنارد شو «رجل الأقدار» (A Man of Destiny) في ذهنه، ليكتب قصيدة بالعنوان نفسه، وليقول لنا أنا لست نابليون «لأقول لكم ما أقول»؟ ربما كان في ذهنه قول بروفروك في قصيدة إليوت «أنا لست الأمير هاملت وليس في حسابي أن أكون كذلك..»، لكن محمود درويش ذهب إلى أبعد من ذلك، فقال «أنا مثلكم/أو أقل قليلا». وربما تجعلنا هذه القصيدة نستذكر عبارة محورية وردت في موسم الهجرة إلى الشمال، إذ يقول مصطفى سعيد «أنا لست عُطيلاً» وذلك لينفي صفة الرومانسية عن شخصية المغربي العربي في العلاقة بين الشرق والغرب، كما توضحها مسرحية شكسبير. بالمثل يمكننا القول إن محمود درويش بداية يريد أن يستقصي العلاقة الرومانسية التي تظهرها أحيانًا حياة الشاعر الشخصية مقارنة بإنجازه الشعري.

          ولا يسعنا إلا أن نلاحظ أن محمود درويش حقق في هذه القصيدة أقصى درجات الحياد الفني في المسافة التي تفصل بين الذات الفاعلة وبين موضوع حديثها، وهي المسافة التي أشار إليها إليوت كفاصل وهمي يقع بين الذات التي تمر من خلالها تجربة الإبداع والعقل الذي يتعذب نتيجة انشغاله بعملية الإبداع. يقول إليوت إن الانفصال الوهمي في طرفي عملية الإبداع يولد ألمًا لا مفر منه يقع على ذات الشاعر الفاعلة. مَن منا لا يشعر بالألم المبرّح ممسرحًا الذي يمر به بروفروك والسيدة والفتاة الباكية في قصائد إليوت الثلاث التي سبق ذكرها؟ يقول وهو يروي سيرة حياته الذاتية في رواية ديكنز «الآمال العظام» إنه يروي ما يرويه الآن (الإشارة إلى زمن الإبداع الحاضر الذي يروي فيه قصته) بخفة لم تكن حاضرة عندما حصلت أحداث الرواية الفعلية (والإشارة هنا إلى الزمن الماضي الذي حصلت فيه الأحداث). وربما تسعفنا العبارة بلغتها الأصلية: I tell this lightly now but it was no light thing to me.

          هل يمكننا القول إن محمود درويش أحرز سيطرة على مشاعره تتسم بحيادية ربما تفوق حيادية إليوت، الذي كان يقصد من إظهار الألم الذي تعيشه شخصية المتحدث أن يجعلنا نحس بأن الألم ذاته الذي يتعرض له المتحدث لا الحديث عنه من قبل شخص آخر هو بيت القصيد في صورة المونولوج الحديث؟ وكأن محمود درويش يدعونا لمشاهدة العجب العجاب في ما وضعته الأقدار، صور متلاحقة أشبه بالقصيدة التصويرية (Imagist) أو التقنية السينمائية أو ما يشبه بتقنية الكولاج أو الموزيك التي يبعث فينا تلاحقها أو تجاورها أو توازيها إحساسًا غريبًا بقوة القدر اللامنطقية التي لا تعرفها ولا نتعرف عليها من دون أن تظهر لنا عيانًا وبكامل جبروتها، فهي ليست سيرورة بقدر ما هي ظاهرة حدث يحدث بعيدًا عن إرادتنا ونوايانا. وهذه بعض صور القدر تنطق بجبروتها المستقل عن الإنسان.

          أنا لاعب النرد،
          أربح حينًا وأخسر حينًا
          أنا مثلكم
          أو أقل قليلاً..
          ولدت إلى جانب البئر
          والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات
          وُلدتُ بلا زفّةٍ وبلا قابلةٍ
          وسُمّيتُ باسمي مُصادفةً
          وانتميتُ إلى عائلةٍ
          مصادفةً،
          وورثتُ ملامحها والصفاتْ
          وأمراضها..

***

          كان يمكن أن لا أكون
          كان يمكن أن لا يكون أبي
          قد تزوّجَ أمي مصادفةً
          أو أكون مثل أختي التي صرخت ثم ماتت
          ولم تنتبه
          إلى أنها وُلدت ساعةً واحدةْ
          ولم تعرف الوالدةْ..
          أو: كبيض حمامٍ تكسَّرَ
          قبل انبلاج فراخ الحمام من الكِلْس

***

          كانت مصادفةً أن أكون
          أنا الحيّ في حادث الباص
          حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّةْ
          لأني نسيتُ الوجود وأحواله
          عندما كنت أقرأ في الليلِ قصَّةَ حُبٍّ
          تَقَمَّصتُ دور المؤلف فيها
          ودورَ الحبيب - الضحيَّةْ
          فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ
          والحي في حادث السيرِ

          وتتلوها صور «الولد الطائش» الذي أنقذه «نورس آدميّ» عندما رأى الموج يصطاده ويشل يده.

          أما الصورة التي تكاد تشكّل ذروة الصور في القصيدة بكل ما فيها من قامة شاعرية تجعلنا نحس بأننا أمام كابوس يصارعه الصبي بكل جوارحه، فهي الحادثة التي ينجو منها مصادفة من هدف عسكري، هنا نرى الصبي الهارب من الدورية وجهًا لوجه يصارع أشكال الرعب وحركاته وتموجاته التي تلقي بظلالها على أحاسيس صبي يقابل جبروتًا يمكن أن ينقض عليه في أي لحظة ويخفيه من الوجود. هذا هو المشهد:

          من أنا لأقول لكم..
          ما أقول لكم
          عند باب الكنيسةْ؟
          ولستُ سوى رمية النرد
          ما بين مفترسٍ وفريسةْ
          ربحت مزيدًا من الصحوِ
          لا لأكون سعيدًا بليلتي المقمرةْ
          بل لكي أشهد المجزرةْ
          نجوتُ مصادفةً: كنتُ أصغرَ من هدف عسكريّ
          وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياج
          وخفتُ كثيرًا على إخوتي وأبي
          وخفتُ على زمنٍ من زجاجْ
          وخفتُ على قطتي وعلى أرنبي
          وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجدِ العاليةْ
          وخفتُ على عنبِ الداليةْ
          يتدلّى كأثداءِ كلبتنا..
          ومشى الخوفُ بي ومشيتُ بهِ
          حافيًا، ناسيًا ذكرياتي الصغيرة عمّا أريدُ
          من الغد - لا وقت للغد -
          أمشي/أهرولُ/أركضُ/أصعدُ/أنزلُ/أصرخُ/
          أنبحُ/أعوي/أنادي/أولولُ/أُسرعُ/أُبطئ/
          أهوي/أخفُّ/أجفُّ/أسيرُ/أطيرُ/أرى/لا أرى
          أتعثّر/أصفرَّ/أخضرُّ/أزرقُّ/أنشقُّ/أجهشُ/
          أعطشُ/أتعبُ/أسغبُ/أسقطُ/أنهضُ/أركضُ/
          أنسى/أرى/لا أرى/أتذكرُ/أسمعُ/أُبصرُ/
          أهذي/أُهلوس/أهمس/أصرخُ/لا أستطيع/أئنُّ/
          أجنّ/أضلّ/أقلُّ/وأكثرُ/أسقط/أعلو/وأهبط/
          أُدمَى/ويغمى عليّ/
          ومن حسن حظّى أن الذئاب اختفت من هناك
          مصادفةً، أو هروبًا من الجيش

          كل هذه الشاعرية المكثفة توضح لنا ما يمتلكه محمود درويش من قدرة هائلة تمكّنه من الغوص في أعماق القدر وحوادثه، ومن ثم السيطرة على مشاعر الرعب، ويحملها ولو إلى حين تمهيدًا للتعبير عنها، لتحيا شعرًا يظل شاهدًا على معاناة الصبي وهو يصارع الأقدار غير المتكافئة. صحيح أن نجاة الصبي صدفة جاء بها القدر، لكن المهم ليس فقط في هذا المشهد فقط، بل في القصيدة كاملة، هو قدرة الشاعر على أن يرى أبعاد صوره وهي تشكل نفسها وتترك وقعها على تشكّله، وكأن حدوثها مجرد شرارة تشعل فتيلاً يضيء الواقع القدري بكل ما فيه من غموض.

***

          كيف تقرأ «لاعب النرد»؟ إحدى القراءات يمكن أن تبدأ بتفكيك مبتدأ القصيدة الذي هو - في اعتقادي - يشكّل بداية إشكالية القراءة للقصيدة، إذ تكمن هذه الإشكالية في العلاقة بين القائل أو المتكلم أو المتحدث أو محمود درويش: «من أنا لأقول لكم» والقول «ما أقول لكم» ولو أردنا المزيد من التفكيك لقلنا إنها علاقة ثلاثية يتقاطع فيها القائل مع القول أمام المخاطب، وهو نحن: المستقبلين للقائل وقوله الذي يشمل القصيدة برمتها. هذا المبتدأ أشبه باستفهام استنكاري، ونستذكر مع هذا المبتدأ أيضًا ما نادى به رولاند بارت بشأن العلاقة بين المؤلف والنص والقارئ في أطروحته التي ذاع صيتها وحظيت باهتمام المحدثين والحداثة وعنوانها «موت المؤلف» (مجازًا طبعًا) وإحلال القارئ مكانه كوريث شرعي من خلال النص الذي خلّفه المؤلف. توضح القصيدة بتفاصيل أحداثها أن القائل (أو المؤلف) كاد يختفي من الوجود لولا القدر أو الأقدار التي أبقت عليه حيًا. ولو قرأنا القصيدة من خلال فكرة محمود درويش الأثيرة لديه وهي «في حضرة الغياب» لتوجه اهتمامنا إلى نص فيه من الحيادية ما يجعلنا نشعر ضمنيًا بأن النص في حد ذاته غني عن حضور مؤلفه، وأن القصيدة تطبيق عملي لأطروحة بارت. يوحي لنا مبتدأ القصيدة أن الشاعر يتنكر لذاته (أو يبدو كذلك) كفاعل في البقاء على قيد الحياة، لأنها مثل رمية النرد فعل قدري خارج عن أجندة الحياة المنطقية التي يتعامل معها الإنسان بإرادة حرة. إذ توحي القصيدة في ظاهرها أنها تعبّر عن حالة قدرية توازيها لعبة النرد التي لا تشي بشيء قبل رمي حجارة النرد أمامنا على طاولة النرد. لكن محمود درويش لا يمكن أن يكون اهتمامه فقط تقديمًا إلى لعبة القدر التي يلعب بنا كلعبة النرد التي نلعبها أنفسها. وهو في الوقت ذاته لا يصنع من القدر ولعبته ميتافيزيقا تدعو إلى التأمل الذي يمكن أن يقودنا إلى ردود فعل متباينة نحو القدر تنتج عن افتراضات تبدأ ولا تنتهي، كأن نسأل: ماذا لو جاءت الرمية على غير ذلك؟ ماذا لو أصاب سهم القدر هدفه وانتهى كل شيء؟ إلى آخر ذلك من تكهنات تمتد مكانًا وزمانًا خارج ما توصلنا إليه لعبة القدر في النهاية.

ثلاثة مستويات

          لكن هذا الجانب الظاهر من القصيدة - الذي يخطف الأبصار من الوهلة الأولى التي نستقبل بها القصيدة - ليس هو «السماء الأخيرة» التي تقصدها القصيدة في رحلتها. هذا الجانب ما هو إلا مظلة تخفي وراءها خطاب القصيدة الذي لا يظهر على السطح، بل يتشكل هذا الخطاب بداية من قدر ثنائي مركب: الأول هو القدر العادي المألوف الذي نواجهه ونردده ونستسلم له وهو قدر مشترك بين البشر ولا مفر منه، يسيّرنا ولا نسيّره، يكاد يلجم أفواهنا لأنه خارج خطاب القدر زمانًا ومكانًا. ليس هذا هو القدر المنشود فعلاً في القصيدة حتى لو بدا كذلك. القدر الذي يشكّل نقطة الارتكاز في القصيدة هو القدر الذي جاء بالآخر مغتصبًا لوطن محمود درويش. وهذا ما يوضحه وجود الأحداث المتعلقة بهذا القدر في القصيدة، التي ينجو منها محمود درويش بمحض الصدفة القدرية.

          ويمكن تصنيف القدر في «لاعب النرد» إلى صنفين: الأول ذلك القدر الغاشم الذي جاء «بشعب الله المختار» إلى هذه الديار بمخطط مرسوم لترحيل أهلها بشتى الوسائل، والثاني هو ردة فعل طبيعية مناهضة للقدر الأول كضرورة غريزية للحفاظ على البقاء الذي جاد به القدر على المتكلم، أي أن القدر الغاشم يولّد مقاومة هي أيضًا قدر لا مفر منه. وهكذا ينشأ الصراع الذي يعطي القصيدة مقاصدها الدرويشية، والذي يشكل المرجعية الرئيسة في شعر درويش بداية من تلك القصيدة «سجّل أنا عربي» إلى «حاصر حصارك لا مفر». وبالرغم من أن هذه المرجعية تتخذ أشكالاً تتباين في درجة الكشف عن مضمونها الصريح، فإنها تظل حاضرة حتى وهي غائبة، وقد عاش محمود درويش مسكونًا بها ولها في شعره وحياته.

          وفي هذا السياق تقدم لنا «لاعب النرد» قراءة من ثلاثة مستويات تتلاقى وتتقاطع في قراءة شمولية. المستوى الأول هو ما يمكن أن نسمّيه دلالية الدال أو المدلول، وهو ما ينتهجه المنهج الشكلاني أو البنيوي الذي نتعرف من خلاله على ما تسقطه الإشارة الدالة من مغزى ليصبح مدلولاً، وهي فعل لغوي ينتج عن علاقة شكلانية تكمن حدودها في نظام لغوي معيّن: «من أنا لأقول لكم/ما أقول لكم» ومن خلال تفكيك بنية المبتدأ هذه تتكشف لنا حرفية هذه البنية، وهي أن المتكلم ليس ذلك الشخص المناسب الذي توكل إليه مهمة نقل ما يقول، ربما لأنه غير مؤهل لعملية التوصيل أو التواصل مع بقية الخلق الذين ينتظرون التعرف على ما عنده من قول ينتظر التوصيل من خلاله. أي أن المتكلم يقدم اعترافًا يوهمنا بأنه صريح وأن جهة أخرى غيره هي الأنسب للقيام بالمهمة. وفي موضع لاحق في القصيدة يردد الاعتراف نفسه، نيابة عن الآخرين من أمثاله (وربما يقصد هنا من بني جلدته): «أنا مثلكم/أو أقل قليلاً..». ولتأويل هذا الاعتراف، أستذكر ما قاله محمود درويش في آخر لقاء معه بحضور فيصل درّاج: هل تعلمون لماذا نحن مقصّرون في عرض قضيتنا على الملأ؟ لأننا نؤمن بأننا أصحاب حق، ما يجعلنا نفتر في شغل أنفسنا بإستراتيجية دفاعية، هذا ما يفسح المجال أمام مَن يعتدي على الحق لأنه يجد نفسه في موقف يستلزم حشد ما يلزم وما لا يلزم من المبررات لتثبيت ما هو ليس أصلاً حقًا له.

          لكن ظاهر القول وحرفيته لا يمكن أن يكونا هو المغزى أو الهدف الذي يسعى إليه محمود درويش، مهما تكشف لنا من مقولة يصنعها بصنعه نظام البنية اللغوية، فإنكار الذات والاعتراف الصريح بقلة شأن المتحدث هما دالة لدلالة أشمل أثرًا وهي أن القول أو النص هو صاحب الشأن الأكبر، وهو الذي يجب أن يتولى أمر توصيل نفسه من دون وسيط خشية ألا يصيبه الاختزال ويصبح أحادي البعد. وربما يجدر بنا هنا أن نستذكر كلمات كوتزي في روايته «عصر من حديد» التي يقول فيها الراوي: «أروي عليكم ما أرويه ليس لأستدر عطفكم، ولكن لأجعلكم ترون بأنفسكم ما يحدث»، بالمثل ينسحب هذا على القائل في القصيدة، ليس ليقول لنا إنه مجرد ذات لا فاعلية لها، بل ليجعلنا نلاحظ ولو بطريقة غير مباشرة أن انسحابه من الموقف يأتي ليفسح المجال لحضور النص كقوة أبلغ في قولها من المتكلم الذي ربما لا يساعده القدر على القيام بالمهمة، أي أن حضور النص أقوى من حضور قائله أو ناقله، وهو الذي يقرّبنا إلى الحدث وفعله، وهو القدر الشاهد على الوقيعة، فلو قضى القائل نحبه قدرًا فلن يقضي القول الذي يخلفه فعلاً وشرعًا.
---------------------------------------
* أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في الجامعة الأردنية.

 

 

 

محمد شاهين*   
 




 





 





أريد الرجوع فقط.. إلى لغتي في أقاصي الهديل