ملف محمود درويش: أطوار الفراشة.. (ثلاثة مشاهد من رحلة محمود درويش)

ملف محمود درويش: أطوار الفراشة.. (ثلاثة مشاهد من رحلة محمود درويش)
        

          من بداية ستينيات القرن الماضي وحتى آواخر العقد الأول من هذا القرن، ظل محمود درويش يصل شعره بساحة الوقائع الكبرى والصغرى من حوله، يحيا في قلب هذه الساحة، ويشهد تغيراتها وتحولاتها، ويتأملها ويتقصى أبعادها، ويسائلها ويسائل شعره، وينظر ويعيد النظر. وقاده هذا، إلى أن يكون واحدًا من المبدعين القلائل، في تاريخ الأدب الإنساني كله، الذين امتلكوا قدرة استثنائية على مجاوزة وتخطي ما أبدعوه من قبل، بما جعل تجربتهم الأدبية تتجدد معالمها أكثر من مرة، أو بما جعل رحلتهم الإبداعية تنهض على «نقلات» واضحة، وكأن هناك «حيوات» عدة عاشوها، أو كأن هناك «أطوارًا» فنية متباينة مروا بها.

          من هنا، تصلح استعارة «أطوار الفراشة»، أو الهيئات المتباينة التي يتغير ويتحور خلالها الكائن الواحد، مدخلا مناسبًا لمقاربة مسيرة محمود درويش الشعرية الحافلة، وإن لم تكن هذه الاستعارة قانونًا محكمًا، صارمًا، ملزمًا لكل القراءات الممكنة لمعالم هذه المسيرة، وإلا تحولت هذه الاستعارة إلى سجن آخر جديد، يضاف إلى سجنين هائلين تحرك بينهما محمود درويش طيلة حياته كلها: سجن تمثَّل في وطنه السليب الذي اقتُلع منه، وعاش فيه بعض فترات من حياته غريبًا مكبلاً بشروط المحتل، وسجن آخر تمثل في بلدان العالم الواسع الذي كان - لفترات غير قصيرة - ساحة مترامية الجهات لمنفاه الاختياري أو القسري.

الشاهد المتجدد

          في هذا السياق وهذا الحيز، يمكن التوقف عند بعض مشاهد من أطوار ثلاثة أساسية مرت بها رحلة درويش الشعرية: الطور الأول تمثل في قصائد دواوينه الأولى التي نشرت في فترة الستينيات، ابتداء من «عصافير بلا أجنحة» في العام 1960، وتمثل الطور الثاني في الدواوين التي نشرها منذ أوائل فترة السبعينيات وحتى أواخر التسعينيات تقريبًا، والتي بدأت بديوانه «أحبك أو لا أحبك» في العام 1972، أما الطور الثالث فتمثل في دواوينه المتأخرة التي نشرت خلال العقد الأول من هذه الألفية.

          من طور لآخر، خلال هذه الرحلة، تباينت قسمات شعر محمود درويش، وتنوعت صياغاته، كما اختلفت تصورات درويش عن ذاته، وعن جماعته، وعن الشعر نفسه، وطبعًا تعددت زوايا تناوله لقضية وطنه المحتل. والملمح الأوضح في هذه الرحلة، بأطوارها، يرتبط بـ «التجدد» الإبداعي الذي ظل يلاحق، طيلة ما يقرب من نصف قرن، تغيرات كبرى خارج الإبداع، ما جعل شعر درويش شاهدًا شعريًا عربيًا مهمًا، إن لم يكن الشاهد الأهم، على التغيرات الكبرى في عالمنا خلال تلك الفترة الطويلة.

المعالم الأولى:

          تجلت معالم الطور الأول لشعر درويش في دواوينه: «عصافير بلا أجنحة»، «أوراق الزيتون» 1964، «عاشق من فلسطين»، 1966، «آخر الليل» 1967، «العصافير تموت في الجليل» 1969. وعوالم هذه الدواوين ترتبط بما قبل «خروج» درويش من فلسطين إلى «المنافي الواسعة». تشكلت سمات المشهد الأساسي في قصائد هذا الطور من عناصر بسيطة، كان من بينها غضب واضح على ظلم هائل بيّن، لم يعرف التاريخ مثيلاً له، وصل إلى حد الاستيلاء على وطن بأرضه وسمائه وحياة أصحابه، كما كان من بين هذه العناصر تفاؤل يسانده يقين مطلق، يشارف حدود الحتم، بعدالة سوف تتحقق، أو بإيمان بزمن قادم معه سوف يعود الحق لأصحابه، كذلك كان من بين هذه العناصر غناء بسيط وواضح ينشد هذا كله شعرًا سهلاً، يهتم بـ «التوصيل» وسيلة للتأثير والمشاركة، ويتخّذ سلاحًا حقيقيًا في معركة الحق والباطل. وفي شعر درويش، خلال هذا الطور تكاد تختفي المسافة بين صوت الفرد وصوت الجماعة التي يمثلها ويعبر عنها، فيتجاور كثيرًا ويندمج أحيانًا ضمير الـ«أنا» وضمير الـ «نحن»، دونما انفصال أو اغتراب.

          ينبثق الغضب نتيجة طبيعية للوضع الجائر، فمع صلب الأب على «حذاء مهاجر» ومع «ذلّ الراية القتيلة»، يسأل الشاعر قارئه أو يسائله: «علامَ لا تغضب؟» (قصيدة الحزن والغضب)، ويلوح الغضب سلاحًا مهددا أحيانًا: حذار حذار من جوعي/ ومن غضبي» (قصيدة بطاقة هوية)، كما يبدو الغضب مكونًا أساسيًا من مكونات الحياة نفسها: «غضب يدي../ غضب فمي../ ودماء أوردتي عصير من غضب!»، ويرتسم الغضب أيضًا بشارة بعصف قادم سوف يجتاح هذا العالم: «حسبي بأني غاضب/ والنار أولها غضب!» (قصيدة إلى القارئ).

          العالم الجائر الذي يدفع إلى الغضب يسلب أيضًا الأحلام البسيطة القانعة بالغناء: «كان حلمي بسيطًا (...) أن أقول الأغنية» (قصيدة الصهيل الأخير). يستثير هذا الحلم ويدعمه يقين مطمئن ببزوغ ثورة قادمة حيث «كل أرض ولها ميعادها، كل فجر وله موعد ثائر!» (قصيدة عن الأمنيات). ومن الآن، وحتى حين هذا البزوغ، سوف تتصل خطوات الحياة الواثقة، «ستظل للزيتون خضرته» (قصيدة عن الصمود). وإذا ما استدعت الحياة القائمة نقيضها، الموت، فإن مجابهة هذا الموت حق، والغناء لفرح حق، لأن العاصفة قائمة بوعودها: بالأنخاب الجديدة و«بأقواس قزح» (قصيدة وعود من العاصفة)، وحينئذ سوف يشهد الشاعر، وجماعته، ميلاد صباح الوطن (انظر قصيدة أغنيات إلى الوطن).

          تتأسس كتابة درويش، في قصائد هذا المشهد الأول، على تصور يرى أن الشاعر يمتلك سبل السيطرة على حاضره، بكل ما فيه وعلى الرغم من كل ما فيه، لأنه يمتلك رؤية المستقبل ويحوز أداة أساسية من أدوات بلوغه: الشعر الذي هو «دم القلب/ ملح الخبز، ماء العين»، الشعر الذي «يكتب بالأظفار/ والمحاجر/ والحناجر»، فيخلق «اللحن المقاتل» (قصيدة تحد)، والذي يقترن بالنار (انظر قصيدة عاشق من فلسطين). الشعر هنا يمكن أن يكون، «إزميلاً في قبضة كادح/ قنبلة في كف مكافح»، أو «محراثًا بين يدي فلاح» وقميصًا أو بابًا أو مفتاح» (قصيدة عن الشعر). ولأن الشعر سلاح بهذا المعنى، يجب أن يكون فاعلاً، وأن يستمد فاعليته من قدرته على «الوصول»، أي من بساطته ووضوحه، فالقصائد، في ما يقول الشاعر بصوت جماعة الشعراء: «إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت/ وإن لم يفهم البسطا معانيها/ فأولى أن نذّريها/ ونخلد نحن للصمت» (قصيدة عن الشعر).

اكتشاف الرماد:

          ابتداء من دواوينه «أحبك أو لا أحبك» 1972، «محاولة رقم 7»  في العام1973، «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» 1975، وحتى دواوينه التي نشرت خلال الثمانينيات ثم التسعينيات، أطلت من قصائد درويش معالم أخرى، هي علامات على «رحلة» جديدة لها حدها الفاصل، بدأ بها زمن وانتهى معها زمن، وارتبطت باكتشافات مريرة. صاغ درويش إدراكه لهذا الحد الفاصل بعبارات واضحة: «ومرحلة بأكملها أفاقت ذات حلم/ من تدحرجها على بطن الهزيمة (قصيدة طوبى لشيء لم يصل). في هذا الزمن الجديد تتناءى عن الشاعر جنته المأمولة، ويخرج «من غبار الأكاذيب» ومن «قشور الأساطير» ومن اطمئان الحلم المراود، إلى أرض ممتدة كمتاهة شاسعة خارج وطنه، يجوبها ملاحقا بحصار تلو حصار. ينفصل عن ماضيه الأول، أو - بعبارته - «أسرّح الماضي وأعجنه ترابًا» (قصيدة تلك صورتها وهذا انتحار العاشق)، ولكنه لا يستطيع، ولن يستطيع أبدًا، أن ينتمي إلى زمن لم يعد له، ولا إلى أماكن لم تكن له أبدًا. وعلى الرغم من كراهيته للميناء، التي أفصح عنها في ما قبل رحيله من وطنه للعالم الواسع: «أحب البرتقال، وأكره الميناء» - (عاشق من فلسطين)، فإن الموانئ والمطارات والمدن الغريبة سوف تغدو مستقرة في هذا العالم الممتد. سيشعر، مرة، بجسده غريبًا غير شرعي، في مطار غريب «يعج بالبضائع والناس» (قصيدة كأني أحبك)، وسيضيع حصانه، مرة، «في درب المطار»، (قصيدة أحمد الزعتر)، وستقترن المنافي بمناديل الحداد (قصيدة أعراس)، وسيعتاد التعايش مع ممارسات حياة كل ما فيها قصير موقوت: «إنا تعلمنا اللغات الشائعة/ ومتاعب السفر الطويل إلى خطوط الاستواء/ والنوم في كل القطارات البطيئة والسريعة/ والحب في الميناء/ والغزل المعدّ لكل أنواع النساء» (قصيدة قتلوك في الوادي).

          في شعر هذا المشهد، تتشابه الشهور والسنوات، وتتداخل الخرائط، ويتصاعد الإحساس بجنازة كبيرة ممتدة من المحيط إلى الخليج، عبر عواصم العالم العربي التي بات الشاعر يراها «زبدًا» (انظر قصيدة طوبى لشيء لم يصل)، ويغدو «الرمادي» شارة على مدن بأكملها (انظر قصيدة أحمد الزعتر)، أو يغدو اختزالاً لألوان الأشياء جميعًا «الرمادي هو البحر/ هو الشعر/ هو الزهر/ هو الطير/ هو الليل/ هو الفجر» (قصيدة الرمادي). أما الحبيبة، التي كانت حاضرة وقريبة من قبل، فهي تستوي الآن والسراب، أو هي «السراب الضوء والضوء السراب». وهكذا يُمحى الفاصل بين الحضور والغياب، أو بين العمى والبصيرة، في مشهد مراوغ تتصدره مفردة «كأن»، وتغيب أو تتغيّم معه كل رؤية ممكنة: «دمهم أمامي/ لا أراه/ كأنه وطني/ لا أراه/ كأنه طرقات يافا/ لا أراه» (قصيدة طوبى لشيء لم يصل)، وتحال، أخيرًا، الحياة بأكملها إلى محض انتظار طويل.

          «الأنا» وقد انحسر عنها تماسكها القديم، وراوغها يقينها الأول، وأصبحت رهينة الانتظار والتساؤل، تتصدر قصائد درويش في هذا الزمن الجديد «المكلس» الذي ينتهي دائمًا إلى «انهيارت» (انظر تلك صورتها وهذا انتحار العاشق). يقول الصوت المتكلم: «أنا المتكلم الغايب»، ويرى أنه: «لا لون لي/ لا شكل لي/ لا أمس لي» (تلك صورتها..)، ويتشكك في حلمه القديم وفي غنائه الذي ضاع سدى (انظر قصيدة كأني أحبك)، ويدافع وطأة إلحاح التساؤلات المثارة بداخله ومن حوله: «أين سماسرة كل المنابر؟/ أين الذي كان... / ما الذي يجعل الريح شوكًا، وفحم الليالي مرايا؟» (قصيدة أنا آت إلى ظل عينيك)، ويؤول كل سعي سعاه نحو مستقبل كان مؤكدًا إلى محض «محاولة»، بل تغدو الحياة بأكملها نحو «محاولة»: «نحاول ألا نموت معك» (يقول لعبدالناصر بعد وفاته، في قصيدته الرجل ذو الظل الأخضر). وفي هذه الوجهة تتردد كلمة «المحاولة» ترديدات لافتة في قصائد هذا المشهد، بنبرة تستعيد تجربة «سيزيف»: «لماذا نحاول هذا السفر» (قصيدة أحبك أو لا أحبك)، «السفح أكبر من سواعدهم/ ولكن.../ حاولوا أن يصعدوا/ والبحر أبعد من مراحلهم/ ولكن.../ حاولوا أن يعبروا..» (قصيدة طوبى لشيء لم يصل). وترتيبًا على ذلك كله، ستكون للشعر صيغة أخرى ومكانة أخرى، معهما ستنحو القصائد منحى التركيب والدائرية والتعدد الصوتي والحواري، وسيعيد الشاعر النظر في إيمانه السابق بمضاء سلاح الشعر ولغته الواضحة: «وأشعار الحنين إلى الوطن/ لا ماؤها يروي/ ولا أشواقها تكون/ ولا تبني وطن» (قصيدة قتلوك في الوادي)، «لن تفهموني دون معجزة/ لأن لغاتكم مفهومة/ إن الوضوح جريمة» (قصيدة الخروج من ساحل المتوسط).

شحوب العالم:

          المشهد الأخير في مسيرة محمود درويش الشعرية تناثرت معالمه عبر دواوينه المتأخرة: «جدارية» 2001، «حالة حصار» 2002، «لا تعتذر عما فعلت» 2003، «كزهر اللوز أو أبعد» 2005، «أثر الفراشة» الذي نشر في 2008 (سنة رحيله)، ثم «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، الذي نشر بعد رحيله بعام. في قصائد هذه الدواوين تتراءى ملامح أخرى للذات وللعالم وللوجود وللزمن وللوطن وللأماكن وللشعر، وتعلو نبرة حكمة أخيرة لا تخلو من أسى والتباس، ومن صفاء أيضا. الذات ستكابد الانقسام بدرجة أكبر: «يرنو إلى مرآته/ فيرى غريبًا مثله/ يرنو إليه» (قصيدة غريبان - أثر الفراشة)، «وأحيا/ كأني أنا/ أو سواي» (قصيدة أنتبه)، و«أنا المسافر داخلي/ وأنا المحاصر بالثنائيات»، «من أنت، يا أنا؟ في الطريق/ اثنان نحن، وفي القيامة واحد» (قصيدة جدارية). وسيمتد هذا الانقسام من الذات إلى جماعتها كذلك: «نمشي كأنا سوانا» (قصيدة الطريق إلى أين)، ومع مزيد من غياب الوضوح سوف تتزاحم دلالات الالتباس والظن: «أظن/ ولا إثم في مثل ظني/ أني/ بخيط حرير أقص الحديد..» (قصيدة أظن)، ثم سوف يحط ويخيّم نوع من «شبحية» ما على كل أحد وعلى كل شيء: «لا أنت أنت، ولا /سواك/ أين (أنا) في عتمة الشبه؟/ كأنني شبح/ يمشي إلى شبح» (قصيدة مناصفة).

          هذا المشهد الأخير في شعر درويش هو أيضا مشهد التساؤلات المعلقة، حول الوجهة والطريق، دونما إجابة: «كم البعيد بعيد؟/ كم هي السبل؟» (قصيدة كم البعيد بعيد)، «أين نحن إذن؟ نحن سكان هذا/ الطريق الطويل» (قصيدة الطريق إلى أين). كما سوف تتخلل هذا المشهد الأخير، في مقابل التفاؤل القديم، بعض ظلال من إحساس بالعبث واللاجدوى: «هو اللاشيء يأخذنا إلى لا شيء»، فاشتقنا إلى عبثية اللاشيء» (قصيدة عن اللاشيء)، وبعيدًا عن الإيمان الأول بحتمية ما، سيتراءى تسليم بالمصادفة والحظ: «كان يمكن ألا أكون/ كان يمكن ألا يكون أبي/ قد تزوج أمي مصادفة»، «ليس لي أي دور بما كنت/ أو سأكون../ هو الحظ. والحظ لا اسم له.. إلخ» (قصيدة لاعب النرد)، ثم باختزال أخير سوف يوضع الأمل توأما لليأس: «من حسن حظ المسافر أن الأمل/ توأم اليأس» (قصيدة لاعب النرد).

          رنا محمود درويش إلى مشهده الأخير، وأدرك القانون الذي يصوغه ويكمن وراءه: التغير الذي طال ذاته وجماعته كما طال العالم من حولهما. لقد اعترى التغير معنى الزمن ومعنى المكان، وطنا أو منفى: «جرت مياه كثيرة في الوديان والأنهار/ ونبتت أعشاب كثيرة على الجدران» (قصيدة أثر الفراشة). وفي هذا الزمن، «طبيب العاطفيين..»، الذي يستطيع أن يحوّل «الجرح ندبة، ويحوّل الندبة حبة سمسم» (قصيدة أثر الفراشة)، والذي تداخلت في حركته الدائبة المسارات والاتجاهات (ليس الأمام أمامه ليس الوراء وراءه) (قصيدة جهة المنفى)، أصبحت الذات ضيفًا عابرًا على عالم عابر: «بحياء، أحيا، كما لو كنت ضيفا على/ غجري يتأهب للرحيل» (قصيدة حياء). وخلال هذا التحول الذي جعل الصلة بالعالم شاحبة كل هذا الشحوب، يمكن أن يثار السؤال حول الشعر الذي آمن صاحبه في مشهد بعيد بوضوحه وبقدرته الكلية، ثم تشكك في هذا الإيمان في مشهد غير بعيد.

          في هذا الطور الأخير من رحلة درويش، يتراءى الشعر ماثلاً خارج السيطرة، وتقريبًا يتكافأ والوحي: «لا دور لي في القصيدة/ غير امتثالي لإيقاعها» (قصيدة لاعب النرد).

          ويأتي إلى الشعر غموضه من مصدر آخر غير الالتباس، من المعنى ذاته الذي تكشَّف عن دروب وأعماق خفية: «الطريق إلى المعنى، مهما تشعب وطال/ هو رحلة الشاعر. كلما ضللته الظلال/ اهتدى!» (قصيدة بيت القصيد)، كما لم يعد الشعر الآن، في هذا العالم متزلزل الأركان، يمتلك قدرته شيئا من قدرته النافذة القديمة: «وليس في وسع القصيدة/ أن تغيِّر ماضيا يمضي ولا يمضي/ ولا أن توقف الزلزال» (قصيدة جدارية).

إطلالة أخيرة:

          هذه المشاهد من أطوار مسيرة درويش، بأحلامها وباكتشافاتها وبإخفاقاتها، وأيضا بإبداعها الذي ظل يلاحق تغيرات عالم لم يتوقف أبدًا عن التحول، هي تعبير عن انتقالات في رحلة «طبيعية» لشاعر كبير مرهف الاستجابة، متجدد الصوت والرؤى. لم يبدأ درويش رحلته من انشغال مسبق بختامها، وإنما عاشها خطوة فأخرى، منتهيا إلى حيث يجب أن ينتهي، مؤمنًا بأن المسعى ليس أكثر من خطوات الوصول إليه. وما من خاتمة سعيدة في الشعر، لأن الخاتمة السعيدة خارجه لم تأت بعد.

          في قصيدة من قصائده المتأخرة، في مشهده الأخير، أطلّ محمود درويش على الخطى التي قطعها، وعلى المسار الذي اجتازه: «إذا كان لي أن أعيد البداية أختار ما اخترت: ورد السياج/ أسافر ثانية في الدروب التي قد تؤدي وقد لا تؤدي إلى قرطبة (...) أعود، إذا كان لي أن أعود، إلى وردتي نفسها وإلى خطوتي نفسها/ ولكنني لا أعود إلى قرطبة» (قصيدة إذا كان لي أن أعيد البداية). وفي هذه الإطلالة خير صياغة لإدراك درويش أنه قد اختار مسيرته كلها، وأنه قد مضى في الوجهة التي كان عليه المضيّ فيها. لا نبرة من ندم، ولا مراجعة للوجهة، ولا رهان سوى على الحلم، حتى لو كان هناك ما يومئ إلى أن هذا الحلم غير قابل للتحقق في حياة كانت قصيرة نسبيًا، وإن لم تكن أبدًا حياة عابرة.
---------------------------
* ناقد من مصر.

 

 

 

حسين حمودة*    




 





اكتب تكن.. واقرأ تجد.. وإذا أردت القول فافعل.. يتحد ضداك في المعنى