ملف محمود درويش: الفتنة باللغة في خطاب محمود درويش
ملف محمود درويش: الفتنة باللغة في خطاب محمود درويش
فَتَن محمود درويش أهل زمانه باللغة في تجلياتها المباشرة في خطابه، وذلك حديث ذو شجون يتناوله بالتفسير المشتغلون بالنقد والأسلوبية والأدب الحديث. يتراءى لنا ولكثيرين غيرنا أن محمود درويش يشبه المتنبي في أنه «ملأ الدنيا وشغل الناس» وقيل في تفسير سيرورة شعر المتنبي بل خلوده إنه كأنما كان ينطق بلسان كل إنسان في كل زمان ومكان. وكان ذلك شأن محمود درويش في سيرورة شعره، إذ وجد القراء في صوته الخاص صوتهم الخاص والعام، وذلك أيضًا حديث ذو شجون. ولكن وجها لغويا خالصا من «التناص» بين المتنبي ومحمود درويش قد يصلح مدخلا لهذا الحديث ذي الشجن أو الشأن المحدد. ومثاله لدى المتنبي قوله يمدح سيف الدولة في إنجازه «الخارق» لما ينويه: إذا كان ما تنويه فعلا مضارعًا وتأويله أن المتنبي قد استثمر العلم بالنحو ووظّف قواعده ودلالاتها (تحويل «لم» الفعل المضارع بما هو دال على الحال أو الاستقبال إلى معنى الماضي)، ونقل العلم بالنحو بألفاظه الاصطلاحية لدى النحاة إلى بيانه الشعري أو جعل النحوي الخالص شعرًا خالصًا. ويتناص درويش والمتنبي في مثل هذا أو قريب منه حيث يقول درويش: «في دمشق ويفترق التناص بينهما أو يتفق على وجهه الصحيح، إذ إنه يتجاوز ظاهر اللفظ (الفعل المضارع) وظاهر التوظيف (تحويل النحو شعرًا)، ذلك أن الفعل المضارع عند المتنبي ينكفئ إلى الماضي، وينحصر المعنى في صفة سيف الدولة فردًا. أما عند محمود درويش فالفعل المضارع ينفتح على الماضي الأموي كأنه حاضر (يواصل أشغاله الأموية) متقدمًا نحو المستقبل في مشهد إنساني يندغم فيه الفرد بالجماعة. وذلك هو شأن فعل المضارع عنده لا ينكفئ إلى الماضي بل «يواصل أشغاله اليدوية في ما وراء الهدف» كما ورد لديه في سياق بعيد آخر. ويندغم النحوي لديه بالشعري حتى لينشئ النص الشعري مستثمرًا دلالة الجملة الاسمية على الثبوت والوضع القارّ، ودلالة الفعل المضارع على التجدد والحدوث ليعبّر عن واقع سكوني آسن، وتوق إلى الانعتاق منه بالانطلاق والفعالية. يقول في قصيدته: «هي جملة اسمية»: «هي جملة اسمية، لا فعل فيها أو لها ... وليت للفعل المضارع موطئا للسير خلفي أو أمامي حتى في موقف الحيرة العاطفية، في موقف تختلط فيه السعادة والحرج، في كلمته في مدرسة كفر يا سيف، حينما عاد بعد ثلاثين عامًا، يكون الجليل الجميل: مبتدأ الكلام وخبره. إذ يحمل للمصطلح من إسار النحوي إلى فضاء الشعرية بامتياز، يصبح المبتدأ مفتوحا على دلالات شتى كالدلالة على بداية التاريخ أو نشأة الشاعر، ويكون «الكلام» لفظا مفتوحا على دلالات شتى كالدلالة على «التاريخ» أو الدلالة على سيرة الشاعر المندغمة في سيرة الجماعة، ويكون الخبر هو ما تحكيه حال الشاعر المندغم في حال الجليل الآن.. إلخ. وكما أطلق محمود درويش المصطلح النحوي وقواعد النحو من صرامتها إلى فضاء الشعرية المفتوح، فاندغم النحوي بالشعري، واشتبك بالحرف، مادة اللغة الأولية، واستنطقه واستبطن أسراره، وأيقظ الدهشة به. وتستفيض في خطابه موارد «الحرف» أصل الخلق والإبداع لديه. فهو يستحضر «اشتباكه» الأول مع الحرف في مرحلة الطفولة ويكشف طفرة الطفولة في فطنتها وشغفها باللعب ما ضل عن معلّمي العربية الذين رأوا في الحرف شيئا لا معنى له، ولا معنى لأن يكون أول البدء به في تعليم الأطفال القراءة. يقول محمود درويش في وصف تجربته الأولى مع الحرف في سياق نص طويل: «حين يُجْمع حرف إلى حرف، أي عبث إلى عبث، يسفر غامض الشكل عن وضوح صوت ما، ويفتح هذا الوضوح البطيء مجرى لمعنى له صورة، فتصير ثلاثة أحرف بابا أو دارا. وهكذا تبني حروف خاملة، لا قيمة لها إذا افترقت، بيتا إذا اجتمعت. يا لها من لعبة! يا له من سحر!. يولد العالم تدريجيا من كلمات. هكذا تصير المدرسة ملعبا للخيال. ستشم رائحة الوتد من حرف التاء المربوطة كبرعم يتفتح، وستتذوق طعم التوت من جهتين: من التاء المتصلة ومن التاء المفتوحة كراحة اليد. الحروف أمامك فخذها من حيادها والعب كالفاتح في هذيان الكون، حُكَّ حرفا بحرف تولد نجمة، قرِّب حرفا من رف تسمع صوت المطر، ضع حرفا على حرف تجد اسمك مرسومًا كسلم قليل الدرج..». وقد استوطنته هذه الفتنة بسرّ الحرف وسحره. فحين أراد أن يمثّل سيرته ويحفظها اتخذ اسمه (محمود) فحلله إلى حروفه، وانسالت الحروف من تجردها الأصم وابلا من المفردات التي تكثف وقائع سيرته إلى المنتهى: «واسمي، وإن أخطأت لفظ اسمي ويمثل الحرف (الأبجدية) لوحة اللغة الرمزية لديه ولوحة التجربة في أطوارها ينسقها بتسلسل: ألف. باء. وياء .... ألف. دال. وياء وواضح أنه ينعقد مع الألف على التسلسل باء وجيم ودال (أبجد) مفتاح الأبجدية، ويمتد الألف إلى الياء رمزين للبدء والنهاية دون الانتهاء. بل إنه في ذكرى الفقد (ذكرى ممدوح عدوان) يكون أول ما يحضر ولعه بالحروف واللعب بالكلمات مشغوفين بالمفارقة التي تندغم فيها الدعابة والأسى، فهو يستفتح كلمته بالقول. «على أربعة أحرف يقوم اسمك واسمي لا على خمسة أحرف لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج إليها أثناء السير على الطريق الوعرة». ويمضي قائلا: «ولدنا لنتدرب على اللعب البريء بالكلمات». والحروف عنده كسائر الكائنات يستمد منها صوره «جلست أريحا مثل حرف من حروف الأبجدية في اسمها». وكذلك شأن الكلمات عنده، فهي تمثل مادة للصورة الشعرية، شأنها شأن مظاهر الطبيعة: «للنهايات مذاق القمر البني، طعم كلمات عندما تحفر في الروح مجاريها وتنشف». وهي ماثلة في اللوحة التي يرسم ما يطل عليه في فضاء المكان ودورة الزمان، فيها يَمْثُل أصدقاء المساء، والنورس، والشجر، والجنود والوردة الفارسية، والأنبياء القدامى، وأبو الطيب المتنبي.. إلخ، إذ يقول في تفاصيل تلك اللوحة: «أطل على جذع زيتونة خبأت زكريا إن ما يختزنه خطابه من فيض معرفي جدير بدراسات مفردة. وإنما يعنينا هنا أنه ينبئ عن وعي لساني طريف وفقه لغوي تليد، وحسبي أن أورد مثالا واحدا ينبئ عن أنه وقف على نظرية ابن جني في الاشتقاق الكبير التي أقامها على فكرة التقاليب، تقليب أصل من ثلاثة أحرف على وجوهه الستة وردّ المستعمل منها إلى معنى جامع مشترك. ومن أمثلة ذلك عنده ك ل م، وذلك أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على الشدة، والمستعمل منها أصول خمسة وهي ك ل م، ك م ل، ل ك م، م ك ل، م ل ك. ومثالنا لدى درويش هنا أنه وقف إلى المعنى الذي تنظمه بيروت فساقه على النحو التالي: فسرّ ما يلي: بيروت (بحر - حرب - حبر - ربح). أما اللغة بمعناها المتعارف في مألوف الناس فهي مفتاح خطابه. وهي في تواترها لديه تمثل كل ما لقيه في مأزقه الوجودي. وهو يصف ببيانه الفذ وقائع هذا المأزق المتمثل في «الاقتلاع الكبير من المكان» و«المنفى في الوطن» و«إنكار الهوية» و«مصادرة الحرية». إنه يصف بمرارة ساخرة وقائع هذه المعاناة التي كادت تنكر وجوده! فهو يلوذ باللغة (أُمَّا) (ولدت من لغتي تدريجيا) وهو شخصية (أنا لغتي أنا). وهي «حرية» تحرره حين يطبق عليه الخريف. وهي هوية عربية «أنا عربي». الهوية لديه هي العروبة. يذكر أنه سبقت الغزو الصهيوني (للبنان 1982) عودة الكثيرين من المثقفين إلى أصدافهم الإقليمية والاحتماء بالطائفة. ويقرر بإزاء ذلك «أننا جزء من الثقافة العربية الوطنية لا جزيرة فيها، لذلك لم نقبل أن يكون صوتنا هو صوت الهوية الضيقة». إن إعلان الهوية بما هي العروبة في صرخته المدوية يقترن بوقائع أخرى من مواجهة الآخر: يقول في بواكير شعره: ويشتمنا أعادينا: ثم يمضي في التحدي بالدلالة على قدرتنا على بناء الحياة والمستقبل والإبداع. وهي هوية تغتني بإبداعها في الماضي الباقي على الزمان: «هذه لغتي ومعجزتي عصا سحري، حدائق بابلي ومسلتي وهويتي الأولى ومعدني الصقيل» «هي لغة من حوار السماء مع القدس». وهو ينزه اللغة عن التبعية. إنها سمة الهوية المستقلة النقية. فإذا أنكر على امرئ القيس لجوءه إلى قيصر الروم احترس بأن خلافه معه «غير لغوي» ويتمثل أنه كان ينبغي أن يقال له: «ماذا صنعت بنا وبنفسك؟ فاذهب على درب قيصر وحدك وحدك وحدك، واترك لنا ههنا لغتك». واللغة هي حياته ووجوده الحقيقي، حين أفاق من المخدر وأحس بالعجز وأُنْسيَ أعضاءه ووظائفها لم يعبأ بذلك كله «فاتركوا كل شيء على حاله وأعيدوا الحياة إلى لغتي (أخاف على لغتي) بل يهذي ويصرخ بالممرضة: لا أريد الرجوع إلى أحد وهي وعيه لذاته، فوقدها يسلمه إلى العدم «لقد استبد بي هاجس النهاية منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة.. إذ خيل إلي - بفعل التخدير - أنني أعرف الكلمات وأعجز عن النطق بها فكتبت على ورق الطبيب «لقد فقدت اللغة» أي لم يبق مني شيء.. فمن أنا بلا لغة؟». وقد مثّلت اللغة لديه قوة فاعلة، فمنذ شبابه المبكر كان يحدس بأن في وسع اللغة أن ترمم ما انكسر، ويعلن في ديوانه الأول «أوراق الزيتون» الذي صدر في العام 1964: آمنت بالحرف نارا لا يضير إذا كما أيقن منذ البدء أن «الأغنية» أقوى من «السلطان» فاتخذ الكلمة سلاحه. «وقد تحفظ اللغة الأرض مما يلم بها من غياب إذا انتصر الشعر». وهو يكتب الشعر ويبني عالما ينهار حوله و«كلما انهار جدار حولنا شاد بيوتا في اللغة» ويستذكر «البدو القدامى حينما استولوا على الدنيا.. بكلمة». وقد يماري الناظر في قوله: آن لي أن أبدل اللفظة بالفعل، فيرى أنه أراد غير ما يفهمه النحاة، فهم يرون أن الباء تدخل على المتروك وأن المستفاد بمعنى العبارة زعمه على جعل اللفظ بدلا من «الفعل». ولكن واقع الحال يشهد بأن التعبير يوافق فهم النحاة، إذ كأن محمود درويش اتخذ اللفظ وهو الشعر بدلا من الفعل المادي المتعارف عليه وباللفظ (الشعر) حقق ما لم يحققه الفعل. أو فعل يهز رئيس وزراء دولة الاحتلال كما هزَّه وقلقل سكينته قول محمود درويش: عابرون في كلام عابر. وقد حسم هذا الخلاف ودفع هذه الثنائية، ثنائية اللفظ والفعل أو القول والعمل بعبارة الناس هذه الأيام في سياق آخر، إذ يقول: أنا من تقول له الحروف الغامضات: وكأنما كان يحدس بهذا المعنى منذ البدء، إذ كان معياره لشاعريته في ديوانه الأول «أوراق الزيتون 1964» تُسر خلانه وتغيظ أعداءه.واستمر لديه حلمه المقيم بقدرة الشعر على التغيير: كتبت عن الحب عشرين سطرا فخيل ليّ مثلت اللغة في خطاب محمود درويش هاجسا مركزيًا ممتدًا يستحضرها في صيرورة هذا الخطاب عبر وجوده في هذا العالم ويهجس بها وهو في الأبيض على برزخ الأبدية البيضاء، إذ يسأل في ما يسأل عن أحوال الأبدية: وما لغة الحديث هناك، دارجة لكل الناس أم عربية فصحى؟.
|