أول وكيل استعماري في ديار العرب: عبدالله إبراهيم

 أول وكيل استعماري في ديار العرب: عبدالله إبراهيم
        

          لم يتنكّر أحد من الرحّالة الغربيين إلى ديار العرب كما تنكّر الإسباني «دومينغو فرانثيسكو باديا» فلم يقتصر ذلك على انتحال اسم عربي ذي دلالة دينية، كما هو شائع بينهم، إنما جرى تزوير معتقده، وأصله، ودوره، والهدف من رحلته، وبلغ رتبة عالية من المجازفة في ادعاء الانتساب إلى سلالة رفيعة الشأن، كالأسرة العباسية التي حكمت دار الإسلام من بغداد مدة تزيد على خمسة قرون، فاتخذ لنفسه اسم «علي باي العباسي» وسعى إلى محو كل ما يحيل على ماضيه، وزوّر شخصية جديدة، وطاف بلادا كثيرة، بدأها بالمغرب، ثم ليبيا، فمصر، وبلاد الشام، وبلغ ذروة ذلك حينما حجّ محاطا برعاية شريف مكة في العقد الأول من القرن التاسع عشر، بوصفه أميرا مسلما ينتسب إلى السلالة النبوية.

          وحيثما وصل «باديا» مارس خداعا منقطع النظير في تضليل مضيّفيه وحاشيته وخدمه، صغارهم وكبارهم، وخلال ذلك واظب على إرسال تقارير سرية إلى كبار رجالات الدولة في إسبانيا أو فرنسا، حول الفرص المتاحة لاحتلال المغرب أو مصر، وأخيرا الهند، مرفقا كل ذلك بوصف جغرافي موسّع عن المناطق التي زارها. وظلت شخصيته الحقيقية مجهولة في الغرب إلى ما بعد نحو نصف قرن من وفاته، ما خلا حفنة من رجال البلاطين الإسباني والفرنسي, أفضت جراءة باديا إلى تأسيس علاقات رفيعة المستوى بالشخصيات السامية في بلاده وغيرها من البلاد التي ارتحل فيها، وظلّ على صلة بكبار الشخصيات إلى آخر حياته، وربما يكون لويس الثامن عشر، ملك فرنسا بعد المرحلة النابوليونية، هو آخر الرجال العظام الذين التقى بهم، وتلقّى منهم طلبا للعمل، لكن تكليفه بالعمل في المغرب لمصلحة إسبانيا كان قد صدر من طرف رئيس الوزراء الإسباني مانويل دي غودي (1767-1851) ووافق عليه ضمنا الملك كارلوس الرابع (1748-1818), وخلال وجوده في المغرب جاسوسا متنكرا بإهاب رحّالة وعالم، كان من جلساء سلطانها مولاي سليمان (1760-1822) الذي استقبله كما يستقبل أمير مسلم منفي، فكان أن احتفى به مواظبا على رعايته وحمايته، ثم منحه قصرا منيفا تقديرا له وللسلالة التي ينتسب إليها. وفي كل ذلك كشف عن مثابرة منقطعة النظير في التخفّي والطموح، وكما أنه كان يريد أن يعمل لحساب رعاته في إسبانيا أولا، ثم فرنسا بعد ذلك حينما احتلت بلاده، فقد كان يتطلع إلى العمل لحسابه الشخصي في استملاك البلاد التي رحل إليها، فيجعل من نفسه أميرا عليها أو حتى ملكا لها، ومن نكد الدنيا عليه أنه أخفق في كل ما سعى إليه، سواء على المستوى الشخصي أو العام.

شخصية أمير عباسي

          انتحل «باديا» شخصية «علي باي العباسي»، وبمرور الوقت كادت تمحو الثانية معظم أطياف الأولى، التي ظلت مجهولة مدة طويلة، فيما عرفت الثانية على نطاق واسع في الأوساط السياسية والعلمية والثقافية في العالم، وقبل أن يصل إلى المغرب ويمضي فيها سنتين مثيرتين ضمن حاشية السلطان، وفّر لنفسه مستلزمات التنكرّ بشخصية أمير عباسي ينتسب إلى الأرومة المحمدية الشريفة، مدعيا أنه من مواليد حلب وقد رمت به صروف الدهر في عالم غير عالمه، فتشرّد بين إيطاليا وبريطانيا، مرورا بكثير من البلاد. وقد مارس الخداع منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى المغرب، فقد ابتدأ رحلاته مستعيدا ظروف وجوده في المغرب «هذا كتاب المؤمن الأمير الطبيب العالم الشريف الحاج علي باي بن عثمان الأمير العباسي خادم بيت الله المحرّم». ثم استأنف مفسّرًا ذلك «بعد أن أمضيت أعواما كثيرة في بلاد النصارى، أتلقّن في مدارسهم علوم الطبيعة، والفنون الضرورية للإنسان في حال الاجتماع، مهما كانت عبادته أو الدين الذي عليه فؤاده، عزمت على السفر أخيرا إلى البلاد الإسلامية، وعلى إتمام فرض الحجّ إلى مكة في الوقت ذاته، وعلى معاينة العادات والأعراف وطبيعة الأقاليم التي أصادفها في طريقي، حتى لا يكون تعبي في هذا السفر المضني بغير فائدة، فيعود بالنفع العميم على أهل بلدي في الموطن الذي سأختاره مستقرا لي أخيرا».

          أراد «باديا» صرف الانتباه عن المهمة الحقيقية التي رحل من أجلها، وتتمثل في تحريك الأوضاع في المغرب ضد سلطانها، وإضعاف حكمه، وإشاعة الفوضى، مما يعطي ذريعة لإسبانيا من أجل احتلال المغرب، ولهذا تغلغل ببراعة نادرة في بطانة السلطان، وحاول تمزيقها، ثم نفذ إلى قلبها مكتسبا ثقة السلطان نفسه، وقد شغل طوال وجوده في البلاط السلطاني بإثارة الضغائن، وزرع الكراهيات في أوساط النخبة الحاكمة، منطلقا من فكرة أساسية، وهي: تعدّد الولاءات يفضي إلى ضعف الدولة، وتفكيك بنيتها الأساسية، وبثّ النزاع بين المتحكّمين في أقدارها. وهذه مهمة تكاد تختلف عن سائر المهام التي قام بها جواسيس تخفّوا في إهاب الرحّالة، فلم يكتف بالتقارير السرية عن الجيوش المغربية، وتحصين المدن، وطبيعة الاقتصاد، والخدمة العسكرية، وطرق التموين، ومجالس القضاء، وأوضاع الأقليات من يهود وبربر، إنما سعى إلى زعزعة حكم السلطان. وبذلك مارس دورا خطيرا في الاستئثار بسلطة كبيرة استمدّها من ملازمته للسلطان، وبها ضرب خصومه، فالهيبة السلطانية خيّمت عليه واستخدمها في كبح مناوئيه، محدثا انقسامًا في قلب مؤسسة الحكم المغربية. ومع أنه لم ينجح في تنفيذ مخطّطه؛ إذ اكتُشف أمرُه، وأُبعد عن البلاد، إلا أنه أحدث زلزلة من عدم الثقة بين أطراف النخبة الحاكمة، وهذا عمل خطير يختلف عن سائر أعمال الرحالة المعاصرين له.

تجارب فلكية مذهلة

          على أن «باديا» قد أخفى كلّ ذلك تحت غطاء سميك قوامه مهمةُ استكشافٍ جغرافي، وتجارب فلكية أذهلت السلطان وحاشيته، وقد بدا ثاقب النظر في كشف النسيج الاجتماعي المغربي حالما وطأت قدماه مدينة «طنجة» إذ نظر إلى أهلها نظرة زائر غريب مرتاب «يُقدّر عدد ساكني طنجة بعشرة آلاف، أكثريتهم جنود، وتجّار في الغالب، وصنّاع تقليديون جدُّ خشنين، وقليل من الناس الأثرياء واليهود. الطبع المميز لأولئك الناس هو الكسل: فهم يُرون جالسين أو متمدّدين في أي ساعة من ساعات النهار على طول امتداد الشوارع، وفي أمكنة عمومية أخرى. إنهم مثرثرون أبديّون وزوار ثقال». وقد اتّبع سلوكا متعاليا مدعما بالهدايا السخية للسلطان، والقاضي، والقائد، والوجهاء، وكل ذلك «ساهم في تركيز اهتمام الجميع عليّ، بحيث أني استأثرت في وقت وجيز بتفوق حاسم على كلّ الأجانب والشخصيات المتميزة». أما إكراميته للسلطان، فشملت ما يلي: عشرون بندقية إنجليزية مع حرابها، بندقيتان من العيار الكبير، زوجان من خمسة عشر مسدّسا إنجليزيا، بضعة آلاف من أحجار الاشتعال، كِيسَا رصاص من طلقات خردق الصيد، مجموعة قطع سلاح الصيد كاملة، برميل من أفضل البارود الإنجليزي، مجموعة من قطع ثوب مُوصِلي نفيسة، موحّدة ومطرزة، بعض المجوهرات الصغيرة، شمسية ثمينة، مربيات وعطور. إنها هدية نفيسة للسلطان شملت السلاح بأنواعه والأثواب الفاخرة، والمجوهرات، والعطور، ولكي تناسب هذه الهدية الثمينة مقام السلطان «وضع السلاح في صناديق مغلقة بمفاتيح، ووضعت بقية الأشياء في أسفاط كبيرة مغطاة بقطع من ثوب دمشقي أحمر مزيّن بشرائط فضية، وكل المفاتيح سُلكت في شريط طويل ووضعت في صحن».

          وحينما وصل «باديا» إلى مقر إقامة السلطان، وجده ممدّدا على سرير صغير مزوّد بمخدّات، فأُمر بخلع نعليه، وتقدّم يتأبطه ضابطان، فانحنى أمام السلطان واضعا يده اليمنى على الصدر، ثم حيّاهُ، وقدّم له الهدايا. فما كان من السلطان إلا أن رحب به، وأجلسه إلى جواره، وبادله مشاعر صدق حارّة. ولما كان قد سرّب أخبارا عن أنه من سلالة العباسيين، وقد تشرّدت عائلته في بلاد الكفّار، فقد شرع السلطان يسأله عن ذلك، ثم إنه «شكر الله على أن أخرجني من بين ظَهْراني الكفار». ورحّب به في بلاده، بل إنه أكد مرات عدة له «حمايته وصداقته».

          في اليوم التالي، ذهب «باديا» إلى القصر بناء على طلب السلطان، فوجده بصحبة المفتي وأمامه طاقم شاي كامل، وما إن دخل عليه حتى أمره بأن يرتقي الدرج ويجلس إلى جانبه، وصبّ له في فنجان مزيجا من الشاي والحليب، ثم حاول أن يعلّمه نطق الحروف العربية على ورقة مكتوبة. وخلال ذلك أفصح له عن عطفه مرارا، وطلب إليه أن يشرح له وظيفة الأدوات الفلكية التي اصطحبها معه، وفي بادرة محسوبة أهدى معدّاته للسلطان، فاعتذر الأخير عن قبولها، وطلب أن يحتفظ بها لأنه الوحيد الذي يعرف استعمالها، وبذلك أدرك أن السلطان يرغب في إلحاقه بخدمته. وتطور الأمر، ففي اليوم الثالث زاره في البيت نفسه ووجده ممددا على السرير، وما إن رآه حتى «اعتدل جالسا، وأمر بإحضار سرير آخر مخملي أزرق مثل سريره، ووضعه بجانبه، وأجبرني على الجلوس فيه». وبذلك حقق «باديا» في أيام معدودات ما كان يريد؛ إذ أصبح جليسا للسلطان يعتلي سريرا مخمليا يماثل سريره، بل إن السلطان مضى في اندفاع بتقريبه إليه، فأرسل له ليلا رغيفين من الخبز الأسود، مما آثار عجبه، فليس هكذا تكون هدية السلطان. وقد غاب عنه تأويل ذلك، ولم يلبث أن شرح له الحاضرون ذلك، فقد أصبح بهذه الهدية أخا للسلطان؛ فالمشاركة في الخبز دليل أخوة، وبهذه القاعدة من الثقة التي محضها السلطان له أحسّ بأنه أصبح في منأى عن الرقابة، فشرع في تنفيذ مهمته، وكان يتنقل في قافلة صغيرة خاصة به تتألف من سبعة عشر رجلا، وثلاثين راحلة، وأربعة حراس، وأربع خيام، إحداها خصصت له، وفيها سريره وسجاداته ووسائد ومكتب، ثم صندوقين لآلاته وكتبه وملابسه، وبمثل هذه القافلة كان يتجول في أرجاء السلطنة.

تحت مظلة السلطان

          حينما وصل «فاس» مُنح امتياز السير تحت مظلة السلطان التى لا يستخدمها سوى أبنائه وإخوته، وتجاوز السلطان كلّ حد حينما اعتبره ابنا ومنحه جارية، فتعلل بتعذر الزواج إلا بعد الحج إلى بيت الله. وبمرور الأيام تزايد نفوذه، وفي كل مرة كان يقوم بعمل يلفت إليه الانتباه «غدا اسمي يتردّد على كل لسان، وحينئذ أبديت للعيان كل الأبهة المناسبة لمكانتي، حتى إنه ما من شخص وجيه بفاس لم يستعجل زيارتي، بحيث غدا بيتي يمتلئ بالزوار من الصباح إلى الليل». وما إن التحق بالسلطان إلى «مراكش» حتى خصّه بما لم يخصّ به أحدا من قبل، فقد منحه، بمقتضى ظهير سلطاني، بيت استجمام خاصًا يسمى «السملالية»، وهي أرض واسعة مشجَّرة بالنخيل والزيتون، وخصص له بيتا كبيرا يسكن فيه. فراح يجوب ربوع المغرب مستطلعا تفاصيل المهمة التي جاء من أجلها. وعلى الرغم من العطف السلطاني لم يستطع أن ينجز المهمة السرية الأساسية التي بعث من أجلها إلى المغرب من طرف الحكومة الإسبانية، مع أنه ادعى امتلاك نفوذ كبير على السلطان، ففي رسالة مؤرخة في 5 مايو 1804 بعث بها إلى رئيس الوزراء كتب «أصبحت سيد هذه الإمبراطورية الفعلي، فكل الباشوات هم بمنزلة خدم لي، إن الجميع يدين لي بالولاء، وهو ولاء ناجم عن حب أو خوف أو احترام، وهذا ما يجعلهم إذا ما تقدمت بجيش من 3000 رجل فقط يقدمون لي عصا الملك. ويوجد في الوقت الحاضر رهن إشارتي أكثر من 10000 رجل».

رحلة شمال إفريقيا

          كان «باديا» تقدّم في العام 1801 بمشروع رحلة إلى الحكومة الإسبانية سمّاه «مشروع رحلة إلى شمال إفريقيا ذات أهداف سياسية وعلمية» وحالما عُرض على الحكومة الإسبانية حتى تمّت الموافقة عليه مع ما يتطلبه ذلك من تمويل وتجهيز. وكما يقول «السنيدي» في كتابه «رحّالة إسباني في الجزيرة العربية»، فإن فرضية المشروع استندت إلى قاعدة أساسية، وهي أن الإفراط في تضخيم الخطر الخارجي القادم من فرنسا، وربما من بريطانيا، مناسب لترسيخ وجوده في المغرب، وكسب ثقة السلطان المتوجّس من جارته الشمالية، وبخاصة أنه قوّى من شوكة الدولة المغربية، ووقف بوجه الأطماع الإسبانية علنا، وأجهز تقريبا على أعمال القرصنة في السواحل المغربية، ومعظمها مصدره شبه الجزيرة الإيبيرية. لم تعرض الخطة مباشرة إنما جرى تنشيطها ببطء يتزامن مع تأكيد ثقة السلطان بضيفه المسلم، ووجد أنها ستكون مؤثّرة في الوسط السلطاني إن جرى تسريبها بهدوء من رجل ينتسب، في نهاية المطاف، إلى أرومة السلطان نفسه، وخيّل إليه النجاح حينما وجد الوافد الغريب اهتماما سلطانيا به فاق ما كان يتصوّر. وكان هو يغذّي اهتمام السلطان به بمزيد من الورع والتقوى، والتذكير بانتسابه إلى السلالة الشريفة، لكنه لم يغفل شئون الدنيا، فقد أذهل السلطان بخبراته العلمية في مجال الجغرافيا والفلك والمناخ، فانطلت حقيقته على السلطان وسائر المحيطين به مدة طويلة قبل أن تُكتشف خطته السرية ويرحّل بالقوة من الأراضي المغربية في سنة 1805، فآلت خطته الأولى إلى الفشل.

          أما الخطة الخشنة فقوامها فرضية أخرى رسمها ببراعة، وقد بدأ العمل بها بعد أن تعذّر عليه إقناع السلطان بطلب الحماية الإسبانية لشعبه من خطر الفرنسيين، وعليه في هذه الحال أن يغذّي الاستياء الشعبي ضد السلطان بذرائع كثيرة، مما يفضي إلى تمرّد عام يجد فيه الإسبان ذريعة للتدخل من أجل تهدئة الأمور، فيتحقّق لهم احتلال المغرب حفاظا على أمنه، وبخاصة أن مولاي سليمان قد انتهى لتوّه من بسط نفوذه الكامل على المغرب بعد حرب شبه أهلية كادت تمزِّق البلاد، ويرجّح أن كثيرا من خصومه السابقين لم يقبلوا بعد سيطرته الكاملة على مقادير السلطنة، فتلك أرضية مناسبة لإيقاد جذوة التمرّد مرة ثانية من خلال بث السخط بين المناوئين للسلطان، وقد راق مخطّطه بوجهيه لرئيس الوزراء النافذ في البلاط «غودي» ولم يرفضه الملك كارلوس الرابع، وعلى هذا انطلق الرحّالة في مهمته التي أخذت في حسبانها أيضا البحث الجغرافي كغطاء داعم لها.

رؤية استعمارية للعام

          ارتسمت لـ «باديا» صورة رحّالة غير هياب، دقيق الملاحظة، بحمل عدته العلمية لرسم الخرائط في أرض مجهولة، فيعيد تعريفها بعلم غربي يستعير معاييره من مراكز التخطيط الجغرافي في باريس ولندن، فلكي يعرف الآخرون موقع مراكش أو طرابلس، أو الإسكندرية أو مكة، ينبغي أن تعرض على الاتجاهات الثابتة في ذلك العالم من زوايا ودرجات وقياسات، فلا يمكن تعريف مكان إلا في ضوء تلك القواعد. وفي رحلاته تجلت الرؤية الاستعمارية للعالم، فالمعرفة غربية، يحملها غربي يضرب في الأصقاع المنعزلة خدمة للحقيقة العلمية، لكنه يدبج سرّا تقارير ترفع للملوك والأباطرة، ومراكز صنع القرار في مدريد وباريس لاحتلال تلك البلاد، وإذا كانت من دقّة في الوصف، فلأن ذلك هو ما ينبغي عمله من رجل انتدب نفسه لمهمة جليلة الشأن، وعلى هذا، فالتضارب بين المهمة العلمية، والمهمة السياسية، خرّب الاستقامة الأخلاقية التي رسمها لنفسه، وطعنها من كل جانب، ودفع بها إلى منطقة ملتبسة بين حماية الذات والولاء لسلطات استعمارية افتقرت للأخلاقيات السوية.

          من الصحيح أن التجربة الاستعمارية حاكت أسطورة الإخلاص لمواطنيها في تقديم يد العون لها حيثما توجد، دون الشعور بالذنب في كثير من الحالات، ولكن التضليل الذي ارتقى إلى رتبة تزوير المعتقد والعرق والاسم، وضع صاحبه في منطقة المساءلة التاريخية، فتجربة المرء الخاصة هي ما تبقى له في سجل أعماله، والخدمات الدنيئة التي تذلّل بتقديمها لذوي السلطان سيكون ثمنها باهظا في التقويم الأخير له، ومن الإذلال أن يجني المرء ثمرة فاسدة من جراء خداع الآخرين الذين محضوه ثقتهم لدواعٍ دينية وعرقية وإنسانية، فتنكّب لذلك وواظب سرا على محاولة إلحاق الأذى بهم، ولعل النهاية التي انتهى إليها «باديا» في خيانة شعبه الإسباني لمصلحة فرنسا توازي خيانته للمغاربة لمصلحة إسبانيا، وثمن العار واحد في كلتا الحالتين، فبقبوله أن يكون وكيلاً استعماريًا للإسبان في أرض العرب، وللفرنسيين في أرض الإسبان، فإنما حقق ضمنا معنى مصيره في خيانة مركّبة شملت الإسبان والعرب، ولعل معيار المواطنة العمياء في الحالة العربية قد يعطي ذريعة لعمله في مدّ نفوذ الإمبراطورية إلى الجنوب، لكن الحالة الفرنسية جردته من أي نزاهة محتملة، وأعادته إلى منطقة الهشاشة الكاملة، فمن المحتمل أن يتدبّر المرء عذرا لخدمة بلاده الاستعمارية، ولكن من العار أن يغدر بها، وعدم التورّع عن فعل ذلك ينقل المرء إلى رتبة أخرى في العلاقة بوطنه، وما فتئ «باديا» في الحالتين يعرض خدمات استعمارية بالمستوى نفسه من الأهمية، يريد بها ترقية حاله، وتوسيع المجال الإمبراطوري الغربي، وعلى هذا فخلف أوصافه الطبيعية والبشرية الدقيقة، ونثره السلس المشرق، ومكابداته متوعّكا في البحار والصحارى، تكمن شخصية أصابها الالتواء الأخلاقي، وعطب عمقها، وسقطت في القلق الرومانسي، فلم تعد قادرة على ضبط أفعالها على الرغم من تغيّر الدوافع الموجّهة لها، ولولا أدوار التجسّس التي تورط بها لأمكن اعتباره مسلما تقيّا، فقد تنعّم بالسكون الروحي في الحرم المكيّ، وانغمر في الطقس المهيب للحج، وربما تكون تجربة مستعادة بعد نحو عشر سنين من حدوثها إثر تحلّله من الخداع الذي مارسه في أول الأمر، وبافتراض علمانيته العابرة للديانات الثلاث، ما جعله يحتفي بها كأنه مؤمن بها بحقّ وحقيق، فكان ينسب إلى أي منها حيثما حلّ بأهلها المؤمنين بها كأنه طرس كُتبت عليه ومُحيت آيات الله في القرآن والإنجيل والتوراة، فإنّ تغيير ولاءاته، وقدرته على الخداع حيثما يكون، يطعن ذلك، فقد كان ينسخ معتقداته بغيرها لأغراض دنيوية، وهي براعة ملتوية ندر مثيلها.
---------------------------------
* كاتب عراقي مقيم في قطر.

 

عبدالله إبراهيم*