من المكتبة الأجنبية: قائمة رغباتي

من المكتبة الأجنبية: قائمة رغباتي
        

  • الكتاب: «La liste de mes envies»
    المؤلف: Gregoire Delacourt
    الناشر: JC Lattes

عرض: دينا مندور*

  • «الاحتياجات شيء أساسي، فهي ما تحفظ حياتنا. ولكن الرغبات هي التى تمنحنا الشعور بأننا أحياء».
  • «احتياجاتنا هي أحلامنا اليومية الصغيرة التى تلقي بنا إلى الغد».

          لم يكن «جريجوار ديلاكور» (47 عامًا) رجل الدعاية والإعلان الناجح يعرف أنه حين يقرر أن يترك عمله ليتفرغ للكتابة وهو في سن الخامسة والاربعين أن نجاحًا آخر أكثر دويًا وصدى بانتظاره. حيث اتخذ قراره بالتفرغ لمهنة الكتابة أملًا في العيش من أجل مهنة تعني له الكثير دون أن يفكر في النجاح إذ يقول: «العمل 30 عامًا في مجال الدعاية يضعك وجهًا لوجه مع النجاح، وأكثر ما يعنيني اليوم هو أن افعل ما يعني لي الكثير. فمن خلال الكتابة أخلق حيوات تعوزني بشدة».

          أولى رواياته كانت «كاتب العائلة» (2011) التي اعتبرها النقاد بداية أدبية موفقة، أظهرته كاتبًا رقيقًا غير متعطش للاعترافات.، إلا أنها لم تلفت الأنظار اليه كثيرًا. ثم جاءت روايته الثانية ومفاجأته الأولى تحت عنوان «قائمة رغباتي» لتتصدر أعلى المبيعات Best Seller لربيع وصيف 2012 إذ تجاوزت مبيعاتها خمسين ألف نسخة (بيعت العشرة آلاف نسخة الأولى خلال 15 يومًا) وهي مفاجأة للوسط الثقافي بقدر ما كانت للمؤلف نفسه الذي علق: «قيل لي إن العمل الثاني يعاني عادة من وضع صعب - ثم تنحنح واعتذر مرات عديدة قبل أن يضيف - لكن يبدو أن هناك حالات مختلفة، وإن كانت نادرة، مثل حالتي»، ويصف نفسه قائلًا: «ما أزال في أعماقي، ذلك القروي الذي جاء من الأقاليم». دون أن يجد في هذا الاعتراف ما يقلل من قيمته. بل ربما يفسر هذا الوصف ميله إلى المدن الصغيرة التي تدور فيها أحداث رواياته، بعالمها الفريد وما تتميز به من بطء في الإيقاع.

          لم يختلف أسلوبه في روايته الثانية، من بساطة العبارة وسهولتها والاهتمام بالصياغات المُعبرة والمُؤثرة: تدور أحداث الرواية في مدينة صغيرة هي «آراس». بطلة الرواية هي جوسلين أو (جو) كما تسمى طوال الرواية. امرأة في السابعة والأربعين من عمرها تعمل بائعة خردوات وتحلم بأن تكون مصممة أزياء في باريس. انحنى جسدها وهنًا وإخفاقًا، ولكنها تُعجب كثيرًا بالقامات اليافعة، تُحب الكتب كثيرًا، وتقدر الكتابة دون أن تمارسها، إلا أنها تنشر على (بلوج) كتابات تختص بالأشغال اليدوية، هذا البلوج يمثل مجدها الوحيد في الحياة. تفتقد والدتها التى ماتت أمام عينيها، ويعيش والدها مريضًا بالزهايمر. ظلت تنتظر أمير أحلامها الساحر الجذاب حتى جاء «جوسلا» (يدعى جو أيضًا) وتزوجا وأنجبت ثلاثة أطفال توفي أحدهم صغيرًا وهو ما عكر صفو العلاقة بين الزوجين، فأصبح «جو» زوجًا قاسيًا، لا ينظر إليها كثيرًا، و«جو» الزوجة تعيش متأقلمة مع حلمها الرومانسي المُجهَض.

          تتركز أحلام الزوج على اقتناء شاشة تليفزيون مسطحة وسيارة بورش ومدفأة في صالون المنزل. إلى هنا كان من الممكن أن تكون الرواية عبارة عن كوميديا ساخرة تتناول دونية الحياة لأسرة متواضعة. إلا أن الرواية تتحول إلى منحى آخر عندما يأتي اليوم الموعود، وتشتري «جو» تذكرة «لوتاريا» يانصيب - بفضل بعض جيرانها، وتفوز بـ 18 مليون يورو. إنه يوم عظيم... كسبت فيه الكثير ... وهنا يطرح الكاتب السؤال الذي بنيت من أجله الرواية: إذا قدر للمرء أن يكسب كل هذا المال، هل يعني ذلك أنه لم يعد من مجال ليفقد شيئا؟ وهل هي لحظة للكسب فقط؟ بعد فوزها في اللعبة تشرع البطلة في ترتيب قائمة احتياجاتها، فتكتب وتكتب، ثم تتردد ولا تجرؤ على أن تخطو إلى باب البنك لتصرف الشيك، بل إنها ترى في صرف هذا الشيك ما يمكن أن يهدم حياتها. تقول جو: «أن تكون ثريًا يعني أن ترى كل الأشياء القبيحة، لأنك تمتلك غطرسة الاعتقاد أن باستطاعتك تغييرها، ولا تحتاج إلا إلى دفع المال لذلك ولكنني لست ثرية، بل امتلك شيكًا بـ 18 مليون يورو، مطبق إلى ثمانية، ومخبأ في قلب فردة حذاء. ما لدي هو الغواية فقط. غواية امتلاك حياة أخرى ممكنة. منزل جديد. وتلفاز جديد. والعديد من الأشياء الجديدة. ولكن لاشيء مختلف».

          وفي أحد الحوارات الصحفية، يقول الكاتب معلقًا: «الاحتياجات شيء أساسي، فهي ما تحفظ حياتنا. ولكن الرغبات هي التى تمنحنا الشعور بأننا أحياء». ويطرح السؤال: «من الذي يستطيع أن يبدل الاحتياج بالرغبة؟». بينما تقول البطلة بعد أن تنتهي من وضع قائمة احتياجاتها: «سأعود بكل ما في القائمة من أشياء. وأمزّق القائمة وأنا أقول: ها قد تم الأمر. لم يعد لدي احتياجات، واعتبارًا من الآن لن يكون لدي سوى رغبات. ولكن هذا لا يمكن أن يحدث أبدًا!! فاحتياجاتنا هي أحلامنا اليومية الصغيرة. هي الأشياء الصغيرة التى ينبغي علينا القيام بها. وهي التى تلقي بنا نحو الغد، وبعد الغد، ونحو المستقبل؛ هي تلك الأشياء التافهة التى سنشتريها الأسبوع المقبل، وهي التى تجعلنا نفكر أننا سنكون ما نزال أحياء الاسبوع المقبل».

          بالطبع كانت «جوسلين» تتعطش للعديد من الاشياء في الحياة، ولكن انتهى بها الحال إلى التغير. والقناعة بالعيش كامرأة تنتمى للطبقة المتوسطة ولا ترغب إلا في حياة متوسطة: «في الكتب وحدها نستطيع تغيير حياة، نستطيع محو كل شيء بكلمة. وأن ننزع عن الأشياء ثقلها. وأن نزيل كل أشكال الحقارة والخسة. وقد نبلغ، بنهاية جملة، قمة العالم، بغتة».

          يشعر القارئ بالراحة الشديدة وهو يقرأ رواية تعد رواية «زهد» و«تخلٍ» و«رضا» فيقرأ فيها: «كنت أود لو استطيع تقرير مصير حياتي، أعتقد أنها أعظم هدية يمكن أن تهدى لنا. أن نقرر مصير حياتنا». كما تميزت الكتابة بالأسلوب المتقن والهادئ لـ «جريجوار ديلاكور» الذي يعرف جيدًا كيف يكتب بلسان امرأة وبعذوبة مؤثرة: «بقيت هنا لأن (جو) كان بحاجة إليّ، والمرأة تحتاج لمن يحتاج إليها». ويتغلغل في حقيقة ما نعيشه ونمارسه ويصارح به أبطاله أنفسهم ليصلوا إلى التوافق مع ذواتهم: «نقضي حياة نملأ فيها المنزل بالأشياء، وحين يمتلئ، نكسر الأشياء كي نحل محلها أشياء أخرى، ليكون لدينا ما نفعله في اليوم التالي. وقد يصل بنا الأمر إلى أن نهدم زواجنا كي نلقي بأنفسنا في قصة أخرى، ومستقبل آخر، ومنزل آخر، وحياة أخرى لنملأها بدورها». وتضيف البطلة: «رأيت على وجهه تلك السنوات، رأيت الوقت الذي أبعدنا عن أحلامنا، وقرّبنا من الصمت». ويُدخل إلينا الكاتب ألمًا غير مألوف للحنان الإنساني: «أفتقد أمي بشدة، بقدر ما افتقدتها لحظة سقوطها. وأبكي دائمًا بسبب ذلك. من الذي أستطيع منحه الثمانية عشر مليون يورو، كي تعود ؟».

          ونلاحظ التطور الذي يطرأ على وصف الشخصيات اعتبارًا من لحظة التردد الذي اعترى «جوسلين»، حيث صبغ الحماس حياة الزوجين. فقبل هذه اللحظة الفارقة رسم «جريجوار ديلاكور» شخصيات روايته بلمسات انطباعية خفيفة باللونين الوردي والرمادي. وفجأة تتأرجح الشخصيات بين الألوان الصارخة معبرة عن مشاعر الحب، والمفاجأة، والصدفة، والموت. فـ «جوسلين» التى قاست من إخفاق الحب بينها وبين زوجها وفقدها الابن والأم والرغبة في الكتابة وتحسرها على الأب، يمنح لها الكاتب الفرصة الثانية لتداوي قلبها المتصدع: لتكون سعيدة الحظ في اللعبة، تعيسة الحظ في الحب. أما هي فتحسم أمرها: «أمتلك ما لا يمكن أن يشتريه المال، بل ما يدمره تمامًا: السعادة. سعادتي، أيًا ما كانت. هي ملكي، بعيوبها، وتفاهاتها، وصغائرها. ولكنها ملكي. هائلة. براقة. وفريدة».

          ويذكر الكاتب على لسان البطلة علاقتها بالكلمات: «أنا! الكلمات! آه كم أحب الكلمات. وأحب كثيرًا العبارات الطويلة. أحب كثيرًا حين تخفي الكلمات ما تقوله؛ أو حين تبوح به بطريقة مختلفة. عندما كنت صغيرة، كنت أكتب يومياتي، وتوقفت عنها يوم ماتت أمي، فمع سقوطها، أسقطت عن يدي القلم وتقصّفت أشياء أخرى كثيرة».

          ربما يرجع إقبال الفرنسيين والأوربيون عامة على شراء الرواية وحقوق ترجمتها إلى لغات عدة إلى ما يقاسيه الإنسان الغربي من ضغط شديد تمارسه الماكينة الثقيلة والسريعة لنظام اجتماعي اعتاد الضغط على أفراده. حيث يعامل الإنسان الغربي من قبل المجتمع باعتباره فردًا فاعلًا يتحمل مسئولية حياته من نجاح وفشل اعتبارًا من مرحلة عمرية مبكرة. فإذا استطاع الفرد تحقيق حياة ناجحة، كان مثله مثل كثيرين في مجتمعه. وإذا فشل في واحدة من فروع حياته شعر أنه لا شيء وتحمل قسوة الإخفاق منفردًا. على عكس الفرد في المجتمعات الشرقية والعربية التي ينشأ فيها وسط نظام اجتماعي متماسك، يخلق نوعًا من التشارك والتواطؤ بين أفراده مما يشتت طاقة الفرد في علاقات اجتماعية بدلًا من تركيزها في بوتقة الإنجاز الفردي والتحقق الذاتي، كما يتشتت أيضًا الشعور بالإخفاق في حالات الفشل.

          ومع تسارع إيقاع الحياة وديناميكيتها أصبح البحث عن المزيد من التفوق في المجتمعات الغربية هاجسًا يوسوس للفرد ويقلقه وينغص شعوره بالتحقق ويمنعه من التمتع بمكتسباته، وكأن الفرد في المجتمعات الغربية بحاجة إلى ما يجعله يتوقف ويتأمل ليعيد بعض حساباته، فيقدر ويثمن التفاصيل اليومية البسيطة التى يعيشها ولا يلتفت لاحتمال كونها مصدرًا للسعادة وحافزًا للاستغناء والزهد عن كماليات أخرى ربما أرهقته محاولة إدراكها. هنا تألقت فكرة الرواية «قائمة رغباتي» بإعتبارها رواية تدير رأس الفرد نحو ما يمتلكه بالفعل وليس ما يمكن أن يمتلكه في المستقبل. ليستعيد أنفاسه ويهدأ. وهو ما يتضح من خلال تعليقات القراء حيث أجمع ما يربو على 75% من قرائها على الراحة التى شعروا بها عند قراءتهم لهذه الرواية.

          ومن أوربا إلى الولايات المتحدة الأمريكية تهافت الناشرون على شراء حقوق ترجمة الرواية، كما بيع حق تحويلها إلى فيلم سينمائي. ولكن هذا كله لم يشغل مؤلفها الذي يفضل أن يعيش في تواضعه، والذي لم يختر الكتابة إلا من أجل القيام بما يحب، لكن ثمة رغبة تتحقق بهذا الإيقاع ربما تُمحى سريعًا من قائمة رغباته!.
---------------------
* مترجمة من مصر.

---------------------------------

حرية الإنسان بالدم
                              تشترى لا بالوعـود
طرق الحياة مزينات
                              بالظبى لا بالورود
إيه فلسطين اقحمي
                              لجج اللهيب ولا تحيدي
لا تصهر الأغلال غير
                              جهنم الهول الشديد
يا من يعزون الحمى
                              ثوروا على الظلم المبيد
بل حرروه من الملوك
                              وحرروه من العبيد

أبوسلمى

 

 

عرض: دينا مندور*