إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

الحوار.. ذلك المفقود

          في خضمّ التغيرات الجذرية التي يشهدها الوطن العربي هناك غائب كبير لا يجوز غيابه، وإلا انتقل الشعب العربي من استبداد إلى استبداد. هذا الغائب هو الحوار. وإذا كانت أصوات النصر هنا، وأصوات السلاح هناك، طاغية، فيجب ألا ننسى أن الثورات التي تنكّرتْ للحوار استدرجتْ ثورات مضادة كالهزّات الارتدادية، أو واجهت صراعًا على السلطة يبن أطرافها. ويجب ألا ننسى أن هذه الثورات غالبًا ما حمت نفسها بتوسيع دور أجهزة المراقبة والأمن، وبزيادة القمع والاستبداد والظلم، بحيث أصبحت السلطة أهمّ من الوطن، ولم يبقَ أمام الناس سوى أن يحلموا بثورة جديدة.

          الميل إلى الحوار طبيعي عند البشر. فأرسطو أطلق على الإنسان لقب الكائن الذي يملك موهبة الكلام، ولا كلام خارج الحوار. لكن الحوار يتطلب انفتاح الطرفين والتبادل الحر للأفكار.

          لم يستخدم أفلاطون أسلوب المحاورة في مؤلفاته تقديرًا منه فقط لسيد الحوار سقراط، بل لأنه كان يؤمن بأن الحقيقة لا تكون حقيقة فعلاً ما لم يتقبّلها الآخر، وأن الأفكار لا تكتسب قوة الإقناع ما لم تحاور أفكار الآخر.

          هل يتّجه فن الحوار نحو الزوال؟ هذا هو السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني غادامير في كتاب عنوانه «اللغة والحقيقة». وبرّر سؤاله بما يلاحظه الناس في هذا الزمن من تزايد الأحادية في سلوك البشر.

          أما الجواب فيتطلب تحديد معنى الحوار. إنه - في مفهومه السامي والعميق - تفاعل يجري بين الناس، ويترك في كل طرف شيئا من الطرف الآخر. أما في الحياة العملية، فهو كثير الأنواع، وكلها في أزمة.

          في الحوار التربوي أزمة سببها أن المعلم يظنّ نفسه ملزمًا بالكلام، وأنه بقدر ما يتدرج كلامه ينجح في توصيل المعرفة إلى طلابه. ومع أن محاولات تطعيم الدروس الجامعية بالحوار لم تتوقف، إلا أن تشجيع الطلاب على المناقشة لم يفلح إلا نادرًا. وقد كان أفلاطون مدركًا أن الحوار المتعدد الأطراف ليس ممكنًا. وهذا ما نلاحظه اليوم أيضا في ندواتنا واجتماعاتنا وطاولاتنا المستديرة. والدرس الذي يمكن استخلاصه من ذلك هو أن اللقاءات الموسعة هي مقبرة الحوار. وأن الحوار الفعلي هو لقاء بين فريقين يسعيان معًا إلى إيجاد حل لما يفرّق بينهما.

          في الحوار التفاوضي أزمة أيضًا سببها  إصرار كل طرف على الوصول إلى التسوية التي توافقه، أو إصرار الطرف الأقوى على فرض شروطه. لكن المفاوضات الحقيقية لا تتطلع فقط إلى التسوية بل إلى ما بعدها، أي إلى السلام في المفاوضات السياسية، وإلى التعاون الدائم في المفاوضات التجارية. في المفاوضات الحقيقية يهتم كل طرف بتذليل العقبات التي تمنع الطرف الآخر من الوصول إلى اتفاق. ولا شك أن هذا الأسلوب يقوم على النظر إلى مصالح الآخر نظرة عادلة لاكتشاف المجالات التي يمكن التفاهم ضمنها، والشروط التي تسمح بمثل هذا التفاهم. والدرس الذي يمكن استخلاصه من ذلك هو أن إجادة الإصغاء إلى الآخر ومراعاة حقوقه ومصالحه هما الطريق لنجاح التفاوض معه. في الحوار الحميم، العائلي خصوصا، أزمة كذلك سببها أن الطرف العاجر عن الحوار لا يعترف بعجزه بل ينسب ذلك إلى الطرف الآخر، فيما يشعر الآخر بأن شريكه لا يفهمه أو لا يريده. والواقع أن عجز الواحد ينتقل تلقائيا إلى الآخر. والسبب هو غياب اللغة المشتركة، لأن التفاهم بين الناس تلزمه لغة مشتركة لا بد للطرفين من العمل معًا على إعدادها وصيانتها.

          والدرس الذي نستخلصه من ذلك هو أن الحوار ممكن دائما، ولو اختلفت طبائع الأطراف وتباينت مصالحهم وتوجّهاتهم السياسية والعقائدية، شرط توافر الرغبة في الحل. أما غياب الرغبة عند بعض الناس فهو موقف ضد من لا يوافقهم الرأي وليس نقصًا في استعداد الآخرين.
--------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

 

لطيف زيتوني