الملك البرجوازي حكاية مرحة

الملك البرجوازي حكاية مرحة

ترجمة: أحمد يماني**

صديقي! السماء غائمة والهواء بارد والنهار حزين، إليك حكاية مرحة.. كي ينقشع الضباب والكآبة الرمادية، إليك بها:

كان هناك في مدينة شاسعة وبراقة ملك ذو حول وطول، كانت لديه ملابس غريبة وغالية وجوار عاريات، بيض وسود، وأحصنة بأعراف طويلة وأسلحة بالغة اللمعان وكلاب سلوقية سريعة وقناصة بقرون برونزية يملأون الريح بصلفهم.

أكان ملكًا شاعرًا؟
لا يا صديقي:
كان الملك البرجوازي.

كان الملك مولعًا بالفنون وكان ينعم بسخاء على موسيقييه ومداحيه ورساميه ومثاليه وصيادلته وحلاقيه وأساتذة المبارزة.

عندما كان يذهب إلى الغابة الصغيرة، بالقرب من عنيزة أو خنزير جبلي جريح ونازف، كان يجعل معلمي البلاغة يرتجلون أغنيات تلميحية، والعبيد يملأون الكئوس الذهبية بالنبيذ الذي يفيض عنها والنسوة يصفقن بحركات إيقاعية رشيقة. كان ملكا شمسا في بابله الملأى بالموسيقى والقهقهات وجلبة الولائم. عند ضجره من المدينة الصاخبة كان يذهب إلى الصيد صاعقًا الغابة بجلبته، ومخرجا الطيور فَزعة من أعشاشها، والصياح كان يرتد من أكثر الكَهوف خفية. الكلاب بقوائمها المرنة تمزق الأجمات في عدوها، والصيادون المنحنون على أعناق الأحصنة، يموجون العباءات الأرجوانية بوجوه مشتعلة وشعورهم تطير في الريح.

كان للملك قصر منيف، حيث راكم فيه الثروات والأعمال الفنية العجيبة، كان يصل إلى القصر عبر مجموعات من الزنابق والبرك الواسعة، يحييه البجع بأعناقه البيضاء قبل أن يحييه الخدم المتأنقون.

ذوق رفيع، يصعد عبر سلم تملؤه أعمدة الألابستر والزمرد، على جانبيه أسود من المرمر كما في عرش سليمان، ورهافة، بالإضافة إلى البجع، كانت لديه مجموعة هائلة من أقفاص الطيور، ولأنه عاشق للتناغم والهديل والتغريد، فقد كان يوسع روحه إلى جوارها، قارئا روايات لجورج أونيت أو كتبًا جميلة حول مسائل نحوية أو انتقادات جمالية، نعم، كان مدافعًا لا يلين عن القواعد الأكاديمية الصحيحة في الأدب وعن الأسلوب المتكلف في الفن، روح جليلة تعشق الورق المصقول وعلم الهجاء.

رسومات يابانية وصينية، تماشيًا مع الموضة ليس أكثر. كان بإمكانه أن يمتع نفسه تماما بالصالون الذي يليق بذوق جونكور وملايين كرويسوس: تمثال لخيمر من البرونز بحلق مفتوح وذيل ملتوٍ، في مجموعات رائعة وعجيبة، أصماغ الليلك من كيوتو مطعمة بأوراق وفروع لزهرة وحشية وحيوانات من تصنيف غير معروف وفراشات بأجنحة غريبة على طول الجدران، أسماك وديوك ملونة وأقنعة ذات إيماءات جهنمية وبعيون تكاد تكون حية، حراب من أنصال بالغة القدم ومقابض على شكل تنانين تلتهم أزهار اللوتس، وفي محارات البيض، أردية من الحرير الأصفر كما لو كانت قد نسجت بخيوط عنكبوت، مبذورة بطيور مالك الحزين الحمراء وشجيرات الأرز الخضراء، وجرار من البورسلين منذ قرون عدة، من تلك المرسوم عليها محاربون تتاريون تغطيهم الجلود حتى كلياتهم ويحملون أقواسا مشدودة وجعاب سهام.

علاوة على ذلك، كانت هناك القاعة الإغريقية، المليئة بالمرمر والآلهة وربات الفنون والحوريات والساتير، قاعة من الأزمنة الأنيقة بلوحات للعظيم أنطوات واتو وشاردان، اثنتان، ثلاثة، أربعة، كم قاعة كانت؟

وكراعٍ للفنون والآداب، كان يتجول فيها جميعا، بوجه يفيض بالجلال، بطنه ملآن والتاج على رأسه، كملك أوراق اللعب.

ذات يوم حملوا إليه رجلا من سلالة نادرة وألقوه أمام عرشه، حيث كان هناك محاطا بالحاشية والبلغاء وأساتذة الفروسية والرقص.

- ما هذا؟ سأل.

- هذا شاعر يا سيدي.

كان لدى الملك بجع في البركة وعصافير كناري وطيور دوري وطيور حسون في الأقفاص: والشاعر كان شيئا جديدًا وعجيبًا - اتركوه هنا.

والشاعر:

- أنا لم آكل يا سيدي.

والملك:

- تكلم وسوف تأكل.

بدأ:

سيدي، لي زمن وأنا أتغنى بالمستقبل. فردت أجنحتي في الإعصار، ولدت ساعة الفجر، أبحث عن السلالة المنتقاة التي عليها الانتظار بالترنيمة في الفم والقيثارة في اليد، وسطوع الشمس العظيمة. هجرت إلهام المدينة اللعينة، هجرت الغرفة المفعمة بالعطر، الملهمة التي من لحم ودم والتي تملأ الروح بالصغائر والوجه بغبار الأرز. قطعت آلة الهارب المداهنة بأوتارها الضعيفة، على كئوس بوهيميا والجرار التي يفور فيها النبيذ، الذي يسكر ولا يهب القوة، ألقيت الرداء الذي يجعلني أبدو مهرجًا أو امرأة ولبست بطريقة وحشية، ومتألقًا أسمالي أرجوانية. ذهبت إلى الغابة حيث اشتد عودي وأتخمت بحليب خصب ورحيق حياة جديدة، وعلى شاطئ البحر الخشن نفضت رأسي تحت العاصفة العاتية والسوداء كملاك متعجرف أو كنصف إله من آلهة الأوليمب، تدربت على «اليامبو» وهجرت القصائد الغزلية.

داعبت الطبيعة العظيمة وبحثت، تحت حرارة المثالي، عن الشعر القابع في النجم في كبد السماء، وفي اللؤلوة الكامنة في أعماق المحيط، أردت أن أكون صلبا، فزمن الثورات الكبرى قادم، بماشيح (كلمة عبرية تعني المسيح أو القائد المنتظر بالعقيدة اليهودية) يشع بالنور، كله تحريض وقوة، ومن اللازم استقبال روحه بقصيدة تكون قوسا للنصر، بمقاطع من الصلب، بمقاطع من الذهب، بمقاطع من الحب.

سيدي، إن الفن لا يقبع في صرر الرخام الباردة، ولا في اللوحات المتأنقة، ولا في روايات السيد الماهر أونيت! الفن يا سيدي، لا يرتدي سراويل، ولا يتحدث بلغة برجوازية، ولا يضع كل النقاط على الحروف، إنه مهيب، أرديته من ذهب، من لهب، أو يمضي عاريا، يعجن الصلصال بالحمى ويرسم بالنور، وهو ميسور، ويضرب بأجنحته كالنسور أو يضرب بمخالبه كالأسود. سيدي، ما بين أبولو وإوزة تفضلون أبولو، حتى لو كان الأول من طمي محروق والثاني من عاج.

آه، أيها الشعر!

والآن، فإن الإيقاعات تتعهر، تتغنى بشامات النساء، وتصنع مشروبات شعرية. كذلك، يا سيدي، فإن الإسكافي ينتقد إيقاعات قصائدي، والسيد أستاذ الصيدلة يضع الفواصل والنقاط على إلهاماتي. وأنتم، يا سيدي، سمحتم لهم بكل هذا، المثالي، المثالي...

قاطعه الملك:

ها قد سمعتم، ماذا نفعل معه؟

قال فيلسوف تحت الطلب:

لو سمحتم، يا سيدي، يمكنه أن يكسب عيشه بتدوير صندوق من الموسيقى، يمكننا أن نضع في الحديقة، إلى جوار البجع، يعف كلما تنزهتم هناك.

نعم، قال الملك متوجها إلى الشاعر، عليك بتدوير عجلة الصندوق وإغلاق فمك. ستقوم بتشغيل صندوق الموسيقى الذي يعزف الفالس ورقصة المربعات وموسيقى الجالوبا الشعبية، إذا لم تكن ترغب في الموت جوعا. قطعة موسيقى في مقابل قطعة خبز.. لا رطانات ولا مثاليات. اذهب.

ومنذ ذلك اليوم كان يمكن رؤيته على حافة بحيرة البجع، الشاعر الجائع الذي يدير عجلة الصندوق: تيريرين، تيريرين.. خجلا على مرأى الشمس العظيمة! هل مر الملك بالقرب؟ تيريرين، تيريرين.. هل كان عليه أن يملأ بطنه؟ تيريرين! هذا كله بينما تسخر منه الطيور الطليقة التي كانت تأتي لتشرب الندى من الليلك اليانع، بين طنين النحل الذي يلدغ وجهه ويملأ عينيه بالدموع، تيريرين..! دموع مريرة تجري على خديه وتسقط على الأرض السوداء.

وحل الشتاء، وأحس المسكين بالبرد في جسده وروحه، وكان عقله كما لو كان حجرًا والأناشيد الكبرى قبعت في النسيان، وشاعر الجبال المتوجه بالنسور لم يكن إلا رجلًا بائسًا يدير عجلة صندوق الموسيقى، تيريرين!

وحينما تساقط الجليد نسيه الملك وتابعوه، دثروا الطيور وتركوه هو في البرد القارص الذي ينهش لحمه ويسوط وجهه، تيريرين!

وفي إحدى الليالي التي كان المطر الأبيض يسقط ندفا كريستالية، كان هناك حفل في القصر وضوء العناكب يضحك مرحا على الرخام، على الذهب، على أردية كبار خدم الخزف الصيني العتيق.

التصفيق حتى الجنون لأنخاب خطاب أستاذ البلاغة المرصع بالداكتيل والأنابيست والبريكيو، بينما تفور الكئوس الزجاجية بزبدها العابر المتلألئ، ليلة شتوية، ليلة احتفالية! التعس وقد غطاه الجليد، بالقرب من البركة، كان يقوم بتدوير عجلة الصندوق كي يتدفأ، تيريرين! تيريرين!

مرتعشا ومخدرا من البرد، تهينه ريح الشمال، تحت البياض الناصع الجليدي، في الليلة الكالحة، جاعلا الموسيقى المجنونة للمربعات والجالوبا تدوي بين الأشجار الخالية من الأوراق، حتى مات، تيريرين.. مفكرًا أن الشمس ستشرق في اليوم التالي ويأتي معها العالم المثالي.. تيريرين.. وأن الفن لن يلبس سراويل بل رداء من اللهب أو من الذهب... إلى أن وجد الملك وحاشيته في اليوم التالي الشاعر البائس، كعصفور دوري قتله الجليد، بابتسامة مريرة على شفتيه ويده قابضة على عجلة الصندوق.

آه، يا صديقي! إن السماء غائمة والهواء بارد والنهار حزين، ترفرف كآبات ضبابية ورمادية.. لكن، كم تبعث الدفء في الروح جملة، مصافحة تأتي في أوانها، إلى اللقاء!.
-----------------------------------
* الشاعر والكاتب والدبلوماسي النيكاراجوي الكبير روبين داريو (1867 - 1916) يعد أبا الحداثة في الشعر الإسباني الحديث، وقد أطلقوا عليه اسم «أمير الأدب القشتالي» أي الأدب المكتوب باللغة الإسبانية، تنقل بين دول عدة في أمريكا اللاتينية وأوربا. هنا نص من كتابه الأشهر «أزرق».
** كاتب من مصر.

 

روبين داريو*