الشيخ صباح الأحمد.. خمسون عاما من الدبلوماسية الناعمة: د. محمد محمود الطناحي

  الشيخ صباح الأحمد.. خمسون عاما من الدبلوماسية الناعمة: د. محمد محمود الطناحي
        

          تعد الدبلوماسية الكويتية إحدى الدبلوماسيات الرائدة في المنطقة العربية، فقد كان للكويت سياسة خارجية منذ ما سبق استقلالها السياسي بنحو قرنين تقريبًا، حين قامت بينها وبين المستعمرة الهولندية في جزيرة خرج اتصالات في منتصف القرن الثامن عشر (1752)م ، حيث ارتبط حاكمها الأول الشيخ صباح الأول بن جابر بعلاقات وثيقة مع حاكمها البارون كيفهاوزن وقت أن كانت السفن الهولندية تتردد على ميناء الكويت والذي طلب إلى رؤساء شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1756م إقامة علاقات مباشرة مع شيخ الكويت وأثنى عليه وعلى حسن معاملته للسفن المارة بمينائه.

          بعد نيل الكويت استقلالها سنة 1961م سعت إلى انتهاج سياسة خارجية معتدلة ومتوازنة، تقوم على محاور سياسية وأمنية واقتصادية وتنموية تتلخص توجهاتها في محاور البقاء وتعزيز الأمن القومي، التطور والتنمية، خدمة الأمن والسلام الدوليين، حفظ التوازن في علاقاتها الخارجية وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى. واختارت الكويت وسائل عدة لتنفيذ سياستها الخارجية من بينها دعم جهود المجتمع الدولي نحو إقرار السلم والأمن الدوليين، الالتزام بالشرعية الدولية، التعاون الإقليمي والدولي، وأخيرا المساهمة وبالتعاون مع المجتمع الدولي والمنظمات الدولية في الإنماء الاقتصادي والتنمية البشرية، ودارت هذه السياسة في محيط الخليج العربي والوطن العربي والشرق الأوسط والعالم كافة.

          وقد منح التاريخ الثري والسمعة الطيبة والسياسة الخارجية المعتدلة والأسلوب المنظم لإدارة القدرات المالية الكويت القدرة لتكون دولة مركزية في السياسات العربية ومنحها أيضا القوة والمصداقية للعب دور الوساطة في النزاعات الإقليمية والدولية بهدف تقليل التوترات وفرض الأمن ونشر السلام.

          ويشهد تاريخ الكويت المعاصر بقدرتها على القيام وبمنتهى الكفاءة بعمليات الوساطة والمساعي الحميدة ليس بين دول الإقليم ولا المنطقة العربية فحسب بل على مستوى العالم أجمع ما جعل لها ثقلا سياسيا يعتد به دوليا.

          وظلت الكويت لسنوات طوال وهي تقوم بوساطتها الدبلوماسية ومساعيها الحميدة بين أكثر من دولة داخل الإطارين العربي والإسلامي، تنادي وتؤكد على ضرورة إنشاء محكمة عدل عربية وإسلامية على غرار محكمة العدل الدولية، تقوم بحل المشكلات وإنهاء الخلافات بين مختلف الأطراف المتنازعة على أسس العدل والمساواة واحترام الحقوق التاريخية، وهو ما أكسبها موضوعية وحيادية ساعداها على القيام بوساطتها الدبلوماسية في أكثر من مناسبة على أكمل وجه وأفضل صورة.

عميد الدبلوماسيين

          وتدين الكويت بالفضل لسمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد الحالي ووزير خارجيتها الأسبق وعميد الدبلوماسيين الذي أسس لمدرسة الدبلوماسية الكويتية منذ نحو خمسين عاما، بعد أن حمل حقيبتها المثقلة بالمشكلات والأزمات المحلية والإقليمية والدولية في 28 من يناير 1963م لأربعة عقود أرسى خلالها قواعد دبلوماسية ميزت السياسة الخارجية الكويتية ولاتزال، حيث عمل جاهدًا على إيجاد حلول عادلة لهذه المشكلات والأزمات على أساس التعاون والسلم الدوليين بعيدا عن الهيمنة أو فرض السيطرة، فاستطاع سموه من خلال مواقفه المعتدلة على جميع الأصعدة وإسهاماته الإيجابية في الوساطة ومساعيه الحميدة أن يصل إلى حلول عادلة وحاسمة للكثير من الأزمات والمشكلات المحلية والإقليمية والعربية والدولية، فأضحت الوساطة والمساعي الحميدة عنوانا بارزا للسياسة الخارجية الكويتية في العصر الحديث. وقد نجحت الكويت في سياستها هذه بسبب مصداقية سلوكها ورفضها التام لفكرة المساومة على حساب الحق الثابت، الأمر الذي جعل من الدبلوماسية الكويتية مدرسة بذاتها تقوم على نكران الذات والنظر إلى المصلحة العامة قبل الخاصة.

          ويقصد بـمصطلح «الوساطة» قيام طرف ثالث معين، دولة واحدة أو أكثر أو منظمة دولية أو حتى شخصية دولية لها مكانتها المرموقة على الصعيد الدولي، بالتوسط لدى أطراف النزاع الدولي عن طريق الاشتراك معهم في عملية التفاوض ومتابعتها مع اقتراح الحلول المناسبة وغير الملزمة لهذه الأطراف.

          بينما يقصد بـمصطلح «المساعي الحميدة» قيام طرف ثالث معين، دولة واحدة أو أكثر أو منظمة دولية أو حتى شخصية دولية لها مكانتها المرموقة على الصعيد الدولي بمحاولة التقريب بين وجهات نظر الأطراف المتنازعة وحثها على القبول بمبدأ التفاوض المباشر أو الاتفاق على عرض النزاع على جهة دولية لتسويته، وقد يكون الغرض من بذل هذه المساعي الحميدة تفادي قيام حرب محتملة بين الأطراف المعنية أو وضع حد لحرب قائمة بالفعل.

          ويتوقف نجاح الطرف الثالث في مساعيه الحميدة أو وساطته على قوته وقدرته على فرض هيبته، وكذلك قدرته أيضا على تحمل تكاليف الصلح التي قد تكون مادية في بعض الأحيان.

          وإيمانا من الكويت بضرورة تنقية الأجواء العربية وإيجاد حلول حاسمة للمشكلات العربية - العربية، شرعت منذ ما بعد استقلالها بسنوات قليلة في تنقية الأجواء العربية من الشوائب التي أصابتها، وذلك من خلال تنظيمها للقاء خاص جمع الأحزاب المتنافسة في اليمن الشمالي (الجمهوريين الملكيين) مع ممثلي جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية من أجل وضع حد للحرب الأهلية المشتعلة في هذه الأثناء، وفي أغسطس 1966م استؤنفت هذه الاجتماعات مرة أخرى في الكويت من أجل الهدف ذاته، ومع استمرار الأوضاع بين اليمنين الشمالي والجنوبي في التدهور خلال السنوات التالية ووصولها إلى ذروتها أواخر 1972م بذلت الكويت جهودا دبلوماسية حثيثة لإيقاف الاشتباكات المسلحة في المناطق الحدودية المشتركة التي أسفرت عن توقيع اتفاقية سلام بينهما عقب الزيارة التي قام بها سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وقتئذ للدولتين.

          وكان للجهود الدبلوماسية الكويتية أثر بالغ عن طريق الوساطة والمساعي الحميدة في تقريب وجهات النظر بين الإمارات العربية وإزالة الخلافات بينها خلال الفترة ما بين عامي 1968و1971م، حتى كللت هذه الجهود بالنجاح بالإعلان عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971م.

          وفي نهاية الستينيات نظمت الكويت العديد من اللقاءات لمندوبي حكومتي طهران والبحرين في مقر ممثلها بجنيف، ما أثمر لاحقا قبول الطرفين لتسوية النزاع بعرضه على هيئة الأمم المتحدة التي أقرت إجراء تصويت للبحرينيين يختارون بموجبه ما يريدون وتكون نتيجة هذا التصويت ملزمة للطرفين، وهو ما تم بالفعل بتصويت البحرينيين لاستقلالهم.

تاريخ كويتي في حل أزمات عربية

          كما كان للكويت دور كبير في الجهود العربية المبذولة لوضع حد للصراع المسلح بين السلطات الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية أو ما عرف بــ «أحداث أيلول الأسود 1970م»، ويشهد التاريخ بالدور المهم الذي لعبته الكويت في معالجة هذه الأزمة باشتراكها ضمن الوفد العربي الذي نجح في احتوائها وإخراج الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من الأردن. ولم تقتصر جهود الكويت الدبلوماسية على دول العالم العربي فقط، حيث امتدت إلى العالم الإسلامي، ففي بداية السبعينيات، شاركت الكويت في حل النزاع القائم بين باكستان الشرقية والغربية، حيث قاد سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وفد المساعي الحميدة المشكل من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي إلى كل من دكا وإسلام أباد، والذي نجح في تقليل التوتر قدر الإمكان وتطبيع العلاقات بين بنغلاديش وباكستان.

          ومع بداية اندلاع الأزمة اللبنانية أواسط السبعينيات (الحرب الأهلية 1975م)، التي استمرت حتى عام 1989م، كان للكويت دور بارز في شتى المحاولات العربية لإطفاء نيران هذه الحرب الأهلية المستعرة طيلة أربعة عشر عامًا، حتى كللت هذه المحاولات بالنجاح عن طريق اللجنة السداسية التي شكلتها الجامعة العربية برئاسة سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح.

          ومع تواصل الأزمات بين سلطنة عمان وجمهورية اليمن الديمقراطية، كان للكويت موقفها المؤثر في رأب الصدع العربي عن طريق وساطتها الدبلوماسية بدءا من 1980م والتي كللت بالنجاح، حيث وقعت الدولتان اتفاقية خاصة بإعلان المبادئ، ثم تجددت تلك الوساطة ثانية حين شب، نزاع حدودي بين الدولتين عام 1982م، وفي عام 1984م، دعت الكويت لاجتماع يعقد على أراضيها بين وزيري خارجية الدولتين وفيه تم الاتفاق على إنهاء الحرب الإعلامية والدعائية بين الدولتين واحترام كل دولة لشئون الدولة الأخرى الداخلية، وكذلك احترامها لمبادئ حسن الجوار وسيادة وسلامة أراضي الدولة الأخرى وإقامة علاقات دبلوماسية بينهما.

          وتخطت الوساطة الدبلوماسية الكويتية آفاق العالمين العربي والإسلامي لتصل إلى القارة الأوربية، حيث توسطت الكويت بين بلغاريا وتركيا لحل مشكلة الأقلية الإسلامية التركية في بلغاريا، ودعت وزيري خارجية الدولتين لاجتماع، على أراضيها في عام 1989م كلل بالنجاح.

          وخلال عقد الثمانينيات، لعبت الكويت دورًا وساطيًا دبلوماسيًا كبيرًا بين الجارتين المتحاربتين العراق وإيران كلفها التورط كراهية لا طواعية في مجريات الحرب، بيد أنه وبعد ثماني سنوات من الاقتتال والتناحر والخسائر البشرية والمادية الضخمة واستنزاف الثروات والموارد، أذعنت الدولتان للحلول الدبلوماسية التي كان للكويت دور كبير فيها، وقبلتا قرار مجلس الأمن الداعي لوقف الاقتتال في يوليو 1988م.

          وتدين القضية الفلسطينية للكويت بالكثير، فقد ناصرتها لعقود متوالية بوسائل شتى، كان من بينها الجهود الدبلوماسية الحثيثة من خلال المشاركة ودعم كل الجهود الدبلوماسية القائمة على الوساطة لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي واستعادة الفلسطينيين لحقوقهم وأراضيهم المغتصبة سواء عن طريق المنظمات والهيئات العربية والإسلامية أو الدولية.

          ومثل الموقف الكويتي الرسمي من جمهورية مصر العربية خلال الفترة التي انقطعت فيها علاقاتها الدبلوماسية مع جل الدول العربية والممتدة ما بين عامي 1979-1988م درسًا كبيرًا في أصول الدبلوماسية حيث أعلنت الكويت ترحيبها بعودة مصر لمنظمة المؤتمر الإسلامي عام 1987م، وأكدت على تأييدها لمصر وحرصها على تسوية سوء الفهم بينها وبين الدول العربية وأملها في أن يعود عطاؤها للعالم الإسلامي حيث ظل سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح يؤكد على دور مصر الكبير في العالم العربي واستحالة استغنائه عنها، وأخذ يسعى لعقد مؤتمر قمة عربية تعود مصر من خلاله إلى الصف العربي لأهميتها التاريخية والإستراتيجية والقومية، وهو ما أثبتت الأيام صحة موقفه وبعد نظره بوقوف مصر إلى جانب الحق الكويتي ومناصرتها لها وقت أن غزاها العراق بجيوشه واحتل أراضيها طيلة سبعة شهور وقفت مصر فيها منذ اللحظة الأولى بجوار الكويت ودانت الغزو، وحاولت إثناء المعتدي عن غيه بالوسائل الدبلوماسية التي لم تجد نفعا، فاشتركت بجيشها مع قوات التحالف الدولية لتحرير الكويت احتراما للشرعية وتأكيدا على حقها في استعادة كل أراضيها.

          ويمكن القول إن تجربة الغزو العراقي للكويت على الرغم مما حملته من مآسٍ كثيرة صعب أن تسقط من الذاكرة الكويتية، إلا أن موقف دول العالم معها واصطفافها واحتشادها لنصرة الحق التاريخي الكويتي يعد ثمرة من ثمار السياسة الخارجية الكويتية المرموقة ودبلوماسيتها الرائدة التي أرسى قواعدها سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حيث استفادت الكويت من وقوفها الدائم مع دول العالم المختلفة صاحبة الحق وسعيها الدائم لإرجاع الحق لأهله واحترامها للمواثيق والمعاهدات الدولية وعملها لعقود طويلة كراعية وداعية سلام بين دول العالم عبر وساطتها ومساعيها الحميدة التي غالبًا ما صادفها النجاح والتوفيق.
-----------------------------------------
* كاتب من مصر مقيم في الكويت.

 

 

 

محمد محمود الطناحي*   
  




 





سمو الشيخ صباح الأحمد حينما كان وزيرا للخارجية في زيارة للعراق في العام 1968 وإلى يمينه الفريق عبد الرحمن عارف الرئيس العراقي الأسبق والمغفور له الشيخ صباح السالم الصباح أمير الكويت آنذاك





سمو أمير الكويت يتوسط ملوك وأمراء دول الخليج في إحدى دورات قمة مجلس التعاون الخليجي





سمو الشيخ صباح الأحمد في لقاء مع الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كورت فالدهايم في العام 1972م





سمو الشيخ صباح الأحمد مترئساً وفد دولة الكويت ممثلا عن الأمير المرحوم الشيخ صباح السالم الصباح وكان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية خلال القمة العربية - الإفريقية في القاهرة عام 1977م





سمو الشيخ صباح الأحمد في لقاء مع بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة





في لقاء مع كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة





سموه يلقي كلمة الكويت في الأمم المتحدة