الدين والإنسان واليوتوبيا في العالم ما بعد الصناعي

الدين والإنسان واليوتوبيا في العالم ما بعد الصناعي
        

          ألهمنا المسيح مفهوما عن «دين مجرد» يمثل إجابة عن السؤال: كيف تحيا في ذاتك وتواجه هذه الذات، تقمع غرائزها ومطالبها؟ وليس إجابة عن سؤال .. كيف تعيش في العالم مع الآخرين، وكيف تغيره للأفضل؟ إذ تنبذ المسيحية الأولى أي توجه لتغيير العالم الخارجي، وتنظر إليه على أنه نوع من خداع النفس، لأن العالم الحقيقي هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقي إليه تاركًا خلفه عالمنا الخاوي، الذي لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه!

          نهضت الكاثوليكية، أي تأسست ونمت، في ظل علاقة مراوغة مع المفهوم المسيحي عن الإنسان، إذ كان عليها أن تدير موروثا روحانيا يدعي السمو على الأرض من ناحية، فيما تحيا معضلات الواقع من ناحية أخرى. وقد دفع بها هذان الأمران إلى تناقض وجودي بين روحانية نظرية، ودنيوية عملية، كانت كفته تميل باستمرار ضد الروحانية الصرفة، ولمصلحة الانشغال الدنيوي في قلب الإقطاع الأوربي.

          ولأن الصيغة الوجودية الأكثر إلهاما للسلوك الإنساني هي صيغة «الزاهد النشيط»، كونها تخلق دوافع العمل وتولد الرغبة في الكفاح، من دون أن تحيله إلى نزعة تغلُب؛ تسعى إلى الاكتناز أو التسلط على الآخرين، فقد عاب هيجل على المسيحية غياب تلك الصيغة، مفسرا هذا الغياب بتصور أن السيد المسيح لم يرد أن يجعل مبادئه عامة تصلح للجماعات كما تصلح للأفراد، وأن تلاميذه أخطأوا عندما أحالوا دعوته لممارسة الفضيلة «الخاصة» به، إلى أوامر إيجابية صارمة، وكأن ما قاله يسوع لعدد محدود من التلاميذ يصلح لأن يكون قاعدة عامة للناس. ومن هنا ظهرت استحالة تطبيق تلك المبادئ، كما ظهر التناقض واضحًا بين إنكار العالم على نحو ما يقضي به الموقف المسيحي وضرورة التمسك به على نحو ما تقتضيه الحياة الجماعية في كنف وطن.  ولا يمكن فهم الدور الذي لعبته الأخلاق البروتستانتية الجديدة «النشيطة» كما تصورها كالفن إلا في سياق تطور المسيحية الكاثوليكية، وربما الأديان الهندية (البرهمية والبوذية)، التي طالما عولّت على صناعة المؤمن «الزاهد»، ولم تكترث بخلق المؤمن «النشيط»، على منوال ما كان متصورا قيامه نظريا في اليهودية والإسلام، حيث إن الحافز الدنيوي للنشاط قائم وموفور منذ البداية. وهكذا كانت الكالفينية في جزء منها تناغما مع مطالب عصر جديد يعول كثيرا على النشاط وإن حرص على استبقاء نوع من الزهد، عندما جعلت النجاح المادي أمرا، ليس فقط مشروعا مادام  مؤسسا على الرغبة في تنمية الثروة مع الزهد في الاستمتاع بها، بل ومرغوبا أيضا كطريق للخلاص الأخروي وعلامة على النجاح في تحقيقه.  أما في الجزء الآخر منها فكانت محاولة لصوغ شرط إنساني جديد، أكثر توازنا، يتصور للإنسان دورا أكبر في السيطرة على المصير، وحفز حركة التاريخ.. إنسان يمكن وصفه بـ «التكاملي»، ينطوي على شعور الإيمان ومشاعر الحب ولكنه دائم التطلع إلى بلوغ المعرفة وتنمية الثروة .. إنسان لا يطمح إلى روحانية الزاهد، ولكنه لا ينفلت من جوهر الشرط الإنساني.

نظرة متفائلة

          في ظل التنوير المبكر، (القرن الثامن عشر)، أخذت هذه النظرة المتفائلة إلى الطبيعة البشرية تتغلغل في المسيحية، من دون تناقض ظاهر أو جذري معها، حيث أشاع روسو مذهبه عن «الكمالية»، بمعنى قابلية الإنسان للتغير إلى الأفضل، بل ولتحقيق الكمال شريطة أن يدرك الإنسان طبيعته، أي قدراته الداخلية الكامنة، المهددة حاليًا بنقائص المجتمع الذي يحيا فيه. غير أننا يجب أن نفهم معنى الكمال هنا باعتباره تحقيق التقدم الفكري والأخلاقي المطرد عبر التاريخ، حيث تزداد الثقة في قدرة العقل الإنساني على الإبداع، وفي قدرة الإنسان على تحقيق الخلاص، وليس الكمال بمعنى بلوغ تلك الدرجة من السمو أو القداسة المرتبطة بالحقيقة الإلهية.

          أما القرن التاسع عشر فقد شهد مسارين أساسيين لتغلغل النظرة التنويرية المتفائلة أخذا يضغطان على الروح المسيحية:

          المسار الأول يأتي من داخلها، وهنا يمكن التوقف عند مفكرين: أولهما هو الإنجليزي الكاردينال نيومان، أحد أساتذة أكسفورد الذي أصبح شخصية مرموقة في حركة الاحياء الإنجليكاني (حركة أكسفورد)، والذي أكد في كتابه «مقال في تطور العقيدة المسيحية» عام 1845م  أن المسيحية لابد وأن تنمو وتتطور داخل صورتها التقليدية المقدسة؛ فبقدر ما أنها مؤسسة إلهية، بقدر ما هي بطبيعة الحال كاملة وأسمى من أي تغيير. ولكن بقدر ما هي مؤسسة بشرية، هنا على ظهر الأرض فلابد أن تتغير. إن لها شأنا آخر في العالم العلوي، أما هنا في العالم الأدنى فإن الحياة تعني التغير، وبلوغ الكمال يعني التعرض للتغير كثيرًا.

          والآخر هو الألماني ماكس فيبر، الذي طبق عمليا ما نادى به نيومان نظريا، وذلك في أطروحته الكلاسيكية «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» التي مزجت بين المسيحية والرأسمالية مزجا خلاقا، وأعادت اكتشاف الطهرانية الكالفينية، باعتبارها الفكرة التي صاغت عقلية الربح والفائدة، كخاصيات أساسية للرأسمالية الحديثة. لقد استخلص فيبر في بداية القرن العشرين فهما جديدًا للروح البروتستانتية، جوهره أن على المسيحي المخلص أن يتبع النداء الداخلي بالاستفادة من الفرصة التي منحها الله له، فإذا أراه الله طريقا يستطيع أن يحصل منه قانونيا على أكثر مما يحصل عليه من طريق آخر من دون أن يظلم روحه أو أي روح أخرى، ورفض ذلك واختار الطريق الأقل ربحا، فإنه يعارض واحدًا من أهداف عمله ويرفض أن يكون خليفة الله، ويرفض أن يقبل عطاياه ويستخدمها من أجله عندما يطلب ذلك. فقد يكدح ليكون غنيا من أجل الله، وليس من أجل متعة الجسد أو الإثم.

النفعية الحكيمة

          وهنا أكد فيبر على نوع من النفعية الاقتصادية «الحكيمة» كقبول الاقتراض بالفائدة والتأكيد على المقولة الأساسية بشأن «المسيحي النشيط» الخادم لله ولإخوانه بفضل نشاطه، استنادا إلى رفض كالفن الصارم لذلك التصور الأسطوري التقليدي عن دائن واسع الثروة ومدين بائس، وإلى أنه لا يمقت مبدأ البحث عن الربح، طالما ظل ربح هذا الإنسان المسيحي، الموجود بفضل العناية الإلهية، غير مضر للآخرين. فالثروة إذن، وحسب الأخلاق البروتستانتية الجديدة سيئة فقط لو كانت إغراء بالكسل والتمتع بالحياة الآثمة، واكتسابها سيئ عندما يكون بهدف العيش فيما بعد في اللهو واللامبالاة، ولكنها عندما تكون أداء لواجب في العمل، لا تكون فقط مقبولة أخلاقيا بل مفروضة فعليا. وقد أدى هذا النوع من التفكير إلى عقلنة الحياة الاقتصادية، فالزمن والتوقيت اتخذا دلالة جديدة معادلة للقيمة والمال، ولم يعد التاجر الناجح هو حتما مسيحياً ماكراً. وهكذا تطور زهد نشيط نابع من فكرة عمل إنساني مستحب من الله، غذى لدى كل فرد الإيمان بكونه التجلي لأمر الله. ذلك الشعور بات هو الموقف الديني المحبذ لدى البرجوازيين، بديلا عن التأمل الشارد في الملكوت الإلهي.

          أما المسار الثاني، فهو الضغط الخارجي، القادم من النزعة العقلية / التجريبية، سواء المستقلة عن الإيمان، أو المضادة له والتي وصلت إلى حد الادعاء بمركزية الإنسان في الوجود وعدم حاجته، من ثم، إلى قوة متعالية تحقق له خلاصه الذي تحول تقريبا إلى معنى خاص لمفهوم «التقدم» الذي يستطيع الإنسان تحقيقه ومراكمته بالعلم والتعلم، كما بالحرية والإرادة.

          لقد ظل الزهد البروتستانتي النشيط ملهما عبر ثلاثة قرون تلت، غير أن الحداثة الغربية كبنية تاريخية ازدادت تركيبا بتوالي عصورها: التنوير، والصناعة، وسرعان ما تجاوزته إلى نزعة مادية، أخذت تبتعد عن المركزية الإلهية في الوجود، وتخضع لمركزية إنسانية، متطرفة أحيانا، جعلت من الخبرة البشرية وحدها، ومن القيم الوضعية / النسبية التي أنتجتها، مطلقا جديدا تتحدد في ضوئه غايات الاجتماع الإنساني التي غالبا ما عبرت عن نفسها في بنية أخلاقية مستقلة عن المقدس، وأحيانا عن الفطرة الإنسانية ذاتها، على نحو ما يتبدى الآن في أخلاق ما بعد الطبيعة.

          عندما كان فيبر يُنظِّر لأطروحته بداية القرن العشرين، كانت الرأسمالية الغربية قد تخطت بالفعل تلك النقطة التوازنية التي نظَّر لها، ابتعادا عن الإنسان التكاملي (الزاهد والنشيط)، وافتراقا تاما مع الإنسان المتسامي (الزاهد)، اقترابا من الإنسان الوظيفي (النشيط فقط)، الذي كان هربرت ماركوزا يستعد لتسميته بـ «الإنسان ذو البعد الواحد» راسما معالم شخصية إنسانية فقيرة في أبعادها، تفتقر إلى الثراء الداخلي القادر على صوغ تكاملها، وإلى الطموح الروحي الدافع إلى تساميها، إذ  تقترب في أقصى حالاتها الاختزالية من واقع آلة تؤدي دورا مخططا على نحو مسبق لا تتجاوزه، فيما تثري وجوده فقط عن طريق السعي إلى زيادة سيطرتها بحيازة المزيد من السلطة أو الثروة. وهكذا يصير العالم الخارجي، الذي يحتوى مقتنياتها، ويشهد على نفوذها، ليس فقط مجالا لفعل هذا الإنسان وحيويته، بل وأيضا مركزا لإلهامه، ومرجعا لأحكامه، فلم يعد لذاته الروحية «الباطنة» قيمة جوهرية أو حضور متميز أو إرادة حرة.

          هذا الإنسان الوظيفي لا يمكنه أن يحب الآخرين حبا حقيقيا، أو ينعم بمعانٍ كبيرة، وأحاسيس عميقة، بل يجد نفسه في حال من التنافر والكراهية مع الآخرين، مدفوعا بطبيعته الأنانية التي تجعل الرغبة في التملك والسيطرة أساس إحساسه بالهوية، وهي نزعة مادية صرفة تتصور الإنسان فقط كحاصل لمجموع قدراته على الكسب المادي والتسلط الاجتماعي. والمفارقة التي قد تحدث، أن هذا الإنسان يتوقف، بعد فترة طالت أو قصرت، عن أن يحب نفسه أيضا، حيث الرغبة العارمة في التملك تدفع به إلى الاغتراب عن نفسه تدريجيا حتى يغيب تماما عنها، ولا يبقى قادرا على إدراك كيف يستعيدها من براثن تلك الحالة التي ربما يتململ منها أحيانا، وربما يكرهها في لحظات مفصلية أو تحولية «شجية» أو «مؤلمة» من حياته إلى درجة تبعث على التأمل، غير أنه لا يكاد يذكر ذلك  في ما بعد تلك اللحظات الاستثنائية، حينما يعود إلى نمط حياته المعتاد.

          ولأن من المفترض أن هذا النمط النفسي لايقتصر على شخص واحد بل يصير إلى الانتشار في المجتمع، فالمتصور أن تنمو الرغبة في الهيمنة والتملك لدى الكثيرين، وأن يخاف كل واحد منهم أن يأتي ثراء الآخر أو هيمنته على حسابه هو، فيبدأ خوفه وينمو توجسه من الآخرين جميعا. وخشية أن يكون محلا لعدوانهم، يسعى هو نفسه إلى الهجوم عليهم بأشكال العدوان المتاحة لديه، وهنا تنمو أشكال الفساد والاحتكار في دنيا الاقتصاد، وتترعرع أشكال الاستبداد والعنف في عالم السياسة، ويصبح المجتمع فقيرا تماما ولو كانت موارده غزيرة جدا، ومن ثم نصبح في حالة أشبه بحرب الجميع ضد الجميع، حيث تسود المنافسة والعداء بين الأفراد المتصارعين من أجل الاستحواذ على الأكثر دائمًا من الأشياء والمقتنيات، وليس على الأعمق من المعاني والمشاعر التي تصوغ قدرة الإنسان على تذوق الحياة، وتجعل منه إنسانا حقا.

          وإذ تنمو هذه الحالة من الفرد إلى المجتمع، فليس متصورا أن تتوقف عن طرح آثارها بين المجتمعات والدول، بل الأغلب أن يسود ما يسميه شارل فوييه «دين التجارة»، حيث تصير الحكمة والفضيلة موضات بالية، وعظمة الأمة الحقيقية هي أن تبيع زوج سراويل أكثر مما باعت الإمبراطورية المجاورة بدلا من أن تشتريه منها. وإذ تشي لنا خبرة التاريخ بأن زيادة أزواج السراويل المبيعة تقتضي زيادة في المدافع والطائرات التي تحمي انتقالها، أمكننا تصور كيف أن السلام، كحالة دائمة لعلاقات انسجام وتوافق بين الأمم، لم يحدث في أغلب عصور التاريخ، حتى حينما تطور العلم واستطاعت التكنولوجيا أن تزيد من ثراء البشر ورفاهتهم. ذلك أن الجشع الفردي، والتفاوت الطبقي، والتحيز الدولي عملات متداخلة معا كمنظومة خانقة للجوهر الإنساني وعائقة له عن التطور نحو الفضيلة والعدالة والحرية.

          لقد أخذ الشرط الإنساني التوازني، الذي كانت الكالفينية قد أسهمت في صوغه (داخل المسيحية بالذات)، في التراجع والتردي، حتى انهار تماما في عصر ما بعد الصناعة، والذي يشهد انعكاسا جذريا في العلاقة بين النظامين: التكنولوجي/ الاقتصادي، والأخلاقي/ الاجتماعي. ففي عصور طويلة مضت كانت الحاجة هي أم الاختراع، أي أن الفن الإنتاجي كان يقوم على تلبية حاجات إنسانية قائمة فعلا، وملحة أيضا. لكن ومع التقدم التكنولوجي المطرد، صار الاختراع هو أبو الحاجة، القادر على توليدها وتنميتها في الوعي عبر الإلحاح بشتى الصور حتى تستحيل مكونا أساسيا في حياة الإنسان، وعندها يهرب الاختراع إلى ابتكارات جديدة، وممارسة إلحاح أشد، محولا إياها إلى حاجات فعلية جديدة، وهكذا يتم استلاب المجتمع الحديث وتطويع الإنسان فيه.

طريق جديد للخلاص

          إزاء انهيار الشرط الإنساني الذي نظر له فيبر، تبدل طريق الخلاص تماما، متجها من السماء نحو الأرض، غير أن ذلك لا يعني أن أطروحته الملهمة  تقادمت، بل على العكس تجددت حاجتنا إلى كثير من مقولاتها لصوغ شرط إنساني متجدد يلبي حاجة المجتمعات المعاصرة، وهو أمر يتطلب إدراكات ثلاثة أساسية:

          أولها أن طريق العمل  الجديد يسير في الاتجاه العكسي، نحو استعادة نوع من الزهد، وقدر من التسامي، يعيد للشخصية الإنسانية قدرا من توازنها النفسي واطمئنانها الروحي، ويهدئ نوعا ما من قلقها الوجودي المتزايد في درجته، والمتعدد في مصادره إلى درجة الانفجار. وثانيها أن الشرط الإنساني الجديد لم يعد مسيحيا بل كونيا، فإذا كانت  الفيبرية، وبالأحرى الكالفينية، جاءت كرد فعلي على كاثوليكية متناقضة بين السماء والأرض، متورطة في إقطاع مادي، فإن هذا الشرط لابد أن يرد على إقطاع «روحي» يتخلل المجتمع ما بعد الصناعي.

          أما ثالثها فهو أن العالم يحتاج إلى استعادة بعض السحر القديم إلى داخل عالمنا الجديد، لا عن طريق طقوس أو خرافات تجافي العصر والعقل، بل عن طريق إيمان روحي نشيط، يعيد الاعتبار للإنسانية الجديدة في موازاة إعادة الاعتبار إلى الألوهية المشرقة، وإلى ميتافيزيقا جديدة تنسجها معا أعمق موروثاتنا الأخلاقية، ومثلنا التنويرية، بل ونماذج اليوتوبية الأصيلة، فجميعها يستعيد للإنسان قدرته على التحرر من إفك السيطرة، وعلى الإعتاق من هيمنة المادة، وعلى الحلم بعالم أكثر أمنا ورحابة، وأقل توترا وكآبة.
---------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

صلاح سالم*