عن النوع والمرأة بين العلم والطب في الفكر الغربي

عن النوع والمرأة بين العلم والطب في الفكر الغربي
        

          شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهور أنماط جديدة من البحث التاريخي والكتابة التاريخية تعبر عن رؤى جديدة لحركة التاريخ. ومن الفروع الجديدة التى نتجت عن هذه الرؤى ما يسميه الباحثون «تاريخ الجسد».

          كان التطور العظيم الذي دار في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين في موضوع «تاريخ النوع» و«تاريخ الجسد» قد تجاوز الصور المحددة المتعارف عليها في الفكر والثقافة الغربية - منذ أيام الإغريق القدماء حتى القرن التاسع عشر - لكل من الجسد الذكوري والجسد الأنثوي بحيث أخذ الباحثون والمؤرخون المشتغلون بهذا النمط الجديد من الدراسات يدرسون تاريخ فكرة اختلاف النوع والجنس بحد ذاتها. وفى دراسة قام بها أحد الباحثين المعاصرين؛ وهو توماس لاكير (Thomas W. Laqueur ,Making Sex, Cambridge,Mass,1990) يزعم أنه قد رصد تحولا في الفكر الغربي في تعريف مفهوم الجنوسة النوعية وتطوره من المفهوم الإغريقي القديم عن الاختلاف الجنسي الذي يسميه «النموذج التراتبي لجنس واحد» وصولا إلى المفهوم الحديث عن الفرق بين الجنسين.

          وهنا نجد أنفسنا في مجال بحث تاريخي مختلف يتحدث عن تاريخ الكتابات الطبية / العلمية والفلسفية التى تناولت موضوع النوع، والمرأة بصفة خاصة، في تاريخ الفكر الغربي عموما (وربما يكون من المناسب هنا قبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع أن نشير إلى أن موقف الفكر الغربي في هذا المجال يختلف بشكل كبيرعن الفكر في الثقافات الإنسانية الأخرى؛ صحيح أن المرأة في التاريخ الإنساني لم تكن تحظى بمكانة مساوية للرجل، ولكنها لم تصل إلى حد النفي والإلغاء الذي عانته في الفكر الغربي قبل العصور الحديثة). ذلك أن مفهوم الجنسين المتقابلين أو المتضادين (الذكر والأنثى) الذى يمثل جوهر مفاهيمنا الحديثة في مجال الجنوسة لم يكن معروفا في الكتابات الطبية والعلمية في أوربا القرن الثامن عشر. ولم يكن الذكر والأنثى يعتبران «نوعين» متمايزين جذريًا في ذلك الحين. فقد كان هناك رأى موروث عن الكتاب الإغريق القدماء مؤداه أن هناك نوعا بشريا واحدا هو الذكر: إذ إن الذكورة في ظنهم قد احتوت على كل الخصائص الجوهرية اللازمة لاكتمال الغايات الإنسانية؛ ما أسبغ على الذكر قدرة أكبرمن قدرة الأنثى على التحمل في الرياضة وفي الحرب، كما أن رءوس الذكور الأكبر حجما تجعلهم مناسبين لممارسة الشئون السياسية وقادرين على التفكير الفلسفي.

          ومنذ بزوغ فجر العلم الغربي قديما في بلاد الإغريق لم تكن «المرأة» موجودة وجودًا ذاتيًا مستقلاً في الثقافة السائدة وفي الحياة الاجتماعية على السواء: فمنذ أيام أرسطو، مرورًا بجالينوس، حتى نهاية القرن السابع عشر، كان الفرض «العلمي والطبي» الأساسي يقول إن هناك نوعًا بشريًا واحدًا حقيقيًا فقط هو «الذكر»؛ وهو ما كان الأساتذة والآباء المؤسسون في علم البيولوجى والطب يدرسونه لتلاميذهم طوال تلك العصور. فقد كان علم البيولوجى في أطواره الأولى يزعم أن الأنثى مخلوق ذكري مشوه (كان فرويد يزعم أن الأنثى كانت ذكرا فقدت عضوها الذكوري في أثناء نموها الجنيني). وكان مثل هؤلاء «الصبية المشوهين» يسمون «بنات»؛ بل إن بعض أتباع أرسطو كانوا يطلقون عليهن وصف المسخ. ويقول لاكار إنه انطلاقا من هذا الموقف كانت مبايض الأنثى توضع تحت اسم «خصيتي المرأة» مما يعنى ضمنا أنها رجل لحقه التشوه في الرحم. وهناك حقيقة فاضحة مؤداها أنه على مرِ تاريخ الفكر الغربي قام الأطباء، الذين كانوا من الذكور دائما حتى نهاية القرن التاسع عشر، بإساءة استخدام هيبة العلم لكى يصموا الأنثى بأنها أقل شأنا من الذكر.

          ومع طلوع شمس القرن التاسع عشر، كان التفكير في النوع أو الجنوسة قد تغير تغيرا خطيرا بالفعل. ذلك أن المفهوم القديم عن المرأة باعتبارها «ذكرا غير مكتمل التسوية» حسب التعبير الحرفي في مصادر تلك الفترة قد تلاشى تماما. ونتيجة للتقدم العلمي النسبي آنذاك، أخذ الأطباء في ذلك القرن يدرسون أن المرأة تكاد تكون فصيلة بشرية منفصلة (لم يكن هذا موقف الطب في ثقافات أخرى سابقة ومعاصرة منها الطب في ظل الحضارة العربية الإسلامية مثلا)، وكان وراء هذا التغيير ذلك بزوغ التفكير العلمى الجديد الذى عرفته أوربا في القرن التاسع عشر والبحوث التى نجمت عن ذلك التطور. وقد أدت البحوث في نظام الإنجاب عند الأنثى إلى اكتشاف أن النساء تفرزن البويضات بشكل تلقائي ووفقا لإيقاع داخلي خاص بالإناث. واتضح للأطباء أن هذا التبويض ليس نسخة معيبة من أى نشاط بيولوجي أو فسيولوجي لدى الذكور، وإنما هو نشاط تنفرد به الإناث فقط. وقد أثبتت الأبحاث التى أجريت على الدورة الطمثية أن النساء يمكنهن أن يحملن من دون شهوة الجماع ؛ بل من دون إثارة جنسية لهن على الإطلاق (مثلما يحدث في حالات الاغتصاب) وهو ما يخالف الرأى الذي كان سائدا في الأوساط الطبية الأوربية قبل ذلك. وهكذا توصل علم البيولوجى الأوربي إلى حقيقة أن الذكر من ناحية، والأنثى من ناحية أخرى, عالمان منفصلان من الناحية الجنسية وأن النساء مقيدات بأرحامهن التى تحمل أجنة الذكر والأنثى في فترة الحمل بصورة طبيعية ومتساوية.

          هكذا، إذن، تخلت الصورة «العلمية» عن المرأة التى سادت في أوربا حتى بداية القرن التاسع عشر على الأقل والتى كانت تصور المرأة باعتبارها شبيهة بالرجل من الناحية الجنسية، ومن ثم فهي شهوانية مثله، عن مكانها لصورة أخرى ترى في المرأة جنسا مختلفا، ومن ثم فهي تتسم بالبرود الجنسي ولكن الافتراضات الطبية ظلت بمنأى عن الحقيقة فترة أخرى. وكان لابد للعلوم الطبية والبيولوجية الأوربية أن تنتظر حدوث تلك التطورات والاكتشافات العلمية الحديثة لتعرف حقائق الجسد البشري ممثلا في الأنثى وفي الذكر على السواء.

          ولم يكن هذا التحول العلمي الطبي في ميدان فكرالجنوسة ليحدث في أوربا دون أن يتردد صداه على المستوى الاجتماعي / الثقافي. ففي هذا التحول لم تكن التغيرات الاجتماعية تقل حسما عن التعاليم الطبية حسب ما أكده لاكير في دراسته المثيرة. فقد نتج عن ذلك نموذج اجتماعى ساد في إنجلترا، مثلاً، في العصر الفيكتوري يرى أن المرأة تختلف عن الرجل حقا ولكنها مكملة له، وبناء على هذا ينبغى أن تكون زوجة ويجب أن تبقى في المنزل لكى تصير أما منجبة (ملاكا في بيت الدمى)، وزينة ومتعة لزوج في الخارج يرأس مشروعا صناعيا أو تجاريا ما أو يقود فرقة من فرق جيوش الإمبراطورية، أو ما شابه ذلك من مهام «عظيمة تليق بالرجال». وعلى أية حال، فقد صار من المقبول عقلا أن «الطبيعة» حسب رأي علماء ذلك الزمان قد خلقت النساء والرجال على نحو مختلف عن كل منهما الآخر من أجل القيام بهذه الأدوار المختلفة بسبب انفصال النساء عن الرجال من الناحية الفسيولوجية.

          بيد أن أهم ما تمخضت عنه تلك التطورات في التاريخ الاجتماعي والثقافي الأوربي أن خرجت المرأة من زاوية النقص والإقصاء إلى رحابة المشاركة الاجتماعية، مرورا بمراحل عدم المساواة حتى تبلورت في تلك الحركات النسوية المنتشرة في الغرب، وفى الولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص، وأصدائها المترددة في كل أركان كوكب الأرض. وهكذا كانت التطورات العلمية والاكتشافات والتطبيقات المرتبطة بها، في أي فرع من فروع العلم، تترك بصماتها في حياة الناس والمجتمع الذى ولدت في رحابه.
----------------------------
* أكاديمي من مصر.

 

 

قاسم عبده قاسم*   
 




 





 





توماس لاكير