المعري في مرآة بدوي الجبل

 المعري في مرآة بدوي الجبل
        

          قرأت «جمال العربية» في «العربي» بالعدد 641 أبريل 2012 بقلم الأستاذ فاروق شوشة تحت عنوان «المعري في مرآة أبوريشة»، فأعادني إلى ما كنت قرأته عن مبادرة المجمع العلمي العربي في دمشق، إلى إقامة مهرجان ألفية أبي العلاء المعري في مسقط رأسه معرة النعمان، وذلك يوم الخامس والعشرين من سبتمبر 1944. دعا المجمع يومئذ فرسان القصيدة العربية التراثية في القرن العشرين: محمد مهدي الجواهري، عمر أبوريشة ومحمد سليمان الأحمد المعروف بلقب بدوي الجبل (أسباب إطلاق هذا اللقب على شاعرنا مجال شرحها ليس هنا).

          دعاني «المعري في مرآة أبوريشة» إلى التذكير بقصيدة بدوي الجبل في المهرجان الألفي وشاعرنا «البدوي» مولود في «جبل» محافظة اللاذقية (1903 - 1981) ولقصائده نكهة متميزة قلّ نظيرها وديباجة مشرقة. أما ديوانه فهو من منشورات دار العودة في بيروت وطبعته الأولى مؤرخة في الأول من أكتوبر 1978، وردت فيها قصيدته في مهرجان ألفية المصري تحت عنوان: «إيه حكيم الدهر» في نحو مائة بيت (93 على وجه الدقة)، ومع أنه قال في قصيدة له: ويؤذي البلاغة التطويل، إلا أن البلاغة خرجت في قصيدة أبي العلاء سليمة معافاة في رأيي على الأقل.

حَلي النَّديُ كرامة للراح
                              عجبًا أَتُسكرنا وأنتَ الصاحي؟

          هكذا بدأ بدوي الجبل ليقول بعد بيتين:

الدَّهرُ مِلْكُ العبقرية وحدها
                              لا ملك جبّار ولا سفّاح
والكون في أسرارهِ وكنوزهِ
                              للفكر.. لا لوغى ولا لسلاح

          وقفَ شاعرنا بعدئذ أمام معضلة قديمة طالما أثارت الجدل والخلاف، وقف بين الإيمان والعقل كما فعل المعري، ولكنه سرعان ما حزم أمره قائلاً:

خيرُ العقائد في هواي عقيدة
                              شمّاءُ ذات توثّب وجماح
تبني الحياةَ على هدى إيمانها
                              والعقل منبت غيرها والماحي
سُكْرُ العقيدة أين من آفاقه
                              سُكْر العيون وأين سكر الراح

          الجميل في هذه الأبيات ما تضمنتْه من إيمان عميق.. سحرية الإنسان في الاعتقاد بما ترضاه له إرادته وعقله.

          لا ينسى بدوي الجبل وهو بصدد المعري واقع بلاده المضطرب في تلك المرحلة.

          فالانتداب الفرنسي مازال يحتفظ بالجيش والشئون الخارجية برغم إعلان استقلال سورية في العام 1943، وزاد الموقف تعقيدًا وجود الجيش البريطاني بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية التي لم تكن قد انتهت. لذلك خصّ البدوي تلك الظروف بعدد من الأبيات ليس من الضروري ذكرها.

          وصل البدوي بعد وقوفه على مأساة بلاده بوجود الاحتلال الأجنبي إلى الأدبيات التي جعلت الأستاذ الجليل طه حسين - وكان في مقدمة المدعوين - جعلته يهتف معبرًا عن إعجابه، كما حدثني سيد كريم كان يجلس خلف الأستاذ طه حسين مباشرة:

أعمى تلفَّتت العصور فما رأت
                              عند الشموس كنوره اللماح
نفذَتْ بصيرته لأسرار الدجى
                              فتبرجت منها بألف صباح
من راح يحمل في جوانحه الضحى
                              هانت عليه أشعة المصباح

أبو العلاء الساخر النقاد؟

          يمر البدوي بأفكار أبي العلاء البارزة مرور العارف المطلع، والمدهش هنا أن ما كتبه في هذا الشأن بقي شعرًا خالصًا حافظ فيه على ديباجته الناصعة التي اشتهر بها.

          وتلوح رسالة الغفران في هذه الأبيات كأنها سينوغرافيا في مسرحية معاصرة، تسهم في إبراز ما يريد المخرج الإشارة إليه:

أمصوّرَ الدنيا جحيمًا فائرًا
                              يرمي العصور بجمره اللفاح
ضجّت ملائكة السماء بساخر
                              مرُّ الدعابة شاتم مدَّاح
السُّخْر فيه إذا أُخِذْتَ بكفره
                              كالسخر حين تراه في النصَّاح
نكب العقائد والطباع فيا لها
                              فَتَكات حتفٍ كالقضاء مُتاح
وعَدا على حَرَمِ السماءِ فيا له
                              فتحًا أطلّ به على الفتاح
عدَّى السرائر والنفوس مُمزِّقًا
                              عنهن كل غلالة ووشاح
وجلا المصونَ من الضمائر فانتهى
                              همسُ النفوس لضجة وصياح
إن يقسُ في نقد الطباع فلم تكن
                              ترجى لرحمتها يد الجراح

يا ظالم التفاح

          يفرد البدوي قسما مهما من قصيدته، (نحو عشرين بيتًا)، من أجمل أبيات القصيدة لموضوع المرأة والمعري.. ليس المهم لديه حقيقة علاقة أبي العلاء بالنساء أو موقفه منهن، وهناك روايات متنوعة بهذا الشأن في ما كتب عن المعري. لكن بدوي الجبل يفترض أن تلك العلاقة كانت «متوترة» ويشوبها نوع من العدوانية، لا تفصح القصيدة عن منشئها، لأن همها ينصرف إلى محاولة «إقناع» المعري من جهة بأهمية المرأة للمبدع العبقري أكثر من غيره ربما، ومن جهة أخرى لوم تلك التي حرمت المعري نعمة حبها على الجناية التي ارتكبتها، ويسهب في وصف العقوبة التي كان سينزلها بها «لو كان في يده الزمان وسره».

إيه رهينَ المحبسين ألم يئن
                              إطلاق مأسور وفكُّ سراح؟
ظفرت برحمتك الحياة وصنتها
                              عن كل ناعسة الجفون رداح
أتضيق بالأنثى وحبك لم يضق
                              بالوحش بين سباسب وبطاح؟
يا ظالم التفاح في وجناتها
                              لو ذقت بعض شمائل التفاح

          بودِّي لو استرسلت في تدوين أبيات كثيرة من هذه القصيدة، متمنيًا أن يعود من يهتم بهذا الموضوع القديم الجديد إلى ديوان بدوي الجبل لقراءتها على هواه.

          أتيح لي منذ سنوات حضور أكثر من سهرة في منزل دمشقي كريم كان الشاعر الجواهري نجمها. وأذكر أنه روى حكاية مشاركته في مهرجان أبي العلاء. ما بقي في ذاكرتي بإيجاز أنه كان في صيف ذلك العام يستجم بين دمشق وبعض مصايف لبنان، ولا يعرف عن أمر المهرجان شيئا، وترامى إليه أن السفارة العراقية في دمشق تبحث عنه (أظنها كانت مفوضية يومئذ) ولما اتصل بها أعلموه أن حكومة بغداد قد اختارته لتمثيل العراق في مهرجان المعري.

          أفاض الجواهري في ذكر تفاصيل ما جرى بعدئذ وأفهم الحضور أنه فوجئ بالأمر وخصوصًا أن المدة الباقية أمامه كانت قصيرة. كما أشار إلى أن اهتمامه حين يشارك بمثل هكذا مهرجان ينصرف إلى معرفة أسماء الشعراء المشاركين، منوهًا إلى أنه كان يحسب حساب بدوي الجبل أكثر من غيره من الشعراء. (بقية ما أذكره من الحديث ليس مكانه هنا).

          في الختام، حبذا لو يعمد الأستاذ فاروق شوشة إلى تقديم المعري في مرآة الجواهري، ثالث الشعراء الذين استعادوه في مهرجانه الألفي. ثم يفرد حلقة إضافية من «جمال العربية» لاستعراض المحاولات الثلاث لا لشيء إلا لإبراز قسمات «جمال العربية» كما رسمتها أقلام شعرائنا الراحلين.

          أما أنا فأكتفي بما سمعته بالأمس القريب من صديق يعرف ما قاله الأستاذ طه حسين بعد أن انتهى بدوي الجبل من إلقاء قصيدته - بعد الجواهري وأبي ريشة:

          لقد فاتَ الأرنبُ.. (أي أنه سبقهم جميعًا).
-----------------------------
* كاتب من سورية.

------------------------------------------

أتدري بماذا تموت الأمم؟
                              وما دربها لمدار العدم؟
إليك وصايا إله العدم 
                              لأتباعه في زوال الأمم:
بداء التلون والانكفاء
                              وترك القيادة للأدعياء
ووصف الطواويس بالكبرياء
                              وحمل المباخر للأوصياء
وحمل الرءوس على الانحناء
                              وقطع العلاقة مع حرف «لا»

عبدالله العتيبي

 

 

غازي أبوعقل*