الكويت في الذاكرة التاريخية والإبداعية للسيَّاب

الكويت في الذاكرة التاريخية والإبداعية للسيَّاب
        

  • عاد السياب من الكويت وبين مكتنزات حمولته الإبداعية أربعة من نصوصه التي عدت مرتكزات أساس في تجربته الشعرية وفي ذلك ما يؤشر إلى أن الكويت منحته وقتًا متسعًا للتأمل.

          حين يوشك كل عام أن يودعنا، ويحلّ يوم الرابع والعشرين من شهره الأخير تتغشى أوقاتنا في راهنها لحظة أسى نستعيد فيها تلك الذكرى الأليمة لرحيل بدر شاكر السيّاب ( 1926- 1964م ) الشاعر الأهم في مسار الشعرية العربية المعاصرة، والذي كان منجزه خطًا ضوئيًا فاصلًا بين أفقين من تشكيل المشهد الثقافي العربي الحديث، مثلما كانت حياته مسارًا من المكابدات الإنسانية والفكرية والمكانية التي تلقفت وجوده ومواقفه.. وقصائده.

          1- إن ما كُتب عن هذا الشاعر الكبير يشكل مكتبة أدبية ضخمة لا يكاد يجاريها ما كتب عن سواه. ومع ذلك فلايزال في أفق التأمل القرائي ما لا يجف مداده ومدده. وقد اخترنا جانبًا بعينه له تنافذه مع كشوفات المكان وحضوره المؤشر لقيمه عنده، من خلال الاحتفاء بـ«الكويت» فاعلية مكانية لها مدلولها التاريخي والإنساني في السياق الذاتي لحياة السياب، وكذلك في منجزه الشعري.

          2- توزعت حياة السياب القصيرة (التي لم تتجاوز ثماني وثلاثين سنة) على جغرافية مدن عدة، فبين البصرة التي ولد فيها وعاش طفولته وصباه، والتاذ بها في سني عمره الأخيرة، وبغداد التي درس في جامعتها، وتوظف في بعض دوائرها، واشتغل محررًا في كثير من صحفها، عرفت مدن أخرى مرور خطى السياب وانثيالات مشاعره وقصائده وإن لفترات محدودة لتدخل في آفاق جغرافية أقداره المكانية. كـ «الأنبار» التي عين فيها مدرسًا بعد تخرجه في الجامعة، وطهران التي ذهب إليها مطاردًا، وبيروت التي دخلها شاعرًا معروفًا، والقاهرة، وروما، وباريس، ولندن، وقد زار بعضها بصفته الأدبية أو بحثًا عن أمل في شفاء لم يكتب له.

          وفي مآل واضح التأشير بتاريخيته ووقائعه والمتحقق الشعري الذي تهيأ لتجربته أن تعلنه، تبرز «الكويت» لتشير إلى حضورها في الحيز المكاني والإبداعي الذي كرست أقداره حصة دالة لها.

          ولغرض رصد ذلك الحضور المكاني وتجلياته في سياق تجربة السياب، لابد من العودة إلى مفكرة الوقائع واستعادتها، وهي تنص على أن السياب كان قد دخل الكويت مرتين، تفصل بينهما مدة تقارب الاثنتي عشرة سنة، وذلك ما يمكن تفصيله في الآتي:

          من إيران التي ذهب إليها، متنكرًا في زي أعرابي، وبقي فيها مدة شهرين وعشرة أيام - عقب انتفاضة أكتوبر في العام 1952م التي ثار فيها الشعب العراقي ضد مواقف حكومته الموالية للإنجليز آنذاك - تسلل السياب إلى الكويت، على ظهر سفينة كان قاعها قد سدت ثقوبه بالطين، ليهتف عند وصوله مهللًا: «لقد قهرت الخليج بسفينة مثقوبة».

          وبعد ستة أشهر من الإقامة في الكويت، بدا أنه لم يستطع أن ينسجم فيها - بفكره وسلوكه- مع العراقيين الآخرين الذين ساكنهم هناك، عاد إلى العراق معبأً بأكثر من حالة شعورية وإبداعية، فقد شهدت تلك المدة التغير الفكري الحاد الذي راح ينأى به عن رفاق الأمس من الشيوعيين ويقربه أكثر من الفكر القومي وحملته.

          وإذا كان ذلك قد شكل ملامح مرحلة جديدة في توجهات السياب السياسية والفكرية فإن ما شهده شعره لم يكن ليقل في كشوفاته عن ذلك، فلقد عاد السياب من الكويت وبين مكتنزات حمولته الإبداعية أربعة من نصوصه التي عدت مرتكزات أساس في تجربته الشعرية: «المومس العمياء» و«الأسلحة والأطفال» و«غريب على الخليج» و«أنشودة المطر». وفي ذلك ما يؤشر إلى أن الكويت منحته وقتًا متسعًا للتأمل ومساحة من الطمأنينة المكانية، ساوقها في أعماقه احتدام شعوري معبأ بأحاسيس وانهمارات بوح متدافعة، ليكتب شعرًا أكثر عمقًا في الوعي الذي يقوم عليه وفي جماليات التعبير التي يتفوه بها كذلك.

          3- بعد مضي ما يقارب أحد عشر عامًا وتحديدًا في 6 يوليو من العام 1964 عاد السياب إلى الكويت ثانية، ولكن دوافع الزيارة وظروفها كانت مختلفة هذه المرة، فقد نال المرض من كل شيء فيه، وجيء به إلى الكويت - التي سيقضي فيها مدة خمسة أشهر وتسعة عشر يومًا - علّ بارقة أمل بشفاء منتظر تحملها إقامته هناك.

          وفي هذه المرحلة يبرز دور إنساني مشهود له بالنبل والأريحية لرجل وشاعر كويتي جمعته بالسياب صلات إنسانية وأدبية عميقة، وذاك هو الشاعر الراحل علي السبتي (1935- 2008) الذي نجد من المهم بمكان أن نعرِّف به، فقد كان واحدًا من رواد الشعر الحديث في الكويت، حيث وضعه د.سليمان الشطي في كتابه «الشعر في الكويت» في فترة سماها مفصل الحداثة، فمعه - وكذلك أحمد العدواني- دخل الشعر الكويتي مرحلة الحداثة الشعرية، إذ كان السبتي أول من طرق بابها بقوة بقصيدته «رباب» (1955) التي تبدت بهذا الشكل الجديد الذي كانت له الصدارة في ستينيات القرن العشرين وما بعدها.

          لا يكاد يختلف أحد على أن شهادة السبتي عن ظروف السياب في تلك المرحلة لاتزال هي الأهم والأصدق، حيث يقول فيها: «لقد كان السياب صديقي وكنت قبل أن التقي به معجبًا إلى حد كبير بشعره. وعندما التقيته للمرة الأولى في البصرة ازداد إعجابي به، وأصبح بعد ذلك من أعز أصدقائي، ثم باعدتنا الأيام والتفرقة الجغرافية بين العرب. إلى أن جاء يوم وقع أمام عيني مقال منشور يتحدث عن السياب المريض الذي لا يحصل على العلاج الكافي، وأن طريق الموت يتسع أمامه. وقد هز مشاعري هذا المقال وتألمت كثيرًا على بدر، فكتبت بدوري مقالًا في مجلة «صوت الخليج» الكويتية طلبت فيه من وزير الصحة حينها أن يتبنى علاج السياب في أحد المستشفيات الكويتية.. وفعلاً اهتم الوزير بما جاء في مقالي، حيث اتصل بي طالبًا عنوان بدر للاتصال به. وبعد بحث واستقصاء علمت أن بدرًا كان يتلقى العلاج في مدينة درم البريطانية وقد غادرها إلى جهة مجهولة.

          أخبرت وزير الصحة بهذا، وأضفت أنني سوف أعلمه بأي معلومات جديدة عن مكانه فور حصولي عليها.

          وبعد فترة كنت في زيارة لمدينة البصرة وعرفت أن بدرًا يرقد في المستشفى الجمهوري، فزرته هناك، ووجدت حالته الصحية تدعو إلى الأسف. كان كشجرة يبست أوراقها ولا تحظى بأي اهتمام، فعرضت عليه الانتقال إلى مستشفيات الكويت».

          ويضيف السبتي أن السياب وافق على ذلك، فتم نقله وحيدًا إلى الكويت، ليجد باستقباله - فضلًا عن السبتي - ناجي علوش وفاروق شوشة، حيث أخذوه أولًا إلى مستشفى سالم الصباح، الذي تشكلت فيه لجنة طبية خاصة عاينت التقارير الطبية التي حملها السياب معه من أماكن علاجه السابقة في مستشفيات بريطانيا وبيروت والبصرة، تلك التي اتفقت على تشخيص وضعه المرضي بأنه مصاب بالشلل النصفي الذي حدث لسببين، الأول المرض المزمن، والثاني وراثي.

          مع مضي الأيام كان المرض يشتد على السياب الذي راح يتشبث بكل الوسائل علّها تنقذه مما هو فيه، وذلك ما استعادته ذاكرة السبتي لاحقًا، حين قال: «أتذكر أنني في أحد الأيام دخلت عليه وكان يردد كلمات يريد أن يكتبها على شكل قصيدة موجهة إلى الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، يستنجده فيها ليعينه على تحمُّل آلام المرض. كما كتب قصيدة أخرى رفعها إلى أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح، وهي في الحقيقة رسالة على شكل قصيدة يرجوه فيها المساعدة على إرساله إلى سويسرا لتلقي العلاج فيها. ولكن ذلك لم يكن ليجدي نفعًا فقد كانت خطى أيامه تغذ سيرها مسرعة إلى حيث تقف أخيرًا، ليموت السياب في يوم 24 / 12 / 1964، فيحمل السبتي جثمانه إلى أهله في البصرة».

          4- لم تنل الحالة المرضية التي أمست عصية على الشفاء من الدفق الشعري والعاطفي الذي راح السياب يعليه بأنفاس وجود إنساني يجادل به أقداره، وهو ما أشار إليه في واحدة من رسائله الأخيرة بقوله: «إن نفسي تتدفق بالشعر، لكنه يتدفق من ينبوع ألم عظيم ويأس» (من رسالة إلى أدونيس مؤرخة في 17 / 9 / 1964).

          وسوف تشخص وقائع إنسانية وإبداعية كثيرة تؤيد تلك الوجهة.

          لقد كتب السياب في هذه المدة من إقامته في الكويت ست قصائد أضافها إلى ديوانه الأخير «شناشيل ابنة الجلبي» واتفق هناك مع ناشر لبناني كي يقوم بطبعه، وذلك ما تم فعلًا، ولكن.. بعد وفاته.

          ويبدو أن السياب لم ينقطع عن كتابة الرسائل إلى أهله وبعض أصدقائه، ومن بينها الرسالة التي سبقت الإشارة إليها التي بعثها إلى أدونيس وقد جاءت - كما أشار السياب فيها - بعد انقطاع طويل للمراسلات بينهما. ولعل الأستاذ ماجد السامرائي الذي جمع رسائل السياب وقدم لها قد فاته أنها أرسلت من الكويت فذكر البصرة محلًا لإرسالها. إذ يذكر السياب فيها صديقه علي السبتي وما جلبه له من أخبار عن «ليلى» تلك الممرضة التي تعلَّق السياب بها وكتب لها واحدة من أواخر قصائده التي سوف نقف عندها لاحقًا. كما أنه ينقل في ختام تلك الرسالة تحيات السبتي لأدونيس.

          5- إذا كانت قصائد المرحلة الكويتية الأولى قد نالت نصيبًا طيبًا من الدرس النقدي الذي تمعن في قراءتها فلعل نصوص المرحلة الثانية تستحق كذلك أن نقف عندها، وهي - كما أشرنا سابقًا- قصائد ست وردت في ديوانه «شناشيل ابنة الجلبي» وشغلت الصفحات (704 - 723) من الجزء الأول لأعماله الكاملة التي أصدرتها دار العودة في العام 1971. والقصائد هي:

          - في غابة الظلام، وهي مؤرخة في 9 / 7 / 1964.

          - رسالة، مؤرخة في 3 / 8 / 1964م.

          - ليلة انتظار، مؤرخة في 5 / 8 / 1964.

          - نفس وقبر، مؤرخة في 10 / 11 / 1964.

          - «ليلى»، وقد وردت بلا تأريخ.

          - إقبال والليل، ولم يدون تاريخها ولكن ناشر الديوان نص على أنها آخر ما كتبه السياب.

          تتردد النصوص الستة على مساحة شعورية واحدة، لتؤشر إلى تجربة إنسان يكابد آلام وحدته وحنينه إلى أحبته وقسوة المرض والموت الذي يترصده. كما تمتاح من عالم الذكرى الذي كان السياب كثير التردد عليه في معظم مراحل تجربته الشعرية.

          وكان اشتياقه إلى عائلته الصغيرة شاغله، ليردد في أكثر من نص بينها اسم ابنه «غيلان»، وكذلك ابنتيه «غيداء» و«آلاء». كما يستحضر في رقدته خيالات زوجته «إقبال» فيناديها، مثلما فعل ذلك في قصائد سابقة كرّسها لموضوعة غربته: «غدا تأتين يا إقبال يا بعثي من العدم».

          ويبدو أن السياب صار يعرف أن مرضه ابتلاء وراثي، فيكتب في القصيدة الرابعة:

          لولا مخافة أن يعاقبني عدل السماء لعنت آبائي
          ولعنت ما نسلوا وما ولدوا من بائسين ومن أذلاء

          ومن اللافت في القصيدة الثانية أن تتداخل واقعتان عن رسالتين وصلتا السياب في تلك المدة، أولاهما كانت تلك التي أشرنا لها سابقًا، وقد أوصلها إليه صديقه الشاعر السبتي من الممرضة التي أشرفت على علاجه في بيروت، وكان السياب قد تعلق بها، وبنى على اهتمامها به تصورات حب رومانسي جارف، استعاده في قصيدة أخرى هي القصيدة السادسة، وجعل «ليلى» - وهو اسمها - عنوانًا لها. أما الرسالة الأخرى التي بثها مشاعره في المقاطع الأخيرة فيبدو أنها من إقبال زوجته.

          ولم تكن الذكريات بحضورها وقائع ومرتكزات رؤية عاطفية يستعيدها السياب في ما يخصه هي وحدها التي تمثلتها هذه النصوص، فقد أحالها الشاعر كذلك إلى مستوى من تبني فاعلية (تناصية)، تجعلنا في مآل التذكر لقصائد أخرى سبقتها للشاعر نفسه، من خلال تشكيل الفكرة التي قد يقوم بقلبها، لتساير الحالة الشعورية الراهنة إلى تكيف وجوده الإنساني فيها، وكذلك العبارة والمفردة. فحين يقول «في القصيدة الأولى»: «عيناي تحرقان غابة الظلام بحمرتيهما اللتين منهما سقر»، لا يمكن لنا إلا أن نكون في حضرة مطلع قصيدته «أنشودة المطر»: «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر»

          وحين يقول في القصيدة ذاتها: لألمح العراق مرغ القمر على ترابه البليل ضوءه الحزين، تذهب الذاكرة لتترنم بقوله: ألمح العراق يدخر الرعود.

          وحين يستذكر ابنه غيلان فيكتسي بوحه بالأسى، وهو يردد: ومقلتا غيلان تومضان بالحنين بأي حقل يحلمان؟ أيما نهر بعودة الأب الكسيح في قرارة الضريح»، فإن ما سبق له قوله في قصيدته «رحل النهار» عن عودة موفقة للسندباد من السفر وهو الذي يشخص ليواجه هذا الانكسار الشعوري الراعف.

          وهكذا فقد ردد السياب في نصوصه الستة وقائع من نصوص سابقة واستعاد أسماء «المسيح» و«السندباد» و«أيوب» وكذلك قريته «جيكور».

          وعلى مستوى جماليات التغبير وقيمه الفنية فإن هذه النصوص تستعيد معالم أساس في تجربة السياب، سواء في ما وردت عليه من معجمية لفظية مشبعة بالمشاعر، وهي سمة تميز عالية في تجربته الشعرية، أو في استخدامه أكثر من وزن شعري، أو حين يورد تلك النصوص عبر تداخل النمطين الشعريين السائدين (الشطران والتفعيلة) وما تساوق معهما من حرص بيِّن على التقفية. ليضع ذلك كله في نسيج من التكيف الشعوري والجمالي الذي حملته آخر تجليات بوحه الخالد عن كل ذلك الذي عايشه وتفاعل معه، وانفعل به، ليهتف:

          يا ليل ضمخك العراق بعبير تربته
          وهدأة مائه بين النخيل
          إني أحسك في الكويت
          وأنت تثقل بالأغاني والهديل
          أغصانك الكسلى... ويا ليل طويل
          يا ليل أين هو العراق؟
          أين الأحبة؟ أين أطفالي؟
          وزوجي... والرفاق؟.
------------------------
* شاعر وأكاديمي من العراق.

-----------------------------------------

إلى التي جعلت عيني لرؤيتها
                              سواحلا تتمنى عودة السفن
إلى التي أودعتني في ربابتها
                              لحنا يجدد شوق الروح للسكن
إلى الكويت أناجيها فتذرفني
                              على خدود الليالي دمعة الشجنِ

عبدالله العتيبي

 

علي حداد*