قراءة في إشكالات الترجمة الشعرية

  قراءة في إشكالات الترجمة الشعرية
        

«أمضي أيامي ولياليّ في معاقرة الترجمة، أرخص أنواع الأفيون في هذا الزمن اللايوصف».

عبدالواحد لؤلؤة

  • الكتابة - كما نعلم - يمكن عدّها مرحلة ترجمية أولى، ينقل من خلالها المؤلف بعضًا مما يجول في ذهنه، وخاطره، فيحييه، ويعجز عن نقل الباقي فيميته، بمعنى أنه يصطرع مع إمكانات اللغة اللامحدودة، وينسحق تحت وطأة تمنعها، وصلابتها.
  • ترجمة الشعر العربي القديم إلى لغات أخرى لن تكون سهلة أبدًا ومتأتية، مهما كانت براعة المترجم، ومهما كان إتقانه للغة العربية وللغة الأخرى التي سينقل إليها، ومهما كانت الشحنات الإنسانية التي قد يمتلئ بها النص المترجم.

          تعنى هذه الدراسة باستجلاء ظاهرة الترجمة الأدبية، وبالتحديد ظاهرة نقل النصوص الشعرية من لغة إلى أخرى، وما يحيط بهذا النقل من إشكالات تنبع من صعوبة عملية الترجمة، وما يكتنفها من عراقيل يرجع أغلبها إلى صعوبة أو استحالة التقاط رؤى الشاعر، وصبّها في نظام لغوي مختلف عن نظامها اللغوي الأول.

          سأحاول من خلال هذا البحث تناول الجوانب المتعلقة بصعوبة الفعل الترجميّ، وقصوره عن نقل الجذوة العميقة للنص الشعري إلى قارئ لا يجيد شيئًا من لغة هذا النص، مع تأمّل بعض من الإشكالات، أوجزها في ما يلي:

          - لماذا تعدّ الترجمة عملاً صعبًا ومتمنعًا إلى حد الاستحالة؟

          - ما أوجه الافتراق بينها وبين النشاط الإبداعي الأول: الكتابة؟

          - ما مدى قدرة المترجم على بلوغ ذرى الإبداع، وهو مضطر إلى تقمّص ذات المبدع الأول للنص، والتوحد مع كلماته؟ أو بعبارة أخرى هل الإبداع الترجمي وليد حرية وتحليق مطلقين أم أنه وليد حالة أخرى من الجبر والالتزام بما يقوله الآخرون ويستشعرونه؟

          أي أن الترجمة الأدبية تستثير معها حتمًا إشكالية العلاقة بين الإبداع بوصفه حرية خالصة وانقلابًا على جميع الأطر والثوابت، وبين النقل وما يستلزمه من قيود وضوابط، لعلّ أشدّها صرامة قيد الأمانة والوفاء النمطيّ لروح النص الأول.

          فما موقع المترجم من هذين الحدّين المصطرعين والمتناقضيْن دومًا، هل عليه أن يكون مبدعًا خائنًا أم ناقلاً أعمى آلي الحركات؟

          ولاستجلاء مثل هذه الإشكاليات لابد من تأمّل موضوعة الترجمة الأدبية/الشعرية نفسها، وملاحظة علاقات التشظي والانشطار بين النص الأصل والنص الفرع، أو بين كلمات المبدع الأول للنص/الكاتب، وكلمات مبدعه الثاني/المترجم.

          ولتبيان مثل هذه الأخطار المحيطة بأي فعل ترجميّ، لابد من استجلاء فعل الكتابة أولاً، والإحاطة بما يعتريه هو أيضًا من تمنع واحتباس.

          فالكتابة - كما نعلم - يمكن عدّها مرحلة ترجمية أولى، ينقل من خلالها المؤلف بعضًا مما يجول في ذهنه، وخاطره، فيحييه، ويعجز عن نقل الباقي فيميته، بمعنى أنه يصطرع مع إمكانات اللغة اللامحدودة، وينسحق تحت وطأة تمنعها، وصلابتها، فهو يسعى إلى تفجير طاقاتها، والتقاط أروع ما فيها، لكنه في سعيه الالتقاطي هذا سيجد نفسه مجبرًا على أخذ بعضها وترك بعضها الآخر، بمعنى أنه لن يقوى إلا على اختيار احتمالات قليلة، يشكّلها، وينظمها، في الوقت الذي تظل فيه احتمالات أخرى - هي حتمًا الأجمل والأبهى - متمنعة، ومتشرنقة في عالم الإمكان.

          وهذا ما نجد كثيرًا من المبدعين يتحدثون عنه صراحة أو ضمنًا في كثير من كتاباتهم، نجد مثلاً الكاتب العراقي «عادل كامل» يقول في كتابه: «علامات الكتابة»: «إننا نرفع الجبال بأيد واهنة، وإن الكاتب مهما كان يتمتع به من روية وبلاغة وصدق ليس أكثر من كلمة في لغة بلا حدود، إنه إشارة صمت في العدم الأبدي».

          وقبله يحدّثنا «جبرا إبراهيم جبرا» عن مثل هذا التمنّع على لسان كثير من شخصياته الروائية، ففي روايته الشهيرة «البحث عن وليد مسعود» يذكر على لسان أحد الأبطال قوله وقد وجد نفسه يومًا مضطرًا إلى الكتابة: «لو كنت موسيقيًا لهان الأمر عليَّ نسبيًا. ولكن ليس لي من عدة إلا الكلمات!».

          ويقول أيضًا هو و«عبدالرحمن منيف» في عملهما المشترك «عالم بلا خرائط» على لسان أحد الأبطال الذي اختارا له أن يكون كاتبًا يخوض معركته الوجوديّة الأولى ضد الصمت والبياض: «إذا كانت تلك الأشياء التي مرّت عليّ وكوّنت حياتي الماضية تبدو عند الكتابة بمثل هذه الصعوبة، فكيف إذا أردت أن أقيم عالمًا من الوهم والخيال؟ كيف أستطيع أن أخترع بشرًا وأحداثًا وأن أعطي لهؤلاء البشر أسماء ملامح، وأجعلهم يتكلمون ويفكّرون ويحلمون، وأن أجعل الأحداث تعني موقفًا وتقدّم فكرة؟».

          ويستطرد قائلاً أيضًا: «لقد كانت اللعبة من السهولة بحيث لا تتطلب سوى أن أبدأ، لكن مع كل بداية، مع كل بضعة حروف سوداء، تنشّق أمامي هوّة تزداد اتساعًا مادمتُ أحصر نفسي وأجبرها على الكتابة».

خواطر خصبة وإبداع ثان

          وفي هذه الأمثلة - وغيرها كثير - يتضح جانب مهم جدًا من جوانب عملية التخلق الأدبي، هو الجانب الذي يقف فيه المبدع أمام خواطره الخصبة اللامتناهية من جهة، وأمام رصيد لغوي خصب، وممتد من جهة ثانية، وما يرفضه وقوفه ذاك من ضرورة الانتقاء والتخيّر، فهو مجبر - كما أشرت سابقًا - على الانتقاء، مع عدم رضاه عمّا هو متحقق، وتطلعه دومًا إلى الاحتمالي، والممكن.

          ولذا تبقى الكتابة صعبة دومًا وممتنعة، ولكن صعوبتها هذه تهون أمام صعوبة فعل الترجمة، واحتباسه، وهذا لأننا لدى تأمّل هذين المفهومين، الكتابة والترجمة، سنجد أن أولاهما تعد عملاً إبداعيًا أولاً، ينبع من مرجعيات الواقع، أو من خيال المبدع، ويتأسس بعملية انتقائية، تغترف من رصيد لغوي ممتد، كلمات تنتظم في ما بينها، لتكون جسدًا لغويًا يفترض فيه أن يبلغ أقصى درجات الإبداع، والتأثير في المتلقي.

          أما الترجمة، فهي عمل «إبداعي ثان»، لا ينبع مباشرة من مرجعيات الواقع، بل ينبع من مرجعيات جسد لغوي بكر، هو جسد النص المترجم، ووجه الصعوبة الأكبر في عملية الترجمة يرجع إلى هذه المرجعية اللغوية، فالمبدع الأول للنص يقف أمام رصيد لغوي ممتد، وله أن يغترف منه ما يشاء، أما المترجم، فيقف أمام رصيد لغوي ضيق، واحتمالات محدودة، وعليه أن ينتزع من هذه الاحتمالات اللغوية الضيقة جسدًا لغويًا جديدًا، يفترض أن يتوافر هو أيضًا على حد أعلى من الإيحاء والتأثير.

          وبالرغم من كل هذا التمنّع والاحتباس فإن كثيرًا من الباحثين لم يروا في عمل المترجم مثل هذا التعالي والمكابدة الطافحة، بل رأوا فيه عملاً ضحلاً، وجهدًا تافهًا، بل جناية وجريمة في حق شعرنا العربي، ومن ذلك ما ذكره الناقد العراقي «عبدالجبار داود البصري» في بحث عنوانه: «جناية الشعر العالمي المترجم على شعرنا العربي» ذكر فيه أن السمتين البارزتين في شعرنا العربي القديم هما سمتا: الخطابية والموسيقى المتجلية في عنصري الوزن والقافية، وأنه لا يمكن تصوّر شعر يقوم بعيدًا عن هاتين السمتين، لذا عاب ظاهرة ترجمة الشعر العالمي ترجمات نثرية، وعدّها «واقعة» نزلت بساحتنا الشعرية العربية!

          وخصّ هذا الشعر العالمي المترجم بجملة من السمات والخصائص، أبرزها:

          - «الشعر المترجم يتخلى عن كل مظاهره الشكلية في لغته الأم، وكأنه أشبه بالدودة التي تخرج من صدفتها، أو قوقعتها، أو من البيئة التي كانت تعيش فيها».

          - الشعر المترجم حين يصل إلينا يكون قد قطع أشواطًا بعيدة عن واقعه، وجذوره، وأصبحت جمله الموحية غير موحية، وإشاراته البعيدة والمحببة للنفوس إشارات ضائعة، وصارت تضميناته محتاجة إلى الشرح والهوامش، وحل الغموض في رموزه وصياغته الأصلية محل الوضوح والإشراق».

          - «تضمنت مجموعات النصوص المترجمة مقدمات طويلة تتحدث عن فن الشعر عند الأمم الأخرى، وتمتدح نماذجه، وتشيد بها، وخيّل للقارئ أن هذه المقدمات تتحدث عن النصوص التي بين يديه، وهي حديث عن شيء آخر».

          أما ما يجنيه هذا الشعر المترجم على شعرنا العربي فيوجزه البصري في التنكّر للخطابية في الشعر، وعدّها عيبًا من عيوبه، فصار الشعراء يحاذرون أن يقال عن شعرهم إنه خطابي، وصاروا يقلّدون كتّاب القصة، والفن الروائي.

          إلى جانب التنكّر أيضًا لموسيقى الشعر، وتسميتها بالنظم، وتضاؤل القيمة النفعية للشعر، حيث سادت مبادئ الفن للفن، وليس الفن للمجتمع، مما يضرب ظاهرة الالتزام في الصميم، ومَن بقي من الشعراء ثابتًا عليها عُدَّ متخلفا.

          وبغضِّ النظر عما في كلام «البصري» من غلوّ وشطط - أثارًا كثيرًا من الانتقادات - فإنه يعكس واقعًا لا يمكن تجاهله، هو واقع ما تفترضه ترجمة الشعر من تصدّع، وانشطار، ومشقّة يعانيها المترجم، وتضيع كلماته في خضمّها، مهما بلغت قدراته، وبراعته في اقتناص أرقى الأساليب.

خصوصيات تتأبّى على النقل

          والأمثلة على هذا كثيرة جدًا، بعضها يرجع إلى خصوصيات النص نفسه، الذي يتأبّى على النقل، ويمتنع عن إسلاس قياده للمترجم نظرًا للفروق الجليّة بين اللغات المختلفة، واختلاف عبقرية كل لغة منها عن عبقرية اللغة الأخرى وأسرارها.

          وبعضها الآخر يرجع إلى أخطاء أخرى، يقع فيها بعض المترجمين بالرغم من اجتهادهم الدائم، وسعيهم إلى تقديم الأفضل.

          ومن النوع الأول - التمنّع المتولد عن النص المترجم نفسه - ما ذكره «عبدالفتاح كليطو» في كتابه: «لن تتكلم لغتي» حيث تحدّث عن مقامات الحريري، فوصفها بأنها «كتاب تقول كل عبارة من عباراته: لن يستطيع أحد ترجمتي! فكأن الحريري بذل أقصى ما في وسعه ليحمي كتابه، ويقيه من تسلّط لسان آخر، فمن يا ترى قد يقدم على ترجمة رسالة تُقرأ طردًا وعكسًا من دون أن يطرأ عليها تغيير، أو رسالة تقرأ من أوّلها بوجه، ومن آخرها بوجه آخر؟ ومن قد يتجاسر على ترجمة رسالة إحدى كلماتها معجمة، والأخرى مهملة، لقد قيل إن الحريري كان يهدف إلى إظهار براعته اللغوية، فشبّه بالبهلوان، لكن الأكيد أنه كان يهدف إلى استنفاد الإمكانات الكامنة في اللغة العربية، ونقلها من القوة إلى الفعل، والنتيجة أن مقاماته لا يمكن تصوّرها مكتوبة بلغة غير العربية، وبالتالي تستحيل ترجمتها».

          وهذا النوع من النصوص المتمنعة على الترجمة نجده في كثير من نصوصنا العربية القديمة، التي تعلو فيها سمة التكثيف اللفظي، والتركيز الشديد على طاقات الكلمات، وحمولاتها الشكلية التي من الصعب جدًا تحويلها إلى حمولات شكلية أخرى، تنصبّ في صميم لغة أخرى مختلفة عن اللغة الأصلية الأولى.

          ومثال ذلك ما ذكره المترجم العراقي «عبدالواحد لؤلؤة» في كتابه: «منازل القمر» هو أن أغلب اللغات الأوربية لا تفرّق بين «العم، والخال، والخالة، وابن العم، وابن الخال، وابنة العمة، وابنة الخالة، والنسيب، والعديل، والصهر، والحمو..وغيرها، هذه العلائق تثير مشكلات عند ترجمة بيت إلى الإنجليزية مثل:

«وقد لامني في حبّ ليلى أقاربي
                              أخي وابنُ عمّي وابنُ خالي وخاليا»

          وذكر أيضًا في هذا الكتاب كثيرًا من الألفاظ العربية التي لا نجد لها مرادفًا في اللغة الإنجليزية، يقول: «قد يستغرب القارئ أن ليس في الإنجليزية كلمة واحدة تقابل «سنبلة» أو «سنابل»، ولا يخفى ما لهذه الكلمة من ظلال المعاني والإيحاءات، التي هي قوام الشعر، ثمة كلمة «Ear» التي تفيد الأذن، كذلك تستعمل مع القمح أو سواه من الحبوب، فيقال: «Ear of com» لتفيد سنبلة القمح، ولكن كيف ننقل الإيحاء الجميل في كلمة «سنبلة» العربية بوساطة كلمة «أذن» الإنجليزية؟

          ومثلما نجد في اللغة العربية مثل هذه الألفاظ العميقة، المتصلة اتصالاً ثابتًا بتاريخنا وماضينا وجميع أزمنتنا الراهنة والسالفة، فإن في بقية اللغات ألفاظًا أخرى ترتبط أيضًا بتاريخها ارتباطًا وثيقًا، وتضج بحمولات أسطورية من المستحيل إيجاد مرادف دقيق لها في لغتنا العربية، ومثال ذلك لفظة «Faune» التي استعملها سان جون بيرس (Saint-John Perse) في بيته الذي يقول فيه: Son visage de faune والذي ترجمه «أدونيس» إلى: «وجهه الحيواني» فانتقده كاظم جهاد انتقادًا لاذعًا، وأشار إلى أن «Faune» ليس أي حيوان، بل هو إله الحقول!

حمولات أسطورية

          ولو ألقينا نظرة على قواميس اللغات الأجنبية - مثلاً - لوجدناها مليئة بمثل هذه الألفاظ ذات الحمولات الأسطورية النابعة من خصوصيات اللغة اللاتينية، والتي يستحيل إيجاد مرادف لها في اللغة العربية، فمثلاً نجد في قاموس اللغة الفرنسية ما يلي:

          - Centaure كائن خرافي نصفه رجل، ونصفه فرس.

          - Amphiptere حية مجنحة أسطورية.

          - Chimere حيوان خرافي له رأس أسد، وجسم ماعز، وذنب تنين.

          وهناك ألفاظ أخرى شديدة اللصوق ببيئتها المحلية، ومرجعياتها التاريخية، مثلاً:

          - Alicante نبيذ من إنتاج مقاطعة أليكانت بإسبانيا.

          - Aragonaise رقصة شعبية بإسبانيا في مقاطعة الأراغون.

          ومثل هذه الألفاظ كثير جدًا، وهو يحيل إلى مدى ما سيعترض المترجم من صعوبات وعراقيل يرجع أغلبها إلى ما تتمتع به كل لغة من خصوصيات، تحول دون انفتاحها المطلق والحميمي على بقية اللغات.

          ولا يكاد يخلو بيت شعري مترجم من مأخذ أو أكثر، نلاحظه عليه، إما أن يكون هذا المأخذ من قصور في أدوات المترجم نفسه، وإما من صعوبة الفعل الترجميّ في حد ذاته.

          والمعروف - لدى ترجمة الشعر العربي إلى لغات أخرى - أنه كلما كان الشاعر معاصرًا كان شعره أقل تمنّعًا عن الترجمة، وأقدر على الاحتفاظ بنضارته «لكثرة ما أخذ يتوافر فيه من صور وأساليب مشتركة بينه وبين شعر اللغات الأوربية».

          فترجمة الشعر العربي القديم إلى لغات أخرى لن تكون سهلة أبدًا ومتأتية، مهما كانت براعة المترجم، ومهما كان إتقانه للغة العربية وللغة الأخرى التي سينقل إليها، ومهما كانت الشحنات الإنسانية التي قد يمتلئ بها النص المترجم والتي من شأنها تيسير فهمه، وتلقّيه.

          ومثال ذلك بيت جرير الذي قاله في رثاء زوجته، والذي كان فائضًا بكثير من الحمولات الإنسانية الدافقة:

لولا الحياء لعادَني استعبارُ
                              ولزرتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ

          والذي ترجمه «رينيه خوام» (Rene Khawam) في كتابه «La Poesie Arabe» بما يأتي:

          Sans la honte, les pleurs m'auraient souvent rendu Visite,

          Et je me serais porte vers cette tombe ou tu gis,

          Car l'etre qu'on aime est toujours en notre souvenir,

          Et notre plus grand bonheur est de le revoir un jour,

          وواضح جدًا ما استجلبته ترجمة هذا البيت ذي المعاني الموجزة والمركّزة من ترهّل وإضافات كثيرة أفقدته سمة الشعرية والتأثير.

          وسأختار نموذجين من شعر المتنبي، يقول في أولهما:

أعز مكان في الدنى سرج سابح
                              وخير جليس في الزمان كتاب

          وقد ترجم هذا البيت إلى اللغة الفرنسية هكذا:

Le plus cher endroit au monde

Est la sele des chevaux errants

Et le meilleur de compagnons

Est le livre seulement

          وواضح جدًا ما بين الأصل والنسخة من فروق كثيرة، فالمتنبي يستخدم لفظة «سابح» وهي من الألفاظ العربية المرتبطة ارتباطًا صميمًا بالبيئة العربية البدوية، التي ترى في ضرب من عدو الخيل الكريمة ما يشبه السباحة، ولم يجد المترجم بدّا من استعمال الصفة «Errants» التي تعني المتحرك والمتنقل - إلى جانب الضالّ والمتشرد - فهو مضطر إلى استخدام الصفة مع ما يستجلبه حضور النعوت من ثقل وترهّل، يقضي على جمالية كثير من النصوص.

          وفضلاً عن هذا استخدم المترجم لفظة أخرى فائضة عن الأصل، هي «Seulement» التي يبدو أنه عمد إلى وضعها سعيًا إلى تحقيق بعض الانسجام الموسيقي بين «errants» و«seulement».

          والبيت نفسه ترجم إلى الإيطالية بالصياغة الآتية:

Sulla terra, Una sella vola il piu posto caro

E per sempere, il migliore mio compagnione e un libro

          ولا تختلف هذه الترجمة عن سابقتها من حيث الافتراق عن الأصل، وعدم بلوغ جذوته العميقة، فالمتنبي يستخدم لفظة «الدنى» بكل ما توحي به من شمول وإطلاق، وبعد زمني ووجودي عميق، أما المترجم فيستخدم لفظة «الأرض/terra» مع الفرق الكبير بينهما.

          كما أن المتنبي لا يستخدم ضمير المتكلم، فهو لا يقول: «جليسي» بل يقول: «جليس» بينما يعمد المترجم إلى إضافة ضمير المتكلم «mio compagnione» أي صاحبي، ورفيقي، ما يوحي بضيق الإيحاء، وانحساره في بؤرة الأنا دون أن يتجاوزها.

          ويقول المتنبي:

ولم أرَ في عيوب الناس شيئًا
                              كنقص القادرين على التمام

          فيترجم بالإيطالية أيضًا إلى:

Non vedo un difetto piu grave di non essere perfetti quando e possibile

          والفرق واضح بين كلمات المتنبي وكلمات المترجم. وكي لا أصادر حرية القارئ في التذوق والحكم، سأذكر نماذج أخرى من شعر المتنبي - بوصفه أكثر شعرائنا القدامى تمكّنا من زمام القول وتفجيرا لطاقاته - ترجمها المستشرق «Jacques Schmidt Jean» إلى اللغة الفرنسية في كتابه: «Al Mutanabbi, La solitude d'un homme»، وأترك له حرية تأمل الأصل والفرع، وملاحظة الفروق بينهما:

          يقول المتنبي:

وحيدٌ من الخلان في كل بلدة
                              إذا عظم المطلوب قلّ المساعد

          يقول المترجم على لسانه:

Seul et partout sans ami,

Quand l'objet que l'on cherche est sublime

Qui peut aider a l'attendre?

          ويقول أيضًا - المتنبي -

أذمّ إلى هذا الزمان أهَيْله
                              فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد
وأكرمُهم كلبٌ وأبصرهم عَمٍ
                              وأسهدهم فهدٌ وأشجعهم قرد

          ويقول المترجم:

J'en veux a ce temps pour les hommes petits qui'il engendre

Le plus savant d'entre eux n'est qu'un imbecile,

Le plus ferme, un sot

Le plus genereux, un chien, le plus clair voyant, un aveugle,

Le plus eveille, un leopard, et le plus courageux, un singe

          ويقول الشاعر:

إنّا لفي زمن تركُ القبيح به
                              من أكثرِ الناسِ إحسانا وإجمالا

          ويقول المترجم:

Nous vivons une epoque ou, pour la plupart des gens,

Faire le bien est simplement ne pas faire le mal

          والنماذج كثيرة جدًا ومن الصعب جدًا إحصاؤها، وعليه يمكن القول إنّ الترجمة الشعرية من أصعب المغامرات الكتابية، التي يمكن أن تعترض صاحبها، وهذا لما مرّ ذكره من اختلاف عبقريات الألسن، وامتياز كل لغة عن الأخرى بخصائص وبصمات بها وحدها تكتسب خصوصيتها، وتفرّدها، ولعلّ خير ما أختم به قول الشاعر الأمريكي «روبرت فروست» (Robert Frost): «الشعر هو ذلك الشيء الذي يضيع في الترجمة».
--------------------------------
* باحثة أكاديمية من الجزائر.

------------------------------------------

صنعاء والحب والتاريخ والسفر
                              وألف ألف زمان فيك يُختصر
جئناك نلتمس الرجعى لصورتنا
                              لما تعددت الأشكال والصور
نشكو لعيبان دهرا راح يقذفنا
                              في كل منحدر يتلوه منحدر
مضيعون وفينا كل هادية
                              وظامئون وفينا النهر والمطر

عبدالله العتيبي

 

بهاء بن نوار*