«حالة سقوط» أمة وحلم

  «حالة سقوط» أمة وحلم
        

          «حالة سقوط» لمحمود الورواري هي رواية قررت أن تعطيك نفسها بسخاء كامل منذ اللحظة الأولى، لا تحتفظ بسر، ولا تضفي غموضًا على المعنى أو تعدد المعاني إن وجد، إنها كتاب مفتوح بيُسر لقارئه، تستمد قدرتها على الإشباع المعرفي والجمالي من بساطتها، وكأنها تقارب - دون تعمُّد - آلية العمل الإعلامي التلفزيوني الذي يقوم به كاتبها والذي لا يخفى نفسه بدوره وراء شخصية أخرى. إنه شاعر أصابته آفة الترحال، كذلك هو مصاب بداء العنف الجنسي كما يصف نفسه وإن كانت مشاعره وأحاسيسه وأفكاره تتوزع على الشخصيات جميعها بحكم تقنية السرد التي اختارها، حيث يكون الراوي هو المتكلم المفرد وهو المخاطب، في آن واحد، واضعًا نفسه في موقع يشابه اليأس المطلق، فنحن اعتدنا أن يتحدث المرء إلى نفسه حين يقارب حافة الجنون حيث تلعب اللغة في تكرارها وخوائها وبخاصة مفردتي الخيبة والفجيعة، سواء في صيغة المفرد أو الجمع أدوارا مركزية. وهو تكرار أراه مستمدًا من فن «الأرابيسك» الذي تتكرر فيه الوحدات بانتظام ثابت لتنتج المعنى.

          وفي هذا العالم الفجائعي الذي تتواصل خيباته، (خيبات الراوي وخيبات الأمة) على خلفية من أشعار الصوفي جلال الدين الرومي نقف دائمًا على حافة الخطر، حيث يتأرجح كل شيء بين الحياة والموت، بين التوق إلى الخلاص والهزيمة المحدقة، بين المواجهة والنكوص، وإذا كان الزمان العربي واحدًا هو زمان الخيبة والفجيعة بامتياز، فإن المكان هو الوطن العربي بكامله، سواء حضرت عواصمه في الوقائع من القاهرة لعمان لبغداد أو بقيت في خلفية المشهد، بل إن المكان يمتد إلى العالم الإسلامي من إيران إلى أفغانستان، ويتحول «حمزة» صديق عُمر الراوي من القاهرة إلى مجاهد ضد الاحتلال الأمريكي الأطلسي لأفغانستان ويفقد ذراعه هناك، حيث يمر التعبير السياسي في المجتمعات التقليدية عبر الرمز والخطاب والفعل الديني، كذلك يفقد الراوي كفه لتكثيف دلالة الفقد من فقد الأوطان لفقد أعضاء الإنسان الذي تشوهه الفجائع ومع ذلك يبقى صامدًا.

          العذاب سمة رئيسة في هذه الرواية يمتد بدوره مثل الفقد من العذاب الرومانسي لدى ضياع الحب الأول، الذي يبدأ الراوي رحلته في الحياة من أجل استعادته حين يقرر السفر إلى الأردن متقصيًا أثر حبيبته «منى» بكل ما يحمله اسمها من معنى، والتي تزوجت رغم أنفها ونحن لا نعرف كيف فعل ذلك وهو فقير جدًا!

          وفي الطريق إليها يجد نفسه وجهًا لوجه أمام إذلال المصريين الفقراء الذين يسافرون من أجل لقمة العيش والمعاملة المهينة التي يتلقونها، وهو ما يستدعي حكايات الموت من أجل العيش حيث الإنصات المتعاطف الجيد لهمس الأصوات الخافتة المستغيثة.

          ومثل هذا العذاب ليس إلا مقدمة المعزوفة التي تقودنا إلى لحن جنائزي عميق الأثر ومخيف في وقعه حين يعود صديقه «محسن» من سجن أبوغريب العراقي وهو الصديق الذي كان قد التقاه في عمان دون سابق معرفة، فيساعده على لقاء حبيبته «منى»، ويعود «محسن» كائنًا مشوهًا عازفًا عن الحياة عاجزًا عن استعادة ذاته الأصيلة وقدرته على التواصل....

          وكان الراوي في فترة سابقة قد رد له الجميل مضاعفًا حين دخل إلى بغداد المحتلة ليلتقي بزهوة حبيبة محسن، تلك المرأة الاستثنائية التي أقسمت ألا تتزوج من حبيبها إلا بعد تحرير العراق، وهي أقرب ما تكون إلى حارسة المعبد في الأساطير، فهي تعمل في المتحف العراقي وقد شهدت عملية نهبه وبكت كثيرًا، لكنها لفرط صلابتها لم تفقد الأمل، وبحثت عمن يساعدونها لكي تستعيد ما جرى تهريبه من مقتنيات المتحف، وظل دفاعها عن تراث بلدها كأنما هو عملية توقيف لزمن النهب والخراب، وكأنها أرادت أن تهرب إلى القديم، لأن الجديد كله ملطخ بالدم.

          كأن «زهوة» التي تراجعت عن قرارها بتأجيل الزواج من حبيبها إلى أن يتحرر العراق - الذي هو اليد اليمنى للعرب - وذلك بعد أن أدت محاولته للانتحار إلى شلله وعودته للطفولة، كأنها تجسد سعي الروائي «باولو كويهلو» في روايته «محارب النور» التي تتناول العالم الداخلي للإنسان وتغوص في أعماقه للكشف عن قدراته الكامنة بما يؤهله لاجتراح المعجزات، شرط أن يؤمن هو بوجودها وهو لا يسمي المتأملين أو حتى الغارقين في ظلام أنفسهم بالفاشلين، بل هم «محاربو النور»، إنها هي محاربة النور ضد اليأس والخذلان، كما ينطبق على زهوة قول سميح القاسم «تسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم».. تقرر «زهوة» السنية أن تتزوج «محسن» الشيعي فاقد الذاكرة المقعد، ولكن الاحتلال والقوى الطائفية لا ترحمهم جميعًا حين تنفجر الخيمة التي يقيم فيها بعض أفراد أسرتها وتتعرض «زهوة» للتشوه الكامل لتقف رمزًا للعراق بكل جلاله ومأساويته، وتموت «وجد» شقيقة «محسن» التي تاجر بها شقيق زوجها في طهران فأخذت تكسب عيشها ببيع جسدها، بعد أن كانت رمزًا للحب والبراءة.

          ولعل الراوي شاء بموتها أن يتخلص من شعوره بالذنب تجاهها لأنها كانت قد عرضت عليه أن يتزوجها ولكنه رفض ضمنيًا، بل إن جسده نفسه رفضها في دلالة على الازدواج القيمي السائد في المجتمعات التقليدية والذي يمكن أن يتحول لمشاعر قوية وفعل لاإرادي.

          ثمة طاقة حنو متفجرة بين كل الشخوص الذين يلتقون الراوي في طهران.. وهو مذيع تلفزيوني مشهور يحيل مباشرة إلى الكاتب *و«رولا» اليسارية اللبنانية زوجة صديقه حمزة الغائب في أفغانستان وولديها نضال وأدهم ووجد الضائعة التي تعيش في بيت عمتها المتواضع «ومحسن» القادم من «أبوغريب».. والكل في حالة انتظار إيجابي لما لا يأتي انتظارًا لتحقق ذلك الحلم الغامض أن يتحرر العراق وأن يخرج الوطن العربي من حالة السقوط، حيث ظل الراوي مشدودًا لمتابعة أشكال السقوط في هذا الوطن الشاسع وعينه على مقومات النهوض في دفقات سردية متسارعة على خلفية اقتباسات شتى تفصح أحيانا عن شعرية الحياة في بعض التفاصيل، وتصعد أحيانا لتحيل الواقع إلى «فانتازيا»، ويتداخل الواقعي اليومي في السياسي، حيث نجد أنفسنا أمام روايات عدة في رواية، وتمنحنا المادة التراثية التي تقدم الفصول مفاتيح لعالمه البسيط الذي تحوله اللغة الفجائعية إلى ميلودراما وإن كانت بالغة الواقعية، وحيث تطغى لغة الغريزة أحيانا على لغة الحكي العقلانية.

          يسيطر التشيؤ على البنية الدلالية ومفتاح هذا التشيؤ هو الجمل الاسمية المهيمنة على السرد، فالجملة الاسمية للأشياء والجملة الفعلية للفعالية الإنسانية، والأخيرة محاصرة هنا بالاحتلال والعنف الطائفي والموت في سبيل لقمة العيش وفي سبيل الوطن.

          إن الرواية هي متعة فنية ذات قيمة معرفية لأنها تضيء لنا الواقع العربي، واقع الاحتلال والإذلال وكسر الإرادة الوطنية والتقسيم وشراسة الحدود.

          ولكننا وباستثناء التعليق على ما فعله بن لادن الذي اغتال أنوثة المرأة الأفغانية، ودمَّر تماثيل بوذا، لا نقع أبدًا على نقد لممارسات الجهاد ضد الاستعمار باسم الدين وما ينتجه من آثار سلبية، وكأن الراوي يصادق على هذا المعنى وذلك في مفارقة مع ختام الرواية، حيث تتلقى زهوة بعد أن قدم الراوي حكايتها على التلفزيون عرضا من أحد الخيرين في واشنطن لعلاجها مجانًا، وهو ما ضحكت منه زهوة بسخرية مريرة في إشارة ذكية لحقيقة أننا نعيش في دنيا معولمة، وأن الاستعمار شيء والشعوب شيء آخر، وهو على العكس تماما من رؤية الجهاديين الذين يرون أن كل المسلمين أخيار، وكل الأمريكيين والأوربيين أشرار، وذلك هو المصدر الأعمق للنزعة القومية الشوفينية التي ترى أن الوطن القومي هو تجسيد لكل الفضائل.

          تأثر الكاتب ضمنيًا بكل من «إحسان عبدالقدوس» و«نزار قباني» في استخدامه مفردات من قبيل ديناميت العيون أو أن تموت على بساط عيون بهذه الشراسة، أو بلكنة سرير، أو أنت الذي تركتها قطعة شوكولاته ملفوفة في ورق سوليفان.. إلخ.

          وبدت النساء في الغالب الأعم موضوعا لنزعة ذكورية متفاخرة تربط بين الرجولة والجنس، فشارع «ولي عصر» أهم فاترينة عرض نسائية في طهران، ولماذا المدن والشوارع والنساء أول ضحايا التحولات؟ وثمة علاقة بين أشجار المدن ونسائها.. إلخ.

          ثمة أيضا ثنائيات لا تلتقي وهي عدوة للحركة والتفاصيل مثل «التناقض بين فمك المبتسم دائمًا وكأنه حوى فرح العالم، وبين عيونك الحزينة دائمًا وكأنها حوت بؤس العالم، وشأن التناقض بين النهنهات وتعاطي الحزن سرًا».

          هذا إضافة إلى نزعة خطابية تتكرر كثيرًا اعتمادًا على المبالغة في الوصف و«سلمك للفراش الذي يقدمك بدوره لكوابيس تقتلك».

          كان بوسع الراوي - في حالة التأني أن يتعمق أكثر في الخلفية السياسية، عبر مزيد من التفاصيل الفنية، بدلا من الحديث المتكرر عن الفجائع والخيبات والانكسارات والوجع.. إلخ.

          خلط الكاتب بين نظام الكفيل في دول الخليج وبين العراق الذي كان نظامه يتباهى بعصريته وحسن معاملته للوافدين العرب وبخاصة المصريين، ولم يكن يطبق نظام الكفيل كما قيل في الرواية.

          وأخيرًا تحتاج عناوين الفصول والاقتباسات من جلال الدين الرومي إلى قراءة مستقلة، فهذه ليست إلا قراءة أولية لرواية تستحق أكثر.
----------------------------
* كاتبة من مصر.

------------------------------------------

مَنْ علَّم الأحزان طير الصباح؟
                              وهو مع الأفق طليق الجناح
هل المدى نفس المدى؟ أم ترى
                              في الأمر سر ما له أن يُباح؟
مَنْ حال ما بين الندى والزهور؟
                              وكاد للأحرف بين السطور؟
مَنْ زَهَّد الروض بأزهاره
                              مذ شبَّه الورد بلون الجراح؟

عبدالله العتيبي

 

فريدة النقاش*