الناقد الجائر.. العقاد ونعيمة نموذجًا

الناقد الجائر.. العقاد ونعيمة نموذجًا
        

          لعل أجمل كلمة قرأتها عن كاتب هي كلمة لأحد الباحثين في توفيق الحكيم، قال هذا الباحث إن مَن يراجع كتابات الحكيم من النادر أن يجد فيها كلمة كُتبت لغاية غير الحق. فهو أمين بدرجة لافتة للنظر، وأعظم ما فيه خاصية الصدق والرغبة فيه إلى حد أذى النفس والافتئات عليها. وقد قاوم في ذاته كل النزعات التي تجعل الصدق عملية بالغة الصعوبة.

          أما أقسى كلمة قرأتها عن كاتب آخر، فهي كلمة لأمين الريحاني في ميخائيل نعيمة، بعد أن قرأ له كتابه عن رفيقه في الرابطة القلمية جبران خليل جبران. قال الريحاني في رسالة إلى نعيمة نشرتها الصحافة اللبنانية يومها إن في جذع شجرة نعيمة سوسًا ينخرها وسيودي بها قطعًا إلى اليباس، وإنه برسالته هذه جاء يحذّره من أثر هذا السوس مستقبلاً على أدبه. كان نعيمة قد قسا على جبران قسوة بالغة في كتابه عنه، ولكنه تذرّع في ما كتب بما عرفه شخصيًا عن جبران، وكذلك بمستلزمات البحث العلمي. ولكن الريحاني ومعه جيش لجب من الباحثين والمثقفين ارتابوا في دوافعه، معتبرين أنه من الأساس كان يغار من جبران، ويكرهه، ويرى أنه أجدر منه بالشهرة التي نالها. فلما توفي جبران وعاد نعيمة إلى شخروبة في أعالي جبل لبنان، وجدها فرصة للنيل من منافسه، أو من عدوّه على الأصح، فكتب ما كتب عنه، وهو ما لامه عليه الكثيرون. ذلك أن الاثنين، جبران ونعيمة، شخصيتان أدبيتان مرموقتان تجلسان في تاريخنا الأدبي جنبًا إلى جنب، فهل إلى هذه الدرجة كان نعيمة «محشورًا» ليقول عنه ما قال، وليمضي حياته في ما بعد ينوّع على هذه السلبية تجاهه، ويعتبر أنه بكتابه عنه كان رءوفًا به، وأنه لو أراد تحطيمه لفعل؟

          ردّ نعيمة على الريحاني ردّا غاضبًا، يجده القارئ في كتابه «سبعون»، ولكن الكثيرين لم يقتنعوا بردّه، ولم يبِّرئوه من سوسه، والواقع أن الحق كان يعرف طريقه بسهولة إليه، على الرغم من أن ذلك لا يشيع في كتاباته التي تقطر رحمة وإنسانية.

          ويبدو أن السوس الذي نخر شجرة نعيمة نخر أشجارًا كثيرة في أدبنا المعاصر، أبرزها شجرة صديق صاحب «الغربال»، عباس محمود العقاد صاحب «الديوان». فإلى اليوم مازال قرّاؤه عاجزين عن تفسير مواقف نقدية ملتوية وغير مقنعة له، من أبرزها موقفه من أمير الشعراء شوقي. ألحق العقاد شوقي بشعراء مصر وبيئاتها في الجيل الماضي، أي بمجموعة من النكرات الشعرية، في حين أن شوقي قامة شعرية عالية تذكّر بالمتنبي وباقي فحول الشعر العربي القديم. الأبحاث الأخيرة تكشف أن العقاد وقف هذا الموقف الجائر من شوقي لسبب واحد وحيد، هو أنه كان يطمع في زعامة الشعر المصري والعربي لعهده، وبالسبق في ميدان التجديد الذي كان يأمل أن يكون جواده الذي لا يُلحَق. وهذا أمر واضح من نشره مجموعتين من الشعر أثناء الحرب العالمية الأولى لما كان شوقي، منفيًا في إسبانيا. ويبدو أن العقاد شعر أن الساحة الشعرية العربية قد خلت من فحلها شوقي الذي ظنه سيبقى بعيدًا نائيًا عن مصر وزعامة الحركة الشعرية، وأن هذه الساحة قد تهيّأت له. إلا أن عودة شوقي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى صدَّعت آماله وفاجأته مفاجأة غير سارّة، فكانت هذه الفصول التي تفيض بالكراهية لشوقي ومذهبه في الديوان، وما صدر بعدها من نقد، على الرغم من ظهور شوقي كشاعر وجداني كبير يحقق مطالب الرومانسية ومبادئ مدرسة الديوان خيرًا منها. وكل هذا يسم العقاد بالتحامل لأنه واكب هذه الفتوح الشعرية التي كان يقوم بها شوقي في العقد الأخير.

          طبعًا كان العقاد يشعر في أعماقه بجوره هذا، ولكنه كان يقول إنه يجوز للناقد من الصرامة أحيانًا ما يجوز للقاضي، وإن الحق يُحق له أن يخشن في موضع الخشونة، ويلين في موضع اللين، وهو قول غير بعيد عن «مستلزمات» نعيمة العلمية، وقريب جدًا من السوس الذي استدعاه الريحاني لتفسير نعيمة في ما كتبه عن جبران.

          على أن أبلغ ما سمعته في هذا الباب كلمة للدكتور محمد أركون، قالها لي ذات صباح في منزله بباريس ونحن نتحدث عن مناهج النقد. قال إن على الكاتب بوجه عام، وعلى الباحث بوجه خاص، أن يعمدا إلى تربية ما سمّاه بـ«الذهنيات»، وقد قصد أركون بذلك قهر الضعف والأنانية والكدر في النفس، وتعويد هذه النفس على الفضائل ومنها حب الحق والشهادة وكل ذلك يعيد «للكلمة» معناها الناصع القديم، فهي مشتقة من فعل كَلَمَ، أي جَرَحَ، أي أنها واقعة موقعها ونازلة منزلها بلا عسف أو جور. وكل هذا كثيرًا ما نفتقده في عالم البحث والنقد عندنا.

 

جهاد فاضل    




عباس محمود العقاد