الهُويِّة.. صندوق عجب

 الهُويِّة.. صندوق عجب
        

          ورد في المجلد الأربعين من معجم «تاج العروس» للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي: «الهُويِّة عند أهل الحق هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق»، كذلك ورد في «المنجد» ما مفاده أن «الهوية حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية..». اشتمال التعريفين على صفتي الحقيقة والإطلاق، منح سدنة الأنظمة (الحكومات) على مستوى المسكونة حق أن يطلقوا مسمّى «هوية» على البطاقة المحددة للتبعية الرعوية.. ضمن مسميات متفق عليها: البطاقة المدنية، شهادة الجنسية، وثيقة السفر، وصولاً للبطاقة التموينية. فإن تريثنا عند مسمى الهوية بمعناها السائد رسميًا وجدناها مفرغة من مقوّميها الأساسيين، الحقيقة والإطلاق، مادامت تتعاطى الشأن الإنساني، بصفته (الإنسان) كائنًا ينتمي لذاكرته المكانية قبل انتمائه المعيّن بوثيقة رسمية معترف بها، أو غير.

          تعريف الهوية معجميًا يحيلها بشكل أو بآخر لما هو عرفاني، في حين جاء دارجها أبعد ما يكون، حتى أفتعل توفيقًا بين الاثنين آخذ باستنتاجي أعلاه (الانتماء للذاكرة) وأجيزني أستفهم: هل الذاكرة هي الهوية؟!

          في معرض حديثها عن الجوع، تقول إميلي نوثومب وهي كاتبة بلجيكية معاصرة:

          - متى نعود إلى الديار؟!.. غالبًا ما كنت أسأل أبي- والديار هنا تعني.. اليابان.

          - أبدًا لن نعود.. يجيبني أبي، وكان القاموس (المعجم) يؤكد لي فظاعة تلك الإجابة.

          إميلي.. عاشت طفولتها في اليابان، أبوها يعمل في السلك الدبلوماسي.. تقول:

          «أبدًا كانت هي البلد الذي أقطنه.. بلد بلا عودة، اليابان كانت بلدي الذي اخترته لكنه لم يخترني أبدًا. كانت سمة لي بوصفي إحدى رعايا دولة أبدًا».

          ولأن ذاكرة الواحد تجلد صاحبها، تواصل إميلي «سكان أبدًا لا رجاء لهم.. اللغة التي يتكلمونها هي الحنين والعملة التي يتداولونها هي الزمن العابر».

          هذا عن يابانية الهوية بالمعنى العرفاني بلجيكيتها بالتبعية الرسمية، ماذا عن فلسطيني بتبعية رسمية إسرائيلية؟!

          .. تفرّقت عائلتنا الكبيرة أيدي فلسطين. فأصبح حالي والموت مع الناس نعاسًا.. حال ذلك الشايب الذي جاء فيه المثل: «ما أكذب من شاب تغرّب، إلا شايبًا ماتت أجياله»، فكيف بحالي وقد أمسيت أمسك بهذا المجد من طرفيه؟ ما تغرّبت ولم تمت أجيالي، بل هم الذين تغرّبوا وتركوني أموت وحيدًا.

          في خرافيته.. روايته الأخيرة المعنونة «سرايا بنت الغول» يردد إميل حبيبي بين صفحة ولاحقتها «ومشيت في درب الآلام»، الإحالة هنا على سيدنا عيسى (عليه السلام) والمراد لدى حبيبي أنه بصدد ارتياد المكان، استعادة للذاكرة.. الهوية. فإن أوضحت.. كان إميل فردًا في عائلة تتشكّل من أب وأم وثلاثة عشر إخوة وأخوات.. حين كتب سراياه جاوز سبعينياته.. وحيدًا بعدما غادره الإخوة والأخوات.. الأولاد والبنات .. ليتكاثروا في شتات عربي أو أوربي، أمريكي، كندي، أسترالي.. عشرات الأحفاد.. فضلاً عن الأصدقاء من أصحاب الكار.. «فمشيت في درب الآلام. شقّيت على معالم الصبا وأطلاله الباقية تلك التي تحوّلت عنا وتلك التي لم يبق أمام عيني منها سوى شجرة بلوط مستحيّة أو صخرة مستوحشة على شاطئ البحر أبت أن تستحي».

          يتابع «شعرت بالمسرة وبالحسرة في وقت معًا. غافلت شقائي وغبطت حالي على أنني قادر بعد على الخلو ببرّي وببحري وبسمائي وأن أخلد إلى معالم صباي بحواسّي الخمس جميعًا، وتحسّرت على زملائي الغائبين أنهم لا يستطيعون هذا الأمر إلا استغابة..»، وهو إذ يعتب ناسه الذين آثروا الرحيل متذرّعين بمقولة «لم يبق شيء نخسره» يأتي على ذكر أمه التي آثرت اللحاق بالكثرة من أبنائها وبناتها فاتخذت قرار المغادرة باتجاه دمشق بدءًا.. ويذكر عنها أنها أصرّت على اصطحاب جرن الكبّة معها على الرغم من ثقل وزنه في السفر والترحال، بعدما فقدت دولاب ملابسها ومرآتها في حالات شتات سابقة، عدا الجرن الذي لازمها منذ ليلة زواجها، وكأنها - وهذا استنتاج شخصي لي - اختصرت ذاكرتها المكانية.. هويتها.. في جرنها الحجري.

***

          بما أني باق في رحاب ما هو فلسطيني.. أذكر شخصية استعرتها كي أضمّنها رواية كتبتها في ثمانينيات القرن المنصرم.

          الرواية بعنوان: النيل.. الطعم والرائحة، والشخصية المعنية هي غرّاوي، تحريفًا عن غزّاوي.

          عودة لخمسينيات ذلك القرن المنصرم.. شلة شباب يطمح لأن يتعاطى الإبداع.

          فشكّلوا ملتقى ثلاثاء في واحد من مقاهي غزة، لقاؤهم يجيء ليلاً.. أحدهم، وهو غرّاوي يصل دائمًا متأبطًا حقيبة ليس على غرار الباقين، فكان مبعث تساؤل:

          - لماذا الحقيبة يا غراوي؟!

          - لحفظ الأوراق قيد الإبداع.. وكيلون المنزل.

          الكيلون الحديدي بحجم ذراع طفل ووزن كيلوجرام.. «لعل هذا سبب اشتقاق التسمية..» فإن وجّهت سؤالك لغراوي:

          - علامَ لا تستبدل قفل الكيلون بآخر حديث ذي مفتاح صغير خفيف الوزن؟!

          قال:

          - البيت أشبه بقلعة.. والباب دروازة.

          المعنى المضمن «الكيلون هوية المنزل».. حتى إذا ما وضعنا باعتبارنا بُعد المنزل وعزلته عند الحدود الجنوبية لغزّة، وإذا تذكّرنا امتداد ساعات ملتقى ثلاثائهم حتى وقت متأخر ليلاً.

          - أستعين بالكيلون أحيانًا.. أهشّ به الكلاب الضالة.

          انقلاب الأحوال.. وعندما آثر غرّاوي العمالة على الإبداع، تعاون مع المحتل الإسرائيلي، كوفئ - خوفًا عليه - بأن عيّن مراسلاً لجريدة يديعوت أحرونوت في برلين يسكن هناك حيّهم الدبلوماسي نازعًا عنه هويته العربية.. بيد أنه وهو يفعل ذلك أبقى معه كيلونه الحديدي. وضعه على مكتبه، نصب عينيه. ذريعته تجاه أيّما فضولي: «ثقالة ورق».. لكن حقيقة الأمر.. شيء مما تبقّى من هوية مضاعة.. عنوة أو اختيارًا.

***

          قبل عشرين سنة من الآن، كُلّفت بوضع كتاب عن المسرحي سعدالله ونوس بما اضطرني لمزاملته سكنه، وأنا أفعل واجهته قبل مفارقتنا لنا بسؤال: مَن أنت؟!

          عقد حاجبيه استفزازًا.. حدّق لي شزرًا لم يجب عن سؤالي مباشرة.. بعد يومين دفع لي حفنة أوراق.. مطلعها: «هذا سؤال شرس تستغرق الإجابة عنه عمر الإنسان كلّه»، سؤال فيه من الاستفزاز والمباغتة ما يجعل المرء يمد يده إلى جيبه، ليتناول على الفور بطاقته الشخصية..». الإحالة هنا - على الهوية بمعناها الإحصائي الرسمي (ضبط القطيع).. في وقت تابع ونوس كشفه عن هويته كما يفهمها: «إني مشروع دائب وقلق كي أكون فعّالاً في زمني وبيئتي.. ما فعلته حتى الآن لا يستوعب ما أريده..».. يضيف: لعله «الطموح العسير لأن أكشف في الكلمة.. شهادة على انهيارات الواقع، وفعلاً نضاليًا.. يغيّر هذا الواقع..». ينهي متسائلاً: «كيف أصوغ الكلمة الفعل، وكيف أنجز بالكتابة طموحًا مزدوجًا أو ربما متعارضًا..؟».. الاستنتاج الوارد بخصوص هوية سعدالله ونوس.. (مسرحي أصر على الكتابة ومواصلتها خارج السرب.. القطيع).

***

          التحليق خارج السرب.. مثلما أن تكون بعيدًا عن المسار العام للقطيع يعني أنك منبوذ إحصائيًا، ضمنًا، أو علانية، يعني أنك من مواطني «أبدًا».. أصحاب الهوية الملتبسة، ممن يصعب تعريف هوياتهم رسميًا، أو تصنيفها بما يسهل تثبيتها في سجلات رسمية، دون التسبب في إقلاق السياق العام.. عن هؤلاء المنبوذين تقول إميلي نوثومب: «أهل أبدًا هم المشيدون الكبار لعلاقات حب وصداقات وكتابات وصروح أخرى مؤثرة تنطوي على خرابها، غير أنهم عاجزون عن تشييد منزل، أو بناء مستقر، أو أي شيء قد يكون ملاذًا دائمًا قابلاً للسكن..».. بعد أسطر قليلة تستطرد:

          «.. أهل أبدًا.. يدركون منذ الولادة أن الحياة نقصان وضياع وخسران وتفرّق، وإذا ما وُهبوا عرشًا فإنما ذلك لكي يفقدوه.. يعلمون منذ سن الثالثة ما لا يدركه أهل البلدان الأخرى قبل بلوغهم الثالثة والستين..».. فسحة ورق محدودة.. تستدرك، «غير أن هذا لا يعني أن سكان أبدًا.. تعساء.. فما من شعب يضاهيهم بهجة. فتات النعمة يجعلهم غاية في السعادة، وميلهم إلى الضحك، إلى الاستمتاع، إلى التلذذ والانبهار - أضيف: إلى الإبداع - لا مثيل له على هذه البسيطة، ولأن الموت يسكنهم تزداد شهيتهم إلى الحياة حتى الجنون..».

          وإذ أزمع أن أختم.. أجزم بأن هواية إنسان ما إذا ما تملكته صارت هويته.. شأن صعاليك العالم طوال أزمانه القديمة منها والحديثة.

          فإن أجرينا توفيقًا مفتعلاً بين ما ذهبت إليه إميلي نوثومب حول قاطني «أبدًا» وشهيتهم للحياة حتى الجنون وجنون الإبداع لدى منبوذي الإحصاء.. بصرف النظر، استشهدنا بما ورد في خرافية حبيبي: «لم أجد منذ صغري وسيلة للترويح عن أعصابي التي وُلدت مشدودة سوى هواية صيد السمك، فأدمنت عليها إدمان الراهب على النبيذ المخزون في دنان ديره، ويحسبني معارفي مازحًا، وما أنا بمازح، حين أقول لهم إن مهنتي هي صيد السمك، وأما الأدب فهو هوايتي المحببة».. أزمع: هُويتي المصنّفة لي بصفتي أحد مواطني «أبدًا».
--------------------------
* روائي وناقد من الكويت.

------------------------------------------

ماذا جنيت لكي ألقى بقاسية
                              من الليالي أباري نجمها أرقا؟
لا ذنب لي غير حب قد خُلقت له
                              أريده أبدا كالنور منعتقا
أريده أنجما في القلب أحملها
                              حتى ترى في سماء الروح منطلقا
أريده مثل سيف النار متقدا
                              لا يعرف «البهرج» المصنوع والملقا
أريده غاية في القلب مبدؤها
                              ولا انتهاء لها ما خافق خفقا

عبدالله العتيبي

 

إسماعيل فهد إسماعيل*