قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

-------------------------------------------

          القصص المختارة تعبِّر عن أهم مشكلات العصر الذي نعيشه، كالظلم والسجن والزج بالناس في الزنزانات بلا حق (حجر الكلس)، مشكلة الجريمة والقتل والأطماع والأحقاد التي كثيرا ما تخرب الناس داخليا ومع ذلك يظل الكثيرون متسامحين حتى مع أعتى الجلادين الذين أذاقوهم المرارة (أرصفة العين)، والوجاهات الكاذبة وسرقة جهود الغير وانتحال خبراتهم وأعمالهم ونسبها إلى النفس (سرقة)، وطاحونة الحروب الأهلية القاتلة التي لا ترحم لا عمرانا ولا بشرا ولا امرأة ولا رجلا لا شيخا ولا طفلا (بقايا مدينة)، وجشع الناس وغياب الفعل الخيري حتى في أقسى الحالات درامية وشقاء (غادة من السماء). القصص الخمس استجابت بنسب متفاوتة للنظام الذي يفرضه فن القصة من احترام للزمان والمكان وبناء الشخصية وسرد محكم وتوفر قدر جيد من التخييل إضافة إلى الاقتصاد اللغوي الذي ميزها جميعها. وجاءت النتائج كالتالي:

  • المرتبة الأولى: حجر الكلس، أسامة عبدالقادر، الأردن.

          قصة صاحبها احترافي بأدق معنى الكلمة. في مكان مجهول، مجموعة من السجناء يعيشون ويموتون ولا أحد يعلم بأوضاعهم. الكثير منهم مات في ظروف غامضة. يعيشون وضعا وحشيا قاسيا. في حفرة لا يتلقون فيها أي شيء. فجأة يصطادون فأرا. تعلموا كيف يستمرون الحياة في مكان خالٍ وتحت الأرض، لا يصلهم أي شيء ولكنهم لم يفقدوا إنسانيتهم. يظلون يحلمون بالخروج من ضيقهم أو يخبرون أهاليهم أنهم لايزالون على قيد الحياة. يلقون القبض على الفأر ويربطون على بطنه حجرا كلسيا كتبوا عليه رسائلهم التي تحدد مكان وجودهم، ثم يضعون الفأر في غار يؤدي إلى الخارج وهو يأملون أن يصادفه أحد المارة.

          القصة جيدة جدا، وكما قلت يملك صاحبها كل الوسائل التي تجعله كاتبا متميزا، اللغة القصصية، الموضوعة المعالجة ذات الطابع الإنساني، والسرد غير الممل والعقدة غير المنتظرة التي تشد القارئ إليها.

  • المرتبة الثانية: أرصفة العين، إبراهيم الشاخوري، البحرين.

          قصة تركز على حاسة النظر لاستجلاء ما يتخفى فيها. في الجوهر تعالج القصة مسألة التسامح والظلم. انطلقت من محاورة بسيطة بين شخصين. كريس العضو في لجنة المصالحة في إفريقيا الجنوبية، العائد منها، وصديقه العربي. يقص كريس رحلته لصديقه ومشاهداته الكثيرة، من بينها قصة المرأة العجوز التي تواجه قاتل زوجها حرقا، وابنها برصاصة في الدماغ بشجاعة خارقة. وعندما يطلب منها أي قصاص أن تختار، تجيب بحزن. لا شيء. لا شيء سوى العودة إلى الغابة والبحث عن زوجها الذي أحرق أمام عينيها لدفن بقايا عظامه بما يليق به. فهي لا تحقد على شيء بعدما سرق منها القاتل كل شيء.

          القصة جيدة جدا. تناولت ظاهرة التسامح بشكل يشد القارئ إليه، واستطاعت أن تقول شيئا مهما بأقل الكلمات وأكثرها تعبيرا.

  • المرتبة الثالثة: سرقة، محمد العلوي، المغرب.

          رجل في المقهى يقرأ الجريدة ويأخذ الملاحظات. في الخارج الجو ممطر. رجل آخر ينتظر في الخارج تحت المطر. من الداخل يؤشر الرجل الذي يقرأ الجريدة ويشرب قهوته في الدفء للرجل الثاني لكي يدخل. يدخل مبللا بالمطر. اسمه خالد. يضع الملف أمامه. يتأمله الرجل الذي كان في المقهى، عنوانه: تجريم القانون سرقة المخترعات والإنتاجات الفكرية. يضع في جيب خالد بعض النقود. ويغادر الكاتب المكان ليركب سيارة فارهة. بينما يطلب خالد الذي جاء من قرية منعزلة تاركا وراءه أما مريضة، قهوة ويتأمل الكذبة الكبيرة.

          كاتب سارق. الرجل ينتحل اسم الكاتب الحقيقي. يشتري منه مقالاته ليعيش بها ويفرض اسمه إعلاميا. قصة تفضح بعض الممارسات اللاأخلاقية الموجودة في وسط المثقفين. القصة مختزلة جدا ولكنها استطاعت من خلال هذا الاقتصاد اللغوي أن توصل قضية من أهم القضايا الاجتماعية.

  • المرتبة الرابعة: بقايا مدينة، أنور محمد السراجي، اليمن.

          نص مختزل جدًا وبه إيحاءات كثيرة. غامض قليلا ويحتاج إلى قراءة احترافية تأويلية. يتحدث عن حالة خراب. مدينة في حالة موتها ليس بسبب الزلزال الطبيعي ولكن بسبب تدخلات البشر من ضحايا وجلادين. لم يبق فيها شيء واقفًا إلا بعض البنايات القليلة. وصف لغوي لحالة القيامة التي خلفتها الحرب. تبدو حربا أهلية من خلال بعض الإشارات والتلميحات. لا نعرف المكان وهو ما يعطيها طابع العمومية. لم تبق حية فيها إلا بناية على أهبة السقوط وطفلة تصرخ بعد أن ذُبحت أمها، والسارد الذي يحاول إنقاذهما.

          القصة رمزية كثيرا ولكنها تبقى جيدة إذ تدين العنف الكبير المسيطر. تحكم لغوي ممتاز لدى الكاتب. كما استطاعت القصة أن تقول الكثير من خلال عدد قليل من الكلمات ولا يوجد بالقصة أي حشو في اللغة وفي الصور.

  • المرتبة الخامسة: غادة من السماء، رشيد جهيد، المغرب.

          القصة تتناول موضوعات إنسانية مؤثرة. طفل كسيح. يخرج من الثانوية فتعلق رجله في فتحة إحدى بالوعات الشارع. يحاول أن يخرج وحده من ورطته، تحت المطر الكثيف الذي بلل ألبسته الرثة ولكنه لم يستطع. يمر الناس من حوله والسيارات ولكن لا أحد يتوقف عند قدميه وينقذه من مأزقه، إلى أن تمر بالقرب منه شابة، فتتوقف عنده. بهدوء وذكاء تنقذه من البالوعة. ثم تمنحه منديلا صغيرا معطرا وتطلب منه أن يمسح وجهه من الأمطار ثم تنسحب. يبقى مندهشا من جمالها وطيبتها وكأنها حلم. ولكن وجود المنديل في يده يؤكد له أن الغادة كانت حقيقة ولم تكن مجرد حلم هارب.

          القصة جيدة وبناؤها منطقي. لغتها جميلة. وموضوعتها إنسانية تبيِّن كرم الإنسان وجشعه أيضا. ولا يوجد فيها أي تعليق, فقد تفادت الدرس الوعظي المباشر. تدين الممارسات البشعة وغياب التراحم بين الناس من دون خطاب.

----------------------------
حَجَرُ الكِلس
أسامة عبدالقادر - الأردن

          كانوا يتصايحون من وراء قضبان زنازينهم الرطبة المصفوفة بجانب بعضها البعض، تلك التي دخلوها قبل سنين طويلة لم يعد يعرف أحد عددها بالضبط، منسيون داخل حفرهم القذرة لا يرون من الضوء سوى خيالات شحيحة ترتسم في ثنايا الظلمة الكثيفة، الوقت لم يعد موجودًا، فقد التهمته العتمة الكثيفة، حتى باتوا في قبرهم مجرد خيالات...

          كانوا ثمانية معتقلين، قضى منهم ثلاثة خلال الأعوام الماضية، أحدهم فقد عقله خلال أسابيع، وظل لصيقًا بالجدار يضربه برأسه مضربًا عن الطعام حتى قضى، والآخران ماتا ببطء من التعذيب والقروح والقرفصة المستمرة في زنازين لا تتجاوز المتر ونصف المتر في الارتفاع....

          وهم لا يعرفون من بعضهم البعض غير أصواتهم وحكاياتهم التي ينسلونها من كوى ذاكرتهم، ولا أحد يعرف عنهم شيئًا، فقد تم محوهم من ذاكرة الدولة منذ اعتقلوا قبل سنين، وزُجّوا في تلك الزنازين المبنية على عجل تحت الأرض، بفتحات تهوية بالكاد يمر منها ضوءٌ شحيح، بات ساعتهم التي يضبطون بها يومهم....

          - يا رجل خليني أشوف وجهك مرة وحدة بس....

          يقول أحدهم لأحد الحراس وهو يلقي له بصحن الخبز والماء، من خلال كوّة تخترقها بعض القضبان في أسفل الجدار الأمامي بالكاد يرى من خلالها بسطاره...

          - اخرس....

          يردّ عليه الحارس بتلقائية.

          يضحك آخر في الزنزانة المجاورة.

          - شوف بسطاره كأنك تشوف وجهه.

          يقول بينما تتعالى الضحكات من الزنازين الأخرى وهو يلقي في الصحون المعدنية على الأرضية.

          - ما لكم أكل اليوم... تفوووو....

          ويمضي بخطىً عجولة ليخرج وقد صفق الباب الثقيل خلفه.

          يسود الصمت للحظات...

          يصيح أحدهم....

          - يا خسارة البوفيه!!!!

          يعلّق آخر. يضحك الآخرون.

          - ضروري يعني لهالتعليقات السخيفة!!!

          - شو نوكل هلأ!!!! صراصير!!!!

          - منيح إذا بتلاقي!!!!

          وتتعالى الضحكات مرة أخرى....

          - هششششششش.... يصيح أحدهم..

          - ماذا؟؟؟؟

          - هششششششش.... يقول بنبرة عصبية...

          يصمتون جميعًا....

          يخيمّ صمت تقطعه سعلة أحدهم.

          تُسمع خشخشة ضعيفة...

          - فأر...؟؟

          يصيح أحدهم.

          - ولك اخرس لا يهرب!!!

          - دقيقة!!!

          يهمس آخر...

          - إنه قريب مني....

          - حاول أن تلتقطه.... كن حذرًا.

          - ششششششششش..... يقول أحدهم بينما يصغي إلى صوت الخشخشة الذي صار واضحًا وهو يقترب من الكوة التي في زنزانته، يمد يده اليسرى وقد باعد بين أصابعها ينصبها مصيدة. يصغي بتركيز شديد.. يزرّ على عينيه علّه يميز ظله أمامه....

          - .... فينتفض فجأة وقد شعر بخشونة شواربه تلامس كفه الخشنة فيقبض عليه بردة فعل خاطفة، فيصيح :

          - مسكته،،، مسكته...!!!! بينما يزعق ذاك المخلوق اللزج بين يديه ويتلوى محاولًا الهرب....

          فتعلو الهمهمات من باقي الزنازين....

          فيصيح أحدهم:

          - اوعى يفلت!!!

          - دير بالك!!

          - ابعتوا له الخرقة....

          - بسرعة!!! ..... يردّ بعصبية

          - كبير ولا صغير!! يصيح آخر....

          - وسط.... يجيبه وهو يمسكه بمهارة خشية أن يعضّه....

          - لا يعضّك... يقول أحدهم....

          - ابعثوا الخرقة يا جماعة،،، يقول هو بعصبية...

          تتطاير الأسئلة والتعليقات في فضاء العتمة بينما يتم نقل الخرقة من كوة إلى أخرى، حتى تصل إلى يده أخيرًا .

          يتناولها بينما يعض بقوة على شفتيه،،، يصنع منها شريطًا طوليًا بثنيات عريضة ويتأكد من أن الحجر الكلسي مثبت بشكل جيد داخلها ثم يربطها حول بطن الفأر ربطات عدة....

          - اربطها كويس.... يصيح أحدهم....

          - دير بالك.....

          - دقيقة يا شباب!!!

          - اهدأ!!!!... يرد بينما يحكم الربط ....

          - بوس لي إياه بالله عليك..... يصيح أحدهم.....

          - اخرس.... يجيبه ويكمل إحكام الربط.... ثم يرفعه من إبطيه أمام وجهه كأنه يحمل طفلًا حديث الولادة يتلوى ويزعق كثيرًا.... يحدق فيه يحاول أن يميز ظلاله الشاحبة...

          ثم يقترب من الحفرة المليئة ببرازه في طرف زنزانته.

          يغمض عينيه كأنه يحلم.

          ويلقيه فيها ليسمع تخابطه وفراره السريع ثم يصيح بكل سعادة:

          - تمت العملية بنجاح يا شباب.

          - الحمد لله.

          - مبروك ما أجاك....يقهقه أحدهم.....

          - الله ما بينسى حدا....

          ويستمر تبادل التبريكات.....

          - إن شا الله ينجح هالمرة.... يقول أحدهم...

          - الله يسمع منك....

          - بدها حلوان الشغلة. يصيح آخر. 

          ويمضي الوقت. أيامًا وشهورًا وسنينًا لا يعرفون من الدنيا غير بسطار الحارس.. وخشخشة الفئران وتكتكة العقارب. ينامون ويستيقظون يئنون ويضحكون يضجرون ويحلمون حلمًا واحدًا.

          ذات يوم.... لابد أن يلتقط أحد الناس ذاك الحجر الكلسي.... الذي حفروا عليه رسائل لذويهم يخبرونهم بأنهم معتقلون في سجن لا يعرفون اسمه.... ولكنهم أحياء وبخير....

----------------------------
أرصفة العين
إبراهيم الشاخوري - البحرين

          نظر في عيني، واقترب حاجباه من بعضهما حدّ الالتقاء، كانت شجرة الصنوبر تجثو وسط باحة مربعة من مباني قوطية بيضاء، مثل ملكة أسطورية تعزف حفيفاً يرتفع صوته كلما تقدّم بها العمر، وكانت المباني تفتح نوافذها لتنصت لتراتيل الربيع، وأنا خاشع يشاغبني خيالي ويعدو طفل الذاكرة في رأسي. شيءٌ ساحرٌ يشدّني لكل ما حولي قبل أن تباغتني رائحة العشب التي حملتها النسمات لأنفي، وسرعان ما أخرجني صوته وألقاني مرة أخرى بين حاجبيه الذين تباعدا قليلاً

          - كنتُ في جنوب أفريقيا قبل أسبوع

          - حقاً؟ كيف كان الجو هناك؟

          كانت إجابة سؤالي ابتسامة حاول دفنها تحت شفتيه. صمت لبرهة وغاب للحظات في ثمار الصنوبر الخشبية المتناثرة حولنا....

          - أحيانا نخطئ في الأسئلة، وأنا لا أقصد سؤالك تحديدا. كل الأسئلة من حولنا تحتاج لصبرٍ بحجم شجرة الصنوبر هذه، ومن يملك الصبر هو من يملك الإجابة. وسأعود لأذكرك بحديثنا لأننا نسيناه كما يبدو.

          كنت أستمع إليه وأنا غارق في جسر قديم فضحه سياج البوابة الحديدية، سحرني جماله وهو يمتد بين مبنيين قديمين علي ضفتي النهر. كان عقلي يفكر في أسئلة غبية، فكل ما حولني يجرني بعيدا عن الجالس جنبي. لاحظ شرود عيني فقال مبتسما:

          - أوه، خطفك الجسر إذاً، هذا الجسر مشابه في شكله تماما لآخر في البندقية، كلاهما بسقف ومغطى بالكامل وتلاحظ كيف أن النوافذ المسيّجة بقضبان الحديد تعود لمئات السنين. جسر البندقية كان يربط بين السجن وقاعة الإعدام، وكان آخر منظر يراه السجين وهو يتجه للنهاية، ولك أن تتخيل كمية الأحلام التي غرقت في أنهار البندقية، ولكن هذا الجسر هنا في كامبردج -وابتسم لبرهة- يربط بين مبنى المحاضرات وبين قاعة الامتحان...

          وهنا انفجر كلانا ضاحكاً، ثم صمتنا ولكنه سرعان ما أكمل

          - ما تحتاجون إليه في بلدك قد لا يكون الحديث وضوضاء الأسئلة، أحيانا كل ما نحتاجه هو أن نكون في نفس القاعة صامتين، تماما مثل عاشقين طاعنين في السن جمعتهما قهوة الصباح وعقود من الغرام، فجلسا وسط صمت مريح. الصمت المريح هو ما تحتاجونه. أحياناً يطاردنا الماضي، ومهما حاولنا الهروب والابتعاد عنه، يجدنا ويجهز علينا دون رحمة، ولكن ببعضٍ من الصمت يربض ذلك الماضي عند طرف القدمين قريباً وقريباً جداً لكنه لا يطالنا.

 

          لم أستوعب فكرته، فمن حيث جئت، يأكل الخوف أصابع الأرض، وتمطرُ السماء الغضب وتغصّ الغيوم بالدموع. هذا الجالس أمامي كتلة من الكلام الجميل الغير مفهوم، ولولا سحر المكان كنت غادرت. باغتتني نسمة هواء باردة أرسلت في ذراعي العاريين حرابا من الألم الجميل، كم سأشتاق إليه قريباً. 

          - أخبرتك أنني عدت للتو من جنوب أفريقيا، وكنت في محاكمة ربما تعني لك بعض تفاصيلها شيئًا، وسبب حضوري أنني عضو في لجنة المصالحة هناك 

          الحاحه في سرد قصته يرسل داخلي موجات من الغثيان. كل القصص غيبوبة لذيذة تستفيق منها حين يقرر ساردها الدخول بك في جدار الاسمنت، ارتطام لجزء من الثانية يكفي ليكسر الجدار أو يكسرك... 

          - كنت جالساً في المحكمة، وقبالي جلست هذه العجوز الطاعنة في السن، كانت في العقد السابع من عمرها، وهي تدلي بشادتها. في الطرف الآخر كان يجلس رجل بارد الملامح، وجهه خالٍ من التعابير وكأن الزمن لم يمر أبداً لا في عينيه ولا في جبينه، كان جالسا في اعتداد وبدأ يحرك طرف اصبعه في الوقت التي بدأت فيه السيدة الكلام. 

          صمتَ للحظة، وكانت الرياح تداعب خلصات شعره الإنجليزي الأبيض، وكنت أنا الفراشات الغافية على قميصه... 

          - كم أتمنى ان تستطيع رؤية عيني تلك السيدة، عيون صغيرة تأكلها سمرة وجهها المتفحم وتشتعل بشيء لم أفهمه، تعرف أني أقرأ الناس في عيونهم وفي جباههم، ولكني كنت أقف عاجزا أمام ناظريها، لأول مرة أحسّ بأرجل فراستي تتقلص وتتلاشى مثل الرمل في شفتي الرياح. وبدأت السيدة الحديث بصوتها المتقطع، وكانت الكلمات تتهادى في فمها ببطء، فالزمن لم يكن شفيقا عليها. كان جميع من في القاعة ينظر إلى يدها المرتعشة وهي تشير للسيد في طرف القاعة. .

          ( هذا هو يا حضرة القاضي، كنت في كوخي مع زوجي وابني حين طرق الباب، وفي اللحظة التي فتحنا فيها الباب انهال على زوجي بعقب بندقيته ليغرقه في حمام من الدم وتبعه من معه من الشرطة، وكان هذا -ورفعت يدها المرتجفة مجددا- هو من يأمرهم لهذا أظنه قائدهم. وتوجه لابني ووضع المسدس جنب رأسه وصوت واحد كان يكفي لتفور دمائه على حيطان كوخنا الخشبية، وهي لا تزال هناك فقلبي لم يطاوعني على مسحها. لا زلت أحضن تلك الحيطان كلما اشتقت لابني.) 

          نظرت لعيني كريس التي بدت ضعيفة وعارية كعيون طفل، فحديثه عن تلك السيدة كان أقوى مما يتحمل، وسألته كعادة اسئلتي الغبية، هل هذه قصة حقيقية؟  

          -نعم، أعرف أن ثمة هذه الحقول الشاسعة من السرد التي يضيع فيها طعم الحقيقة، ولكنني أخبرك الحقيقة فقط. الحقيقة التي كانت ترويها تلك السيدة كما أعيشها الآن. لعلك تظن أن تلك القصة حرّكت في الرجل الأبيض شيئا، أبداً! فلم تقف دمعة واحدة عند رصيف عينيه لتتاجر ولو ببعض الحزن المعلّب، فحقده كان يحتل كل فسحات ونواصي عيونه، لا أفهم كيف لرجل أن يطارد بشراسة انعكاس رسم هذه المرأة في عينيه ويكنسه بأجفانه البغيضة...  

          - ( بعد أسبوع عاد نفس الشخص ومعه بقية الشرطة، وهذه المرة أخذوا زوجي، وبقيت أبكي وأحضن دماء ابني لأيام وكان قلبي يخبرني أنهم قتلوه حتما، ولكنني كنت مخطأة، فقد جائوا بعد عدة أيام واقتادوني عنوة لداخل الغابة، وهناك رأيت زوجي مقيدا وهو ملقي على الأرض، لم تمنعني حالته من الشعور بشيء من الفرح، فيكفيني أنه حي وأنني استنشق بعضا من الهواء الذي تنفسه. وعندها بدأ الجنود في الضحك وهم يسكبون البنزين عليه ليشعلوه، وأحرقوه حياً أمامي. ) ... كان الزمن متوقفا يا إبراهيم، لم تتحرك عقاربه ولم تنقص أو تزد ثوانيه. كان الزمن جاثيا علي ركبتيه يصغي للسيدة، وأظنه مثلنا كان يحبس الدموع. 

          لم أستطع منع دمعة من الانسياب من عيني، ولكنني كنت ألاحق كريس بنظراتي، كنت أرى المحكمة وكل تفاصيل القصة في عينيه، وكنت أسمع الصمت وأرى التنهدات وأشم رائحة الغضب والحقد التي بدأت تنطلق بشراسة نحو الشرطي الجالس..

          - سألها القاضي ولماذا برأيك فعلوا هذا؟ أجابته بعد ان لملمت باقي كبيريائها... (صدقني لا أعلم... سمعت بعض جيرانينا يتحدثون عن رغبة البيض في طردنا من الأرض من أجل مشروعٍ ما، ولا أعلم ما إذا كان ذلك صحيحاً. ما أعرفه يا حضرة القاضي أن الأرض كانت دائما هي التي تملكنا، وحين أتى السيد الأبيض بدأ الناس يملكون الأرض!) سألها القاضي، وما هو القصاص الذي تطلبين؟

          أجابته (أن يأخذوني للغابة لعلي أجد بعض رماد زوجي لأقيم جنازة تليق به)..

----------------------------
سرقة
محمد العلوي - المغرب

          بدأ في تصفح الجريدة المفضلة لديه بعد أن سأل عن أحوال النادل و طلب منه إحضار مشروبه المفضل،الجو بالخارج ممطر قطرات كثيفة تنسدل على زجاج المقهى المطل على شارع رئيسي في المدينة.بحركة عفوية تمتد يده نحو الفنجان يرتشف منه رشفتين و يضعه في مكانه دون أن تغادر عيناه المقال،إنها عادته في القراءة ينغمس داخل النص قلمه بيمينه و مذكرة يرمي بداخلها كل ما وجده ملائما بين طيات المقال أو الخبر،إنها عادة.السيارات بالكاد بدأت في التحرك عابرة الشارع و خطوات متسارعة لمارة في اتجاه أشغالهم فهذا اليوم الأخير من أسبوع العمل و الساعة تشير إلى السابعة صباحا،المشهد من المقهى يبدو له معتادا في هذا الوقت وضع نظارته فوق الطاولة ثم حرك فنجان القهوة نحو فمه و هو يتفحص المنظر من وراء الزجاج .و بحركة مدروسة بيديه النحيلتين في اتجاه الشارع يدعو السيد الواقف كالصنم خارج المقهى للحضور ربما كان هذا الأخير في انتظار تلك الإشارة، لحظات قليلة و يجلس بجانبه بعد أن خلع معطفا يبدو أنه كان مبللاوضعه جانبا وابتسامة معبرة لا تفارق محياه.

          - كيف حالك اليوم سيد خالد؟ سأله و هو يضع الجريدة جانبا متابعا كلامه دون أن ينتظر إجابة -البارحة لم تأت لقد انتظرتك طويلا حتى غصت المقهى بالزبائن و أنت تعرف أنني لا أحبذ تلك العيون المملوءة فضولا و رغبة في اكتشاف المكنون.

          - نعم سيدي أعرف هذا جيدا،لكن أعذرني فلم أوفق في الحصول على مقعد بالحافلة الوحيدة التي تقل ركاب قريتنا.

          - طيب أرجو أن تكون قد انتهيت من كتابة البحث الذي اتفقنا عليه.

          - نعم نعم بكل تأكيد لقد أنهيته أول أمس رغم أنني كنت مريضا و منهكا من تلبية طلبات الوالدة المقعدة كما تعلم.

          وضع أمامه الملف الذي يحتوي على دراسة كاملة حول تجريم القانون سرقة المخترعات و الإنتاجات الفكرية.إلتقط النظارات و حرك رأسه بسرعة متصفحا الورقات الأولى من البحث،و بدون أن ينبس بكلمة أنهى فنجان القهوة ثم أخرج من جيبه بضع ورقات نقدية دسها في جيب خالد وخرج مسرعا. وضع خالد يده المرتجفة داخل جيب السترة و عيناه الذابلتين تتابع خطوات السيد الكاتب الذي خرج من باب المقهى ليضع جسمه الضخم داخل سيارة فارهة و ينطلق مسرعا. يحرك خالد رأسه في الإتجاه الآخر من طاولة جلوسه و يطلب من النادل أن يأتيه بفطوره المعتاد، يشعل سيجارة و يبدأ بنفث الدخان و عيناه مركزتان على تلك القطرات من المطر المنسكبة على الزجاج الخارجي للمقهى و ابتسامة مرسومة على وجهه تقول أشياء كثيرة.

----------------------------
بقايا مدينة
أنور محمد السراجي - اليمن

          ترتفع اخرى وتحط ثانيه بحركه ديناميكيه تكاد تُقرأ سرعتها على شاشة رسمت قطرات المطر المتطايره منحنى مداها في خطوات متداركه وحثيثه وكأنها تسابق بعضها في مهمة البحث عن المصير....

          هكذا إنطلقتُ أُسابق الشارع الأسود بعيدا عن خطوطه الصفراء التي تجمهرت على جانبي الخط حيث تبدو الصوره مشوشه بتتابعات قطرات المطر التي تتراشق من أعلى في إنسجام مع مثيلاتها التي تلهث خلفي وكأني هارب من المطر وإلى المطر غير أن مهمتي تكاد تكون بصورة أخرى وتفاصيل أقرب إلى الجو الصحو منها الى المشمس,

          استمرت المباني في التلويح نحوي على عجل وأنا أجد الخطى بعزيمة أكبر واصرار مُستبد بروح الضمير,

          معركة الطبيعه تبدو مفهومه غير أن معاركا اخرى كثيره تجر خلفها علامة استفهام وشهادة إزهاق لمولد الإنسانيه وشيخوخة الضمير على أكف جلاد أدمن أعماله المترعه بالظلم وجلد الآخر كهواية تجري فيه مجاري الدم كحالة إدمان مستعصيه على اطباء الإنسانيه ومحاكمها التي تقبع في قبو القوه على إستحياء من أنصاف اصحاب الحق والحقوق.

          نعم...

          استفاقت للتو نوبة الأفكار الشارجه وبدت اطلال المعركه القائمه بالإنحلال خلال الضباب الصناعي الذي طوته اصابعي بعناء غير آبهه بتلك الرصاصات التي تخترق جسدي مثل قطرات المطر التي تستتب في بحر رحب وواسع لمثل تلك الرصاصات التي يقف في وجهها جسدي وتذوب بعد الإختراق كمخلفات وقمامه ارميها خلفي لتخلد مزبلة من يطلقها في وجه وروح وجسد أتى لإنقاذ آخر طفله وعجوز وحمامه ذو جناح نبتت في مكانه ورده كآخر ماتبقى في تلك المدينه من ذكرى الحياه وأهلها ومحيطها....

          آثار الدخان والبارود ونقش أصابع الدبابات الخشنه ونشيد إستغاثات الاطفال المتوزعون في اشالاء متداخله بين ركام المدينه من الحي والصلب والدم والماء والهواء المستباح بكيمياء الجبروت والقوه,,,,

          بدت آخر المباني المتبقيه وكأنها تنحني على إحدى أعمدتها المكسوره تماما كتلك العجوز التي تستند على عصاها لكنها لا تقوى على الحراك في محاولة منها لسحب تلكك الطفله عن نصف الجسد لأمها المذبوحه وهي تصيح أمي أمي,,بينما تكاد الحمامه أن تواسيها بوردة ولدت عوضا عن جناحها المغدور في خضم المعركه من أجل الحق,

          هيا يابنيتي قبل ان تسقط علينا بقية العماره هيا .... تصيح بتقطع تلك العجوز قيل ان يتهلل وجهها المشقق بتلك الجروح وترى طلتي للتتأكد انني جئت كي أساعدهم لنشق طريقا في ضواحي تلك المدينه التي تحمل تاريخا مترعا بشيء من هذا أو ذاك.

----------------------------
غادة من السماء
رشيد جهيد - المغرب

          السماء في عرسها الشتوي الأخير, و الأمطار تطرق الشوارع و ثنايا الأزقة الضيقة و فوق الأسقف, أما الريح فتزمجر و تكنس المارة القلائل الذين تكبدوا عناء الخروج في هذا الجو, أما الشجيرات الضعيفة فقد انحنت تحت سطوة الريح في حفرها الموحلة... الفتى ذو القدم الكسيحة ينحدر من بعيد بلا مطرية في طريق عودته من الثانوية التي يدرس فيها ,لاشيء يداري به سطوة الجو و المطر سوى فروة شعره المتجعد و معطفه البالي .المياه أمامه عكرة و تنحدر كجداول غاضبة تبتلعها أفواه البالوعات الشرهة ...فجأة خطت قدم الفتى الكسيحة في الفراغ, ثم انزلقت داخل حفرة غطاها الماء العكر...حاول أن ينتشلها لكن بدون جدوى فكأنما شدت عليها كماشة من الحديد. نظر الفتى حواليه في أطراف الشارع المهجور وطفح وجهه بحمرة لا يدري هل هي من فرط الورطة التي وقع فيها أو من أثر الحمى التي أصيب بها أمس.

          تطلع إلى أحد المارة الذي كان يمرق مثل السهم, التفت إليه هذا الأخير ثم تابع انحداره...انتفض الفتى حنقا وخجلا و ضعفا, قدمه متشبثة بالحفرة و كأنها جدع شجرة قديمة بينما تابعت الأمطار طرق رأسه و كأنها تضحك ساخرة منه... لم يشعر إلا و شفتاه تنبسان في حنق و غيض:

          - تبا لها من قدم ملعونة !

          انتفض جسده الصغير وهو يحاول تخليص قدمه بدون جدوى, كما أن المياه الموحلة كانت قد اخترقت حداءه الشتوي و جواربه القطنية مما جعل برودة تسري في أوصاله و تشعره بالوحدة و الرغبة العارمة في الصراخ...ظل هكذا ردحا من الزمن و الأمطار تصفعه بلا هوادة , و بعض السيارات تمرق بجانبه وترشه بالمياه الموحلة جنب الطريق ... من الجهة المقابلة كان شخص ما يقترب باتجاهه غير أن اليأس جعله ينكفئ على نفسه ناظرا إلى الحفرة . فجأة رن صوت أنثوي :

          - يبدو أنك علقت هنا, دعني أساعدك..

          وبدون أن ينبس ببنت شفة , انتصب واقفا مما جعلها تنحني و تبدأ في تحريك قدمه برفق قبل أن تسحبها من الحفرة كالشعرة من العجين , ثم وقفت ووجها الصبوح ترصعه ابتسامة لم يسبق للفتى أن رأى مثلها إشراقا و عذوبة . وضعت يدها في حقيبتها الصغيرة و تناولت منديلا حريريا ومدته إليه:

          - امسح وجهك !

          تناول الفتى المنديل و عبثا حاول أن يرسم ابتسامة و للحظة ظن أنه يحلم. ودعته و أسرعت الخطو مبتعدة , و جدائلها السوداء تذروها الريح و تعبث بشذى عطرها الذي فاح في الأجواء..وضع الفتى المنديل في جيبه و قد تيقن أنه لا يحلم و تابع طريقه منتشيا و قد توردت وجنتاه.
--------------------------------------
* جامعة السوربون/ باريس.

 

واسيني الأعرج*