ثقافة إلكترونية: المحكمة الافتراضية.. هل تحقق العدالة للبشرية؟

 ثقافة إلكترونية: المحكمة الافتراضية.. هل تحقق العدالة للبشرية؟
        

          تخيل أن قاعة محكمة خالية إلا من قاضٍ، وربما مستشار له أو أكثر. ومع ذلك، فإن هذه الهيئة التي تجلس بدون شهود أو حضور ولا متهمين، تنجز مهام عدة، وتطلق أحكامًا بالبراءة، أو الغرامة أو بسنوات من السجن أو غيرها من العقوبات لأشخاص يبعدون عن المحكمة مئات الأميال أو أكثر. فهل يمكن لهذه المحكمة الافتراضية أن توجد في الواقع حقًا؟ وهل لمثلها أن تحقق العدل؟

          طبعا سؤال كهذا قبل عدة سنوات ربما يصلح ليكون مشهدا في قصة خيال علمي، أو حكاية من حكايات الخيال، لكن مع التطور المستمر لتقنيات تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال، لم يعد بالإمكان أن نستصعب تخيل أي شيء.

          ففكرة المحكمة الافتراضية فكرة تداعب خيال رجال القانون في الغرب منذ سنوات، لأسباب عملية محضة بينها تسهيل عمل القضاء وتسريع إجراءات التقاضي ووقت نظر القضايا، فلا ضرورة في هذه الحالة لانتظار موعد محدد لنقل الموقوفين إلى المحكمة. بل يمكن نظر أكثر من دعوى قضائية من ثلاثة سجون مختلفة مثلا في فترة زمنية وجيزة، إضافة إلى تقليل تكلفة الإجراءات التقليدية للمحاكمات وبينها نقل المتهمين من السجون إلى قاعات المحاكم والعكس.

          ومن المؤكد أن مثل هذا النظام الإلكتروني للمحاكمات قد يبدو ضروريا جدا في الكثير من مجتمعاتنا العربية التي تعاني فيها الجهات القضائية من تكدس ملفات القضايا التي يستغرق بعضها للحكم سنوات طويلة، أحيانا تتأخر لدرجة تؤثر في مفهوم تحقيق العدالة. لكن من المؤكد ايضا أن مثل هذا النظام القضائي الحديث يقتضي تجهيزات إلكترونية كثيرة تحتاج إلى ميزانيات وخبرات وكوادر في نظام الاتصال الإلكتروني والافتراضي قد ننتظر سنوات طويلة حتى نسمع عن إمكانية تحققها.

          أما في بريطانيا فقد دخلت التجربة حيز التنفيذ الفعلي، ومنذ العام 2009، حيث نجحت إحدى محاكم بريطانيا وهي محكمة «كنت» أن تصبح محكمة افتراضية بالكامل. وهذا يعني أنه يتوافر للقضاة خلال المحاكمات وسائل اتصال مباشرة، متمثلة في فيديوهات ودوائر اتصال مرئية عبر الكاميرات المثبتة في غرف خاصة مع أقسام الشرطة التي يوجد بها المتهمون حيث تسمع شهاداتهم في بث حي. ويستعين رجال الشرطة أيضًا بالبث الحي نفسه في إطلاع القضاة على أي تفصيلات تخص القضية، أو توجيه أي أسئلة للمتهمين والاستماع إلى أجوبتهم أو شهادات الشهود، وفي حالة وجود أي أطراف يهمها حضور الجلسات سواء كانوا المحلفين أو المحامين المترافعين عن المتهمين فلهم حق استخدام الوسائل نفسها.

          وهناك مثلا قضايا لا يستغرق البت فيها أكثر من دقيقة حين يقوم السجن المختص ببث شريط مصور لسيارة مخالفة لقوانين السرعة مثلا.

          وتقسم المحكمة الافتراضية في كنت إلى ثلاث دوائر هي محكمة المركز وشرق وجنوب، وفق التقسيم الجغرافي لأماكن وقوع الجرائم وأماكن السجون التي يتم فيها اعتقال المتهمين حتى موعد المحاكمات.

          وتتراوح التهم التي اعتقل بسببها أشخاص تمت محاكمتهم في المحكمة الافتراضية في كنت بين الغرامة في حالة تجاوز السرعات القانونية أو القيادة في أثناء تعاطي الكحول إضافة إلى احكام بالسجن على بعض تهم السرقة.

          وفي الولايات المتحدة تقوم الجهات المختصة بدراسة الموضوع في سبيل إيجاد هذه الوسائل الجديدة بهدف تعجيل إجراءات المحاكمات خصوصا أن عملية الانتقال بين السجون والمحاكم في الولايات المتحدة أحيانا تستغرق فترات زمنية طويلة بسبب طول المسافة وفي حالة تعدد جلسات المحاكمة تستغرق إجراءات نظر قضية واحدة فترات زمنية طويلة.

          ومع ذلك، ومع اعتراف الكثير من المهتمين بالموضوع بأن فكرة تعجيل إجراءات التقاضي ونظر القضايا هي أحد ابرز إيجابيات مثل هذا الابتكار الجديد لكن بعض من قاموا بدراسة هذا الاقتراح يرون أن العجلة وحدها لا تكفي لكي تكون مبررا، فإقرار مشروع كهذا من منطلق أن الهدف النهائي للقضاء هو تحقيق العدل، سواء استغرق الأمر وقتًا أو لم يستغرق، والتوازن بين الزمن وتحقيق العدل هو المسئولية التي تقع على عاتق أية هيئة قضائية او مؤسسة مختصة بتحقيق العدل، واتخاذ قرار بإدانة متهم أو ببراءته بشكل صحيح هو في حد ذاته غاية أولى وقصوى في اي نظام قضائي.

          من المآخذ الأخرى التي يأخذها المحللون المختصون في إجراءات التقاضي أن مثل هذا النظام قد يؤدي إلى حرمان المتهم من التعرف الشخصي على المحامي الذي يدافع عنه، ويرى هؤلاء أن فكرة أن يقوم المتهم بالحديث إلى المحامي الذي سيترافع عنه من خلال كاميرا على بعد مئات الأميال، وبلا معرفة شخصية مسبقة قد تقلل من الإحساس بالثقة بين المتهم ومحاميه، وفي غياب الحضور الجسدي للمحامي نفسه يمكن أن يؤثر ذلك على المتهم وعلى الطريقة التي يجيب بها عن اسئلة محاميه مقارنة بها في حالة وجوده أمام محاميه ويرى عينيه بشكل مباشر. خصوصا حين يقوم المحامي بالتعرف على بعض النواحي الشخصية من المتهم والتي قد يجد المتهم نفسه مضطرا للحديث عنها عبر كاميرا لشخص لا يعرفه من قبل.

إعادة تأمل نظام العدالة

          باختصار يرى المختصون أنه لا بد قبل بدء تنفيذ نظام قضائي من هذا النوع أن يتم استشارة جميع أفراد السلك القضائي وخصوصا المحامين باعتبارهم الطرف الأول في معرفة طبيعة عملهم ومدى تأثر كيفية أداء هذا العمل في حالة تنفيذ مثل هذا النظام الجديد.

          وهي الرؤية التي يرى المحللون المختصون أن الأولوية الأولى لأي نظام قضائي ينبغي فيه أولا وأخيرا أن تتحقق مفاهيم تنفيذ العدالة والتي تعرف بأنها: «رؤية إنسانية للمحيط الذي يعيش فيه كل فرد  شرط أن ينظم هذه الرؤية قانون وضعي يشارك في صياغتها الكل بعيدا عن التحكم بوصف «العدالة» عكس الظلم والجور والتطرف, والتاكد من تحقيق أهدافها المتمثلة في الانصاف والمساواة والتوازن وعدم التعدي وحماية المصالح الفردية والعامة، انطلاقا من جوهرها كمفهوم أخلاقي يقوم على الحق والأخلاق، والعقلانية، والقانون، والقانون الطبيعي والإنصاف».

          والحقيقة أن الأهمية القصوى من طرح مثل تلك المبادرات للنقاش هي إعادة تامل نظام العدالة في المجتمع، وإذا كانت النظم الغربية قد تبدو اكثر عدلا بالنسبة لمواطنيها فإن وجود الفقراء والمشردين في الطرقات، كما نرى في كثير من الأفلام الأمريكية، مثلا، يجعلنا نتساءل ما مدى تحقيق تلك المجتمعات بالفعل لمفاهيم العدل بالنسبة لمواطنيها؟

          وبالمثل فإن السؤال الأحق بأن يُسأل في مجتمعاتنا العربية التي تمتلك جميعا نظما قضائية متطورة، وتمتلك دساتير مصاغة بشكل نموذجي تقريبًا في غالبيتها العظمى، هو لماذا يا ترى انفجرت الثورات والانتفاضات والحركات الاحتجاجية في ارجاء المنطقة أخيرًا؟ وهل يمكن لمجتمعات تطبق فيها مفاهيم العدالة الحقيقية أن يشعر مواطنوها بالظلم؟ وبالتالي هل المشكلة في وجود منظومة قضائية اصلا؟ أم في وجود النصوص وعدم تطبيقها؟ أم لأسباب أخرى؟

          لذلك فحين نطرح فكرة سباقة مثل المحاكم الافتراضية والعدالة الافتراضية في مجتمعاتنا العربية يبدو أنها تحيلنا إلى أن المفترض اولا إعادة النظر في النظم القضائية المعمول بها في كل المنطقة العربية، والتأكد من كونها بالفعل تحقق جوهر العدل وهو توفير الحريات لكل المواطنين والمساواة بينهم بلا تمييز.

          هذا النقاش في الحقيقة موجود بشكل قوي في المجتمعات المتقدمة، على الرغم من تطور نظمها القانونية، وهو دليل على أن المراجعات ضرورية لأن هناك شواهد عدة لديهم تقول بأن هناك اضطرابا في توزيع الرفاهية على المواطنين، فما بالك بدولنا العربية أو غالبيتها؟

          وعلى سبيل المثال فخلافا للتصور الليبرالي المفرط لمسألة العدالة يقر جون راولز، وهو فيلسوف امريكي حظي بشهرة واسعة بعد نشره كتابا بعنوان «نظرية العدالة» في سبعينيات القرن الماضي، بإمكانية تحقق العدالة كإنصاف بشرط الإقرار بمبدأ «التعاون» كعنصر استراتيجي لتوفير الرفاهية للجميع، أي أن راولز يحث على تحقيق البعد الاجتماعي في عملية إنتاج الخيرات مادامت ستوزع بالتساوي على أفراد المجتمع (العدالة التوزيعية)، وبمعنى آخر فإن راولز هنا يضع «مبدأ التعاون» في مقابل «الروح الفردية»، وكما يقول أحد من تعرضوا لعرض الكتاب وهو عبدالرحمن بووشمة يقول: فإذا كان من نتائج التعاون توحيد الصفوف وتكامل الأدوار وإنصاف جميع الأطراف، فإن من نتائج الفردانية، التشرذم وطغيان الذاتية والأنانية على مبدأ المصلحة العليا، وعندما نتحدث عن تضارب المصالح فإننا نعني بذلك أن الأشخاص غير مهتمين أو مبالين بالقواعد التي يتم بها توزيع محصول تعاونهم من جراء تلهفهم لتحقيق أهدافهم، فكل فرد يفضل الحصول على الجزء الأكبر من هذه المزايا بدل الجزء الأقل، أي أن كل واحد يسعى إلى تحقيق مصلحته معتقدا أن مجهوده الخاص كفيل لبلوغ أهدافه وطموحاته وغاياته. ولهذه الأسباب وغيرها يتوصل «راولز» إلى ضرورة وضع مقاربة جديدة لمفهوم العدالة يتسنى من خلالها تحديد مبادئ أخلاقية وسياسية تشمل مختلف التصورات الممكنة لمسألة العدالة الاجتماعية وتكملها، بل ان العدالة كإنصاف، كما يرى راولز هي القاعدة التي ستضمن التوزيع العادل للخيرات وفق تصور أخلاقي ُيرضي الجميع، وذلك من خلال مبادئ العدالة الاجتماعية كما بلورها «جون راولز» والتي ستكون وسيلة فعالة لتوحيد الحقوق والواجبات داخل المؤسسات الأساسية للمجتمع، كما ستساعد على التوزيع السليم والمتكافئ للأرباح.

العدالة الافتراضية

          هناك جانب آخر لمفهوم العدالة الافتراضية ويختص بالجوانب القانونية للمعاملات الشخصية والتجارية بين الأفراد التي تتم على الوسائط الافتراضية، وبينها على سبيل المثال أعمال بيع وشراء الكتب والسلع المختلفة على الإنترنت، أو الإعلانات، ووصولا إلى استخدام برامج مثل «الحياة الثانية» الذي يقوم فيه بعض المستخدمين بعمليات وصفقات بيع وشراء، فيمكن مثلا لشخص افتراضي أن يشتري قلعة افتراضية، أو جزيرة افتراضية، أو مؤسسة أو عقارات، كلها افتراضية على اعتبار ان وسيط اللعبة أو البرنامج كله افتراضي، فهل يمكن أن تحدث خلافات قانونية افتراضية بين شخصين أو أكثر على صفقة من هذا النوع؟ وإذا حدث الخلاف فمبوجب أي قانون يمكن فض مثل هذا النزاع؟ هل القوانين الوضعية الواقعية أم أن هناك قوانين افتراضية خاصة تختص بحل مثل هذه النزاعات؟ هذا ما يطرحه مثلا كتاب Virtual Justice in Virtual Worlds، من تأليف جريج لاستوكا Greg Lastowka، ومن المؤكد أن الأمر هنا وفي النهاية سيحل وفقا لمنطق افتراضي بحت لكن الفكرة في الحقيقة تشير إلى أهمية الاهتمام بوضع تشريعات وقوانين خاصة بالفضاء الافتراضي.

          على سبيل المثال، وإذا افترضنا جدلا صحة وجود قوانين افتراضية لحل النزاعات القانوينة التي قد تنشأ عن المعاملات التجارية والاستثمارية الافتراضية في برنامج مثل «الحياة الثانية» Second Life، أو أي برنامج شبيه فإلى أي مرجعية جغرافية سيكون هذا القانون؟ بمعنى هل لأن البرنامج مصمم في الولايات المتحدة فسوف يتم تفعيل قوانين افتراضية شبيهة بما يتم على أرض الواقع الأمريكي من قوانين؟ أم أن الفضاء الافتراضي ينبغي أن تكون له قوانين عابرة للقوميات باعتباره وسيطا يعبر حدود الجغرافيا والقوميات؟

          بمعنى آخر حين ننتقل من مستوى لعبة افتراضية إلى مستوى التبادلات والتعاملات الاستثمارية التي تتم عبر المواقع الإلكترونية، فهل هناك قوانين تحكم هذا التبادل السلعي والتجاري الافتراضي؟ أم أن كل بلد له قوانين تحكم التعاملات الافتراضية؟

          المشكل الرئيس الذي يشير إليه جريج لاستوكا في كتابه «العدالة الافتراضية في العالم الافتراضي» هو أن الكثير من القوانين الخاصة بالفضاء الافتراضي وأغلبها يتعلق بحقوق الملكية الفكرية مثلا، هي قوانين مصاغة وفقا للواقع الحقيقي، وليس وفقا للواقع الافتراضي، بمعنى أن صيغة القانون التي ينبغي للمستخدم أن يوقع عليها قبل استخدام برنامج معين أو شراء سلعة ما إلكترونيًا، من وجهة نظر المؤلف، تبدو كصياغة للتعامل مع عملية قانونية واقعية لا تبدو مناسبة في كثير من الأحيان للصفقات الافتراضية، ويصفها المؤلف أحيانًا بأنها صيغ قانونية مخيفة خصوصا في حالة الامتلاك لا الاستخدام، بمعنى أن مالك الحق الفكري لبرنامج «الحياة الثانية» مثلاً، أو برنامج «حرب الطائرات» يضع صيغا قانوينة متعددة وحاسمة ومخيفة لمنع الاستغلال غير القانوني لبرنامجه، ربما بشكل مبالغ فيه. ووجه المبالغة كما يوردها لاستوكا هو أن مالك البرنامج يضع حقوقا للملكية لما ابتكره هو بالفعل ولما لم يبتكره مثل بعض تصميمات البعد الثلاثي لرسوم الكارتون مثلا أو تطبيقات أخرى متضمنة في البرنامج او اللعبة. يرى لاستوكا هنا مظهرا من مظاهر الاستغلال غير العادل، ويرى أن هذا العوار هو أيضا مستلب أو مستلهم من الواقع الذي تمور فيه العديد من مظاهر استلاب الحقوق واستغلال الأفراد بعضهم بعضًا واستيلاء البعض على حقوق الآخرين.

          والمعنى أن العدالة مع الأسف، على ما يبدو لاتزال منقوصة في الواقع الحقيقي وفي الواقع الافتراضي معا، ولايزال أمام البشرية الكثير من الجهد لكي تحقق معنى العدالة الذي تستحقه.

 

إبراهيم فرغلي   








المحكمة الافتراضية.. محاكاة للواقع ومحاولة لتنفيذ العدل الافتراضي





المحكمة الافتراضية قد ترسخ ثقافة وإجراءات قضائية جديدة





الممتلكات الافتراضية هل تخضع لقوانين الواقع؟





عقارات افتراضية وقوانين افتراضية





قاعات المحاكم الافتراضية مجهزة بكاميرات ووسائل اتصال حديثة