إرادة الحياة

 إرادة الحياة
        

          تحدث أرسطو في الفكر السياسي فصنف أشكال الحكم بين صالح وفاسد، واعتبر حكم الطاغية أحد أشكاله. نعرّج إلى فكر أرسطو لنفهم ظاهرة «البوعزيزية» ودوافعها، كنموذج معاصر للشخصية الشعبية الملهمة للثورات والتغيير، وليس كترف فكري متعالٍ، ونقرأ في مصنفه الرائد «في السياسة» أن المجتمع المسمى «دولة» أو «مجتمعًا سياسيًا» أخطر المجتمعات وأشملها. تناول أرسطو في الباب الخامس من مصنفه أسباب الثورات وفي طليعتها عدم المساواة وهي علة الثورات، كما أفرد فصلاً عن الحالة النفسية الباعثة للثورات وأسباب تلك الحالة. فكيف كانت الحالة النفسية لمحمد البوعزيزي وشعب تونس الخضراء؟ وهل قرأ بن علي، أو أي من الحكام العرب، أرسطو؟

          يُشهد لتونس بأنها أولى ثورات الربيع العربي في الألفية الثالثة، مع الإشارة إلى أن جموع اللبنانيين في 14 مارس العام 2005 سبقتها إلى الحراك الشعبي، وكرّست في ذلك اليوم أطرًا وأساليب جديدة للتعبير. فتجمهرت فئات اجتماعية عديدة ومتنوعة، وحملت شعارات ورسائل صريحة ومرمَّزة مجاهرة بطلب الحقيقة والعدالة والحرية. لكن رسالة تونس جاءت أكثر دويًا وتأثيرًا، وعبرت تخوم أقطار العالم العربي، وفعلت فعلها في إيقاظ الشباب من سباته، وبرهنت مدى فعالية التعبير المباشر والسهل في آنٍ، فتتالت الثورات منبئة بربيع زاهٍ لابد أن يؤتي ثماره، وإن كان العالم العربي يمر اليوم في مخاض عسير.

          تعرف الثورة التونسية أيضًا بثورة «الحرية والكرامة» أو ثورة «17 ديسمبر» أو ثورة «14 جانفي» أو ثورة «الياسمين». هي ثورة شعبية اندلعت أحداثها في 17 ديسمبر 2010 تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده تعبيرًا عن غضبه من وضعه المعيشي المأزوم ورفضه مصادرة عربته التي كان يبيع الخضار عليها. وقد توفي البوعزيزي إثر ذلك في يوم الثلاثاء 14 يناير، في مستشفى بن عروس، متأثرًا بحروقه البالغة. شهد هذا اليوم تظاهرة كبرى بشارع الحبيب بورقيبة ضمت أبناء العاصمة وضواحيها. وبالتوازي قامت تظاهرات في مدن أخرى. ولكن تظاهرة العاصمة كان لها الفضل الأكبر في فرار بن علي، عندما هدد المتظاهرون بالذهاب إلى قصر قرطاج الذي يقع في الضاحية الشمالية بالعاصمة، ووصلت هذه الأخبار إلى القصر الرئاسي، ما أدى إلى هروب بن علي بعدما صدح الأمر الشعبي بالرحيل: Degages. «رحل» بن علي، واستعادت تونس أنفاس الحرية، ويتحوّل البوعزيزي إلى أيقونة في الوجدان الجمعي العربي.

***

          ولم تتأخر «الطوابعية» التونسية عن تأريخ هذه اللحظة التاريخية في تاريخ العرب الحديث. ويسجل لها هنا ريادتها في التقاط الدلالة الرمزية لهذا التحوّل التاريخي، وتحديدًا في مجال التعبير عن آمال الشباب التونسي وتطلعاته. فبعد شهرين من قيام الثورة أصدرت أربعة طوابع للمناسبة. برزت الطوابع في مشهدية متناغمة متكاملة وحملت العناوين التالية: ثورة الشعب: تحيا ثورة 14 جانفي (يناير)، ثورة الحرية والكرامة، نحبك يا تونس

          ثورة الشباب
          ثورة الكرامة، الشهيد محمد البوعزيزي
          ثورة الحرية:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة
                              فلابد أن يستجيب القدر

          يستوقفنا شعار الثورة وهو مطلع قصيدة شاعر الخضراء العظيم أبوالقاسم الشابي التي نظمها في العام 1933 والوارد في النشيد الوطني التونسي. فهل تتناقض الدعوة التي نادى بها الشابي مع فعل البوعزيزي في إضرام النار بنفسه وفي إيقاد نار الثورة في العالم العربي في آنٍ؟ كلاهما تعبير عن إرادة الشعب المتمثلة برفض الذل والانعتاق من عبودية الأنظمة الشمولية والمناداة بالحرية والمساواة. نستذكر في المناسبة الجموع الثائرة، والصادرة التي رمز إليها طابع ثورة الشعب، ونكاد نسمعها تردد أغنية الفنانة لطيفة «إلى طغاة العالم» التي نظمها الشابي نفسه:

ألا أيها الظالم المستبد
                              حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنات شعب ضعيف
                              وكفاك مخضوبة من دماه
وسرت تشوّه سحر الوجود
                              وتبذر شوك الأسى في رباه

          وفي الذكرى الأولى لثورة الياسمين، صدر طابع حمل عنوانًا وحيدًا: «جميعًا لبناء تونس». ولعل هذا الشعار خير انعكاس لإرادة رسمية وشعبية موحدة تسعى جاهدة لبناء تونس الدولة العادلة التي تحلم بديمقراطية حقيقية متى حققت إنماء متوازنًا وفوق التعبير اللبناني. ونختم بالإشارة إلى أن «ست الدنيا»، مصر أصدرت بدورها العام في 2012 طابعًا بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الثورة حمل عنوان «ثورة 25 يناير». وبذلك تكون إرادة الحياة الكريمة التي أزهرت في أكثر من قطر عربي قد برعمت طوابع تذكارية في كل من تونس ومصر. ونأمل أن تعرف مسارها نحو بلدان عربية أخرى أينع قطاف ثوراتها أو يكاد.
----------------------------
* كاتبة من لبنان.

 

هدى طالب سراج*